فيما عدا هذه التشددات الخاصة بالوضوء والصلاة فإن الشيخ محمد زيدان عسر كان رجلا عصريا الي حد المرونة المستنيرة, كان بكل تأكيد ـ
كما تبين لي فيما بعد ـ قبسا من إشعاع طه حسين الذي غمر البلاد والعباد بسحر إلهي تجلي في بيانه الساطع, السابغ عبر ميكروفون الاذاعة في حديث التاسعة والربع مساء كل أسبوع, لعله كان يوم الأربعاء, حيث ينتظره المستمعون انتظارهم لحفلات أم كلثوم: نفس التأثير ونفس الجماهيرية
وهذا مالم يبلغه أي مثقف آخر في تاريخ مصر الحديث, ناهيك عن تأثير نشاطه الصحفي الواسع, الذي جمعته مؤخرا دار الكتب والوثائق في ستة مجلدات ضخام فإذا هو شيء مذهل حقا, نشاط صحفي بحت, يختلف عن دراساته الأدبية ومقالاته النقدية التي امتلأت بفيضها الصحافة الأدبية والدوريات الثقافية, كما يختلف عن محاضراته الأكاديمية في الجامعة, وعن كتبه الغزيرة المتنوعة مابين القصة والرواية الواقعية والرواية التاريخية الاسلامية من علي هامش السيرة الي مرآة الإسلام فالفتنة الكبري فياله من معلم بحجم أمة مترامية الأطراف أرسل ضوء علمه الي كل ناطق بالضاد.
مثل طه حسين كان الشيخ محمد زيدان عسر مجبولا علي العطاء حتي لمن لا يطلب عونه, وفي شخصية طه حسين ذابت الفروق بين الشيخ طه الأزهري وطه افندي أوطه بك خريج السوربون, الفرانكفوني الثقافة الي تفقهه في ثقافته العربية الأم, الي حد الامساك بالجذور الغائرة في أعماق الأرض العربية, وكذلك ـ بدون مقارنة طبعا ـ كان الشيخ محمد زيدان عسر, ذابت في شخصيته الفروق بين الأزهري والأفندي المدني والفلاح القراري والحكواتي الفولكلوري.
لقد بقي لغزا محيرا في نظري, ولا أزال الي اليوم أدهشني كيف ـ وهو الكفيف الذي لم يخرج من بلدتنا بعد خروجه من المعهد الديني, بل ويتحرك في نطاق جغرافي محدود جدا, استطاع تحصيل هذه الثقافة العامة, التي يفتقر اليها ناس من المفترض أنهم معبرون مسافرون متعلمون قارئون للصحف يعملون في وظائف الدولة. حتي معلمينا في المدرسة لم يكونوا علي شيء من ثقافته الواسعة, إنه فقيه في السياسة كأنه أحد الفاعلين المشاركين في صنعها, تتسع دائرة معارفه لاعلام قدامي ومحدثين, ومواقف لهم, وطرائف وملح ونوادر لا حصر لها, لا أدري كيف تأتي له أن يعرف الكثير عن شكسبير وبرنارد شو وفيكتورهوجو وسقراط وأفلاطون وهوميروس وأماجد الاغريق واليونان, ومن أين استمد الثقة في حديثه حينما قال ببساطة إن الاغريق واليونان عيال علي الثقافة المصرية برغم عظمتهم حيث تعلم فلاسفتهم في جامعات مصر القديمة في عين شمس؟! من الذي أطلعه علي جماليات أشهر المساجد والكنائس والأديرة والكاتدرائيات في العالم؟! وهل كان لصيقا بشارل ديجول حينما جاء الي مصر ليدبر لمقاومة الألمان الذين احتلوا بلاده ليعرف انه فكر في كذا أو خطط لكذا أو قال لنفسه كذا؟! وكيف توصل الي فهم دقيق لشخصية هتلر من أنه تمثيل لهوس التعصب العرقي حين يختلط بغرور القوة؟ وهل حدثه هتلر شخصيا عن علاقته بعشيقته هيلينا فيجل؟.. ثم, من أي مصدر موثوق عرف ان أبطال مصر الحقيقيين قتلة السردار الانجليزي الليبرلي ستاك وهم محمود إسماعيل وعبدالفتاح عنايت وفلان الفلاني؟
إنها خصوبة المخيلة المتحررة من المشاغل البصرية, إنها كذلك قدرته الفائقة علي الاستقبال والتفاعل, وقدرته الفائقة أيضا علي الربط, علي استكشاف الوشائج الخفية بين كل شاردة وواردة, حيث كل شاردة تصير واردة بتعديل بسيط في السياقات المتناثرة, كل صوت يطرق أذنيه يمكن أن يكون مصدرا للمعرفة وللثقافة, سيما وسمعه يختلف عن سمعنا نحن المبصرين, إنما هو سمع حاضن لما يسمع, فما يسمعه ـ ثمينا كان أو غثا ـ قد يفرخ في ذهنه أفكارا وأخبارا وأسرارا وصورا.
