الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
من أعظم النعم التي أنعم
الله بها على بني الإنسان نعمة السكن، تلك الأماكن التي خصَّ الله بها
الإنسان فستره عن الأبصار، وملَّكه الاستمتاع بها، وحجر على الخلق أن
يطلعوا على ما فيها من الخارج، أو يدخلوها بغير إذن أصحابها؛ لئلا يهتكوا
أستارهم، ويتعرفوا أخبارهم، ولأجل أنها نعمة عظيمة فقد امتن الله بها على
بني آدم: {والله جعل لكم من بيوتكم سكنًا وجعل لكم من
جلود الأنعام بيوتًا تستخفِّونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها
وأوبارها وأشعارها أثاثًا ومتاعًا إلى حين} [النحل:80].
وإنما
سُمي البيت مسكنًا لأنه محل الارتياح والسكينة والاطمئنان والاستقرار
والأمان؛ فالبيت هو آخر ملاذ لصاحبه، فإذا فقد السكينة فيه فأين يذهب؟
ومن
تأمل أحكام الإسلام السامية وآدابه الراقية في باب احترام خصوصية الناس،
ومراعاة حرمة البيوت فسيدرك أننا متخلفون عن الإسلام، كما سيدرك شدة غربة
الإسلام بين الخاصة فضلاً عن العامة.
ونحن
بحاجة شديدة للتعرف على آداب الاستئذان والعمل بها رفعًا للحرج عن أنفسنا
وعن الناس، لاسيما في هذه الأزمنة التي قلَّ فيها العلم وقلَّد الناس – أو
كثير منهم – الكفار في عاداتهم ونظم حياتهم.
وإذا
كان عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قد شكا في زمانه أن أكثر الناس لا
يعملون بآية الاستئذان، وإذا كان سعيد بن جبير رضي الله عنه قد قال: "إن
ناسًا يقولون: نُسخت هذه الآية (آية الاستئذان)، لا والله ما نُسخت،
ولكنها مما تهاون بها الناس"، فماذا نقول نحن في زماننا هذا؟!!.
معنى الاستئذان:
الاستئذان في اللغة هو طلب الإذن، والإذن من أَذِنَ بالشيء إِذْنًا؛ بمعنى أباحه، وعليه فإن الاستئذان هو: طلب الإباحة.
أما في الشرع فيعني: طلب الإذن في الدخول لمحل لا يملكه المستأذن.
حكم الاستئذان:
والاستئذان
واجب على الناس إذا بلغوا الحلم، إن أرادوا دخول بيوت بعضهم، ولا يجوز
للإنسان أن يدخل بيت غيره بدون إذنه لقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خيرٌ لكم لعلكم تذكرون} [النور:27].
وذكر المالكية أن الاستئذان واجب وجوب الفرائض، فمن ترك الاستئذان فهو عاصٍ لله ورسوله.
صفة الاستئذان:
الأصل في الاستئذان أن يكون باللفظ، وصيغته المثلى أن يقول المستأذن: السلام عليكم، أأدخل؟
فعن
ربعي بن خراس قال: حدثنا رجل من بني عامر قال: إنه استأذن على النبي صلى
الله عليه وسلم وهو في بيت فقال: أَلِجُ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم لخادمه: "اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان، فقل
له: قل: السلام عليكم، أأدخل؟ فسمع الرجل ذلك من رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال: السلام عليكم أأدخل؟ فأذِنَ له فدخل.
فإن أذن صاحب الدار دخل وإن أُمر بالرجوع انصرف؟ لقوله تعالى: (وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم} [النور:28].
الاستئذان ثلاثاً لا يزيد عليها
وإن
سُكِتَ عنه استأذن ثلاثًا ثم ينصرف بعد الثالثة. روى البخاري عن أبي سعيد
الخدري رضي الله عنه قال: كنت في مجلس من مجالس الأنصار، إذ جاء أبو موسى
كأنه مذعور، فقال: استأذنت على عمر ثلاثًا فلم يؤذن لي؛ فرجعت، وقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "إذا استأذن أحدكم ثلاثًا فلم يؤذن له فليرجع".
فقال: والله لتقيمنَّ عليه بينة، أمنكم أحدٌ سمعه من النبي صلى الله عليه
وسلم؟ فقال أُبي بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم، فكنت أصغر
القوم، فقمت معه، فأخبرت عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك.
ولا
يزيد على الثالثة، سمعه أهل البيت أم لم يسمعوه. وإن سأله صاحب الدار من؟
أجاب باسمه الذي يعرفه صاحب الدار ولا يقول: أنا، لكراهة النبي صلى الله
عليه وسلم هذه الإجابة.
