لقد منَّ الله على عباده المؤمنين من هذه الأمة المباركة بمنن كثيرة، فكان منها ما هو عام لهم ولمن سبقهم من الأمم، وكان منها ما اختصهم به من خصائص وفضائل، ومن هذه الخصائص العظيم: شهر رمضان المبارك؛ الذي جاء في فضله نصوص كثيرة من كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ومن هذه الفضائل أن الله - سبحانه - جعل فيه للصائم دعوة مستجابة عند فطره فقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: ((الصائم لا ترد دعوته))1، وروي في الأثر عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، وتفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين))2، وفي هذين الحديثين يخبرنا الصادق المصدوق - عليه الصلاة والسلام - بأن للصائم دعوة مستجابة عند فطره، وذلك في كل يوم من أيام صيامه فرضاً كان أو نفلاً.
ولعل من الحكم في أن دعوة الصائم مستجابة أن الصائم يكون منكسر القلب، ضعيف النفس، قد ذل جموحه، وانكسر طموحه، واقترب من ربه، وأطاع مولاه، وترك الطعام والشراب خيفة منه، وكف عن الشهوات طاعة له - سبحانه -، فمن دعا الله وهو بهذه الحال، وألح عليه بالسؤال؛ فإن الله قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه؛ كما أخبرنا - عز وجل - في كتابه أثناء الحديث عن آيات الصيام حيث يقول - سبحانه -: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}3 يقول ابن سعدي - رحمه الله -: هذا جواب سؤال سُئله النبي - صلى الله عليه وسلم - من بعض أصحابه فقالوا: يا رسول الله أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فنزل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ}؛ لأنه - تعالى - الرقيب الشهيد، المطلع على السر وأخفى، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فهو قريب أيضاً من داعيه؛ بالإجابة، ولهذا قال: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}"4.
وتأمل معي - أيها المبارك - قوله - جل جلاله -: {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}، ولم يقل بعد قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} فقل لهم، أو فقل، بل حذف ذلك؛ مما يدل على سرعة إجابته لدعاء عبده المؤمن؛ بخلاف الآيات التي فيها سؤال للنبي - صلى الله عليه وسلم - من الصحابة أو من غيرهم كسؤالهم عن الأهلة؛ فقد قال الله - تعالى -: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}5 فأتى بقل، وهكذا في كل آية فيها سؤال للنبي - صلى الله عليه وسلم - يأتي في الجواب: {قل}، بخلاف آية الدعاء فهي الوحيدة في القرآن التي لم يأت فيها {قل} وفي ذلك أسرار لعلنا قد ذكرنا بعضها- والله أعلم بمراده -.
والمؤمن إذا دعا الله من قلب صادق، وتوفر في دعاءه شروط إجابة الدعاء، وانتفت الموانع من ذلك؛ استجاب الله الدعاء؛ لأن الله - سبحانه - قد وعد بأن يجيب الدعاء، ووعده صدق وحق لا مرية فيه {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً}6، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا}7؛ يقول الله - سبحانه -: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}8؛ وهذا المؤمن الصادق في إيمانه، الخليفة الثاني عمر - رضي الله عنه - يقول: "إني لا أحمل هَمَّ الإجابة، ولكن أحملُ هَمَّ الدعاء، فإذا وُفِّقْتُ للدعاء جاءت الإجابة"9؛ وهي ثقة أكيدة، وتعبير صادق؛ بأن الله سيجيب دعاء من دعاه، لكن الهمَّ الذي يحمله هو همُّ التوفيق للدعاء.
فعلى المؤمن اللبيب أن يستغل ذلك الوقت الفاضل في الدعاء، فإنه كثيراً ما ينشغل الناس عن استغلاله بتجهيز الإفطار، والاستعداد للصلاة، وما أشبه ذلك، فناج ربك، واسأل مولاك من بيده خزائن الأرض والسموات، اسأل ربك وأنت في تلك الحال قد ضمرت أحشاؤك، وخوت أمعاؤك، وجفت شفتاك، وخشع قلبك، وانكسرت نفسك، فيجيبك ربك، ويعطيك سؤلك، ويحقق مرادك.
يا رب عفوك ليس غيرك يقصد يا من له كل الخلائـق تصمد
أبواب كل مملك قد أوصـدت ورأيت بابك واسعاً لا يوصد
ما أحوجنا - أخي الصائم - في هذا الزمان إلى أن نمد أيدينا إلى الله داعين لأنفسنا ولآبائنا، وأمهاتنا وأبنائنا، وأهلينا، ولجميع المسلمين في كل مكان.
نسأل الله أن يجعلنا من عباده الصالحين، وأن يتوب علينا وعلى جميع المسلمين؛ إنه سميع قريب مجيب الدعاء.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.