من حسن حظي أنه كان من جلاس مندرتنا أثناء الحرب العالمية الثانية ومابعدها. كان أكثرهم لفتا لنظري وجذبا لانتباهي بنبرة صوته المؤنسة, المحسوسة بشئ خفيف من النزق الشباني المتولد عن الافراط في الحماسة.
ولقد سرني منذ الطفولة انه كان ينصت الي باهتمام شديد رغم اتهام أمي لي بأنني ولد مخرف, ذلك أنني ـ وعمري أربع سنوات ـ كنت أحكي لجارنا عبدالرشيد جعفر صانع الحصائر أشياء غير معقولة, أقول له مثلا إن ضيوفا من أقاربنا في بلدة الشقة جاءوا بالركائب, وأننا ربطنا حميرهم في المقاعد ـ أي في الطابق الثاني للبيت, وقدمنا للحمير أناجر الفتة باللحم المحمر فإذا بعبد الرشيد جعفر يدخر كل ما خرفت به حتي يحضر في المساء جلسة المندرة فيحكيها, فأراني صرت مضحكة فأنظر اليهم في بلاهة لأني أكون قد نسيت ماقلته في الصباح حتي ليبدو لي عبدالرشيد جعفر كأنه يؤلف عني مثل هذه النكت ليسخر مني الجميع بها. إلا الشيخ محمد, تروح أصابعه تعبث بشحمة أذني تهم بالضغط والقرص ان شرعت أخرف في الكلام باشياء يستحيل حدوثها, غير اني كنت أشعر من طرف خفي بأن أمي إذ تصفني بالمخطرف إنما هي في الواقع تريد أن تدرأ عني عين الحسود, كثيرا ما كان أحدهم يتأملني حين أتكلم فيقول بإعجاب: ماشاء الله دماغه حلو ولسانه سالك!.. فيبدو التوجس علي وجه أمي في الحال, وبدلا من ان تشهر في وجهه اصابعها الخمسة لكي تطفئ لهب النظرة الحاسدة, إذا بها تقول في تحسر مصطنع: ده دماغه حلو ولسان سالك؟ دا أهطل بيقول كلام مالوش أصل من فصل. عندئذ يرفع الشيخ محمد يده عن كتفي ملوحا بها صائحا: بالعكس! لا تقولي هذا أمامه أو أمام أي أحد! فهذا الولد عنده خيال! وما تعتبرينه تخريفا ليس له أصل من فصل هو في الواقع له أصل وفصل في خياله! إنه يتخيل ما يقول! هذا الولد سيكون في الغالب بإذن الله وكما أتوقع شاعرا أو أديبا أو شيئا من هذا القبيل.. فيقول أبي ساخرا: فال الله ولا فالك يا شيخ محمد! إن أدركته حرفة الأدب سيتشرد ويموت جوعا, فيبتسم الشيخ محمد في دماثة ويقول: صحتها حرفة يا أحمد أفندي! بضم الحاء لا كسرها! علي أساس أن الممسوس بموهبة الأدب يستولي عليه الأدب فيقوده الي الانحراف عن طريق أكل العيش يبعده عن كسب المال وعن اتقان حرفة يتعيش منها! ولهذا فقائل هذه العبارة المأثورة يدرك بادئ ذي بدء أن الأدب رسالة أخلاقية يعني لا يصلح أن يكون مهنة لكسب العيش! وإذا لم يكن للأديب من أمير أو سلطان أو ثري من الأعيان المستثمرين يحتضنه ويغدق عليه ضاع وخمل ذكره!.. ولكن الأمر اختلف الآن في العصور الحديثة فأصبح للأديب مكانة محترمة تخطب وده الصحف والمجلات ودور النشر! أنظر الي طه حسين والعقاد والمازني وتوفيق الحكيم ومحمود تيمور وعلي الجارم وسلامة موسي!.. من تدركه حرفة الأدب اليوم لن ينحرف عن جادة الصواب إلا إذا كان دعيا بلا موهبة ولا ثقافة وحيئذ يستاهل مايجري له! أنا شخصيا أشمت في أمثاله برغم اشفاقي عليه!.. أما هذا الولد ـ وتنزل ذراعه مرة أخري علي كتفي تربت عليه برفق ـ فإنني معجب بخطرفته وأشجعه عليها.
ترمقني أمي باعجاب خفي تقاوم إعلانه, فتشوشر علي نفسها مشوحة في احتجاج لطيف: ما تخنش ودانه ياشيخ محمد أحسن يصدق ويهرب من كتب المدرسة لكتب الكلام الفارغ المرصوصة وراءك في الشباك! ليته يقرأ البخاري ويكمل حفظ القرآن, ثم تهتف بعد هنيهة: والله إن اشتكي منك واحد من أفندية المدرسة لأكسرن عصا الغلية فوق أجنابك. فيغمزني الشيخ محمد في شحمة أذني أشعر أنها غمزة تشجيع إلا أنه يغطيها بقوله: إسمع الكلام لتكون صديقي.
المصدر مؤسسة الاهرام