هل يقوم قرع الباب ونحوه مقام اللفظ؟
ثبت في
الأحاديث أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد أتى النبي صلى الله
عليه وسلم فدق عليه الباب ولم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فدل
على المشروعية. وقد ذكر العلماء أنه لا بأس بالاستئذان عن طريق ما تعارف
عليه أكثر الناس اليوم من دق الأبواب وفي معناه دق الأجراس، مع تحري صاحب
الدار ألا يكون في صوت الجرس موسيقى وألا يشبه جرس الكنيسة لنهي الشريعة
عن مشابهة الكفار، واستحبوا أن يكون الدق خفيفًا بغير عنف.
أين يقف المستأذن؟
ينبغي على المستأذن أن يقف على صفة لا يطلع معها على داخل البيت في إقباله وإدباره.
عن هزيل بن شرحبيل قال: جاء
رجل فوقف على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذن مستقبل الباب، فقال
له النبي صلى الله عليه وسلم: "هكذا عنك؟ فإنما الاستئذان من أجل النظر" [رواه أبو داود وصححه الألباني].
تحريم النظر في البيوت بغير إذن أهلها:
إن
البيت كالحرم الآمن لأهله، لا يستبيحه أحد إلا بعلم أهله وإذنهم في الوقت
الذي يريدون، وعلى الحالة التي يحبون أن يلقاهم عليها الناس، ولا يحل لأحد
أن يتطفل على الحياة الخاصة للآخرين سواء بالتنصت أو التجسس، أو اقتحام
الدور ولو بالنظر من قريب أو بعيد.
فعن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لامرئ مسلم أن ينظر إلى جوف بيت حتى يستأذن" [صحيح الأدب المفرد].
وعن
سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: اطلع رجل من حجرة في حجر النبي صلى
الله عليه وسلم ومع النبي صلى الله عليه وسلم مدري يحك به رأسه، فقال: "لو علمت أنك تنظر لطعنت به في عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر" [رواه البخاري ومسلم وغيرهما].
واستأذن رجل على حذيفة فاطلع في داره وقال: أدخل؟ فقال حذيفة: أما عينك فقد دخلت وأما إسْتُك فلم تدخل.
الاستئذان على المحارم:
بيَّن
المحققون من العلماء أن الرجل يلزمه أن يستأذن على أمه وأخته وبنيه وبناته
البالغين، وكذا عمته وخالته إن كانت تعيش معه في بيت واحد.
أطفالنا وأدب الاستئذان:
ذهب الجمهور إلى وجوب أمر الصغير المميز بالاستئذان قبل الدخول في الأوقات الثلاثة التي هي مظنة كشف العورات، قال الله تعالى: {يا
أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم
منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد
صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم و لا عليهم جناح بعدهنَّ طوافون
عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم} [النور:58].
وقد
كان أنس بن مالك دون البلوغ يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وكذلك الصحابة مع أبنائهم وغلمانهم. أما إذا بلغ الأطفال الحلم فعليهم
حينئذ الاستئذان كلما أرادوا الدخول.
تنبيه مهم:
إن
هذا التأديب الإسلامي الرفيع أمر يغفله الكثيرون في حياتهم المنزلية،
مستهينين بما ينشأ عن التفريط فيه من صدمات نفسية، وانحرافات سلوكية،
ظانين أن الصغار قبل البلوغ لا يتنبهون لهذه الأمور، في حين يقرر علماء
التربية وعلماء النفس أن وقوع عين الطفل على شيء من هذه العورات، أو
اطلاعه على هاتيك الأحوال، قد يترتب عليه معاناة نفسية، واضطراب سلوكي لا
تُحمدُ عقباه.
وهذا
يلفتنا إلى ضرورة حفظ تلك الأعين البريئة من كل ما يُلوِّث فطرتها النقية،
ويجني على صحتها النفسية، ويهدد استقامتها الخُلُقية، سواء في ذلك داخل
البيت أو خارجه، وسواء في ذلك أوقات العورات الثلاث أو غيرها؛ فالتفلت
والتسيب الذي قد تتسم به بعض البيوت؛ حيث يحصل تساهل قبيح، بل إفراط مشين،
في كشف الأبدان، والأحوال التي سماها القرآن الكريم "عورات" أمام الصغار،
بحجة أنهم "لا يفهمون" كل ذلك مما يناقض الحِكَمَ التشريعية السامية، التي
ترمي إلى حماية هؤلاء الأطفال من التنبيه المبكر للغرائز وتعكير صفو
الفطرة، وانحراف السلوك، وكم من حادثة مشينة كانت وليدة التقليد
والمحاكاة، نتيجة الانحراف عن هذا الأدب الإسلامي السامي.
وفقنا الله وجميع المسلمين للتأدب بآداب الإسلام وتعاليمه السامية.