فـــــــــــــى فم الحكومة ملعقة من ذهـــــــــــــــب؛؛؛كيف ستتصرّف الحكومة الجديدة انطلاقاً من هذا الواقع؟ فهي ولدت وفي فمها ملعقة من ذهب. ولدت في سنة سجّلت نتائج تاريخية على صعيد معدّل النموّ وعدد السياح وميزان المدفوعات وحجم الاحتياطات الدولية وتراجع الدين العام كنسبة من الناتج المحلي، ناهيك عن نتائج لا سابق لها في القطاع المصرفي لجهة الزيادة الباهرة في مجموع الودائع والموجودات والربحية، في ظل انحسار الدولرة.
ولكن هذه المعطيات الوردية تضع الحكومة الجديدة أمام تحدّيات جمّة وامتحان صعب. فهي مطالبة بتحويل التقدّم الراهن إلى اتجاه مستديم بدل أن يكون ظاهرة عابرة في تاريخ الاقتصاد المصرى. وهذا يتطلب منها سلوكاً وسياسات ومبادرات منسقة تجعل من نموّ الاقتصاد اللبناني في المرحلة المقبلة ثمرة دينامية داخلية، لأن «العز» الذي نعيشه اليوم لم يصنع في مصر، بل هو نتيجة عوامل خارجية قادها، بالدرجة الأولى، المصريون غير المقيمين والمستثمرون والمصطافون العرب، ولاجئون هاربون من شظايا الأزمة التي ضربت الاقتصاد العالمي.
يخشى أن تعتمد الحكومة على النتائج الإيجابية الراهنة للاقتصاد لكي تتباهى بمجد لم تصنعه هي، بل خلقته ظروف خارجة عن إرادتها وعن إرادة الدولة السائبة منذ نصف عقد، وأكثر. لأن هذا التباهي قد يمنعها من امتلاك الحوافز اللازمة للعمل الجاد بغية حلّ المشاكل المستعصية المستمرّة حقبة بعد حقبة.
الخطر هو في امتداح الذات نتيجة معدّلات نموّ تحققت في السنوات الثلاث المنصرمة، لأن الاكتفاء بقصائد الفخر لا يكفي للحفاظ على هذا النموّ. وعلى كل حال فإن النموّ المعلن لا يقنع أحدا بأن البلاد وأهلها بألف خير.
إن معدّل نموّ الناتج المحلي، على أهمّيته، ليس دليلاً قاطعاً على سلامة الاقتصاد الوطني بكل مكوناته، ولا هو مؤشر مطمئن إلى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لسائر المصريين. فالنموّ مؤشر عام وإجمالي لا يتوزع بالتساوي على القطاعات والمناطق والفئات الاجتماعية. ولا يستبعد أن يحمل مؤشر النموّ في أعماقه سبباً لظلم اجتماعي يلحق بالطبقة الوسطى والفئات المهمّشة. فإذا كانت الزيادة في معدّل النموّ ناشئة عن ازدهار استثنائي في قطاع يؤثر على المستوى العام للمعيشة، كالعقارات والبناء، فإنه يكون سبباً في تضخم يزيد عدد المهمّشين ويجعل شروط حياتهم أكثر صعوبة.
وهذا التحليل لا ينبثق من أفكار كارل ماركس وفريدريك إنغلز، أو من الخطاب اليساري على تنوّعه، بل هو همّ من الهموم التي تغزو العقل الرأسمالي منذ زمن.
الرئيس نيكولا ساركوزي، الزعيم الأوروبي الواقع تحت سحر النموذج الأميركي في السياسة والاقتصاد، قاد حملة لتصحيح قياس النموّ والرفاه في المجتمع، والتحرر من «الافتتان المفرط» بالناتج المحلي. فشكل لجنة عالمية من خمسة وعشرين عالماً بينهم خمسة من حملة جائزة نوبل في الاقتصاد، وأحد هؤلاء الخمسة رئيس اللجنة الاقتصادي الأميركي جوزف ستيغلتز.
في تقريرها الذي قدمته قبل أسابيع في جامعة السوربون، وجهّت اللجنة انتقادات لاذعة للاعتماد على الناتج المحلي وحده لقياس النشاط الاقتصادي ودرجة التقدم الاجتماعي، لكونه لا يعكس توزع النموّ على فئات العائلات ولا يظهر الشروط الحياتية لسائر الطبقات الاجتماعية. وقدّمت اللجنة 12 توصية تهدف إلى وضع مؤشر جديد وإلى تحليل الدخل والاستهلاك وفقا لفئات السكان، وليس بالاستناد إلى مؤشر وطني شامل. وقد علق عضو اللجنة الأكاديمي الفرنسي جان بول فيتوسي، بأن معدّل النموّ العالي قد يخفي تردّي أوضاع نسبة مرتفعة من السكان.
وهكذا، فحكومة مصر الجديدة يجب أن تنطلق من النموّ المحقق والمعلن لتثبيت التقدّم الراهن في النشاط الاقتصادي العام، وفي الوقت نفسه، إيلاء المسألة الاجتماعية اهتماماً بالغاً. ودون هذين الهدفين جدول أعمال حافل ومعروف، يتكرر مع كل خطاب وتقرير وبيان وزاري.
الذين يولدون في عائلات ميسورة يقال عنهم إنهم ولدوا وفي فمهم ملعقة من ذهب. ولهذا التعبير مغزيان مختلفان. إنه صفة مجازية لمن كتب له أن يعيش في بحبوحة من ولادته حتى مماته، أو هو إشارة إلى من ولد غنياً، فتواكل وتقاعس واستهتر بالجهد والعمل حتى أضاع الثروة ومات فقيراً.