الفرد المسلم وقضايا الأمة
إن قضايا الأمة عديدة ومتشعبة ، ومن الكثرة بمكان حتى تجعل الفرد المسلم في حيرة من أمره بأيّها يهتم وأيّها يقدّم وأيّها يؤخّر ، لكن ذلك لايعفي أيّن كان من هذه الأمة في مشارق الأرض ومغاربها من المسؤولية والتبعة مهما كان موقعه ووظيفته ومستواه وإمكانياته ، حيث أن المسلم بمقتضى شهادة التوحيد أوجب على نفسه على طيب خاطر منه أن يكون له دور إيجابي تجاه أمته وقضاياها، لكن الغفلة في كثير من الأحيان تحول دون ذلك ، الأمر الذي يحتّم على حملة القلم من أبناء الأمة والمرابطين منهم على منابرها المختلفة السياسية والدعوية والإعلامية والثقافية والتربوية التنبيه الدائم والتذكير المستمر والتوعية المتكرّرة بهذه القضايا والواجب العملي تجاهها.
1) ــ المقصود بقضايا الأمة :
عند الحديث عن قضايا الأمة لابد أن نفهمها بمعناها الشامل ولا نحصرها في بعض القضايا دون غيرها ، مع ضرورة مراعاة الأولويات وواجب الوقت في ترتيب الاهتمامات دون إغفال بقيّة القضايا :
ــ فأراضي الأمة المغتصبة والمحتلّة والمحاصرة من قضاياها.
ــ دماء المسلمين السائلة بلا حساب وأعراضهم المنتهكة بلا رادع من قضاياها.
ــ التغوّل الأمريكي والصهيوني ومشاريع السيطرة على مقدرات الأمة ومواردها من قضاياها.
ــ التبعية الاقتصادية والثقافية من قضاياها.
ــ انتهاك سيادة الأمة ودولها وتغييب إرادتها والتحكّم في قراراتها واختراق نخبها السياسية والثقافية والإعلامية من قضاياها.
ــ الغزو الثقافي والفكري والأخلاقي من قضاياها.
ــ التخلّف المعرفي والعلمي والتكنولوجي والحضاري من قضاياها.
ــ الاستبداد السياسي وتضييق هامش الحريات من قضاياها.
ــ الآفات الاجتماعية المختلفة التي تفتك بشبابها من قضاياها.
ــ هجرة الأدمغة والكفاءات من قضاياها .
ــ الاستئصال والتغريب والتطبيع من قضاياها .
ــ الحروب الأهلية والنزاعات الداخلية من قضاياها .
ــ تفرّق الأمة وتشرذمها وخلافاتها ــ التي لاتكاد تنتهي ــ من قضاياها.
ــ عدم التمكين لدين الله فيها وتحكيم شرعه في واقعها من قضاياها .
ــ التنصير والفرق الهدّامة والضالة والمنحرفة من قضاياها.
ــ الحملات المبرمجة على دينها ونبيّها صلى الله عليه وسلم وعلمائها العاملين والحركات الإسلامية الجادّة والقوى الحيّة فيها من قضاياها .
وهكذا ، أما أن نحصر قضايا الأمة في بعض الجزئيات ونقيم المعارك من أجلها ونهمل الأصول والأمور المصيرية ، فهذا في الحقيقة فهم مجزوء ومقلوب ومشوش وقاصر ، لن يفيد الأمة في شيء ، إن لم يضرّها في كثير من الأحيان وإن توفرت النوايا الحسنة.
2) ـ كيفية تعامل الفرد المسلم مع قضايا الأمة:
تختلف طريقة التعامل مع قضايا الأمة من فرد إلى آخر كل حسب همّه وهمّته وشعوره وفهمه وإيمانه، فكلّما ارتفع منسوب هذه الخماسية لديه كان منطقه وطريقته وتفاعله مع قضايا أمته إيجابيا وكلّما انخفض منسوبها وانحدر منحناها البياني لديه كان تفاعله سلبيا .
أ) ــ طرق سلبية في التفاعل :
هناك من يتعامل مع قضايا أمته ب :
ــ منطق جحا لما قيل له : إن الحريق قد شب في قريتكم ، قال : المهم أن لايكون في بيتنا ، قيل له : إن الحريق في بيتكم ، قال : المهم أنّني لست في البيت .
يظهر هذا المنطق من خلال محاولات الخلاص الفردي ــ حسب اعتقاد هذا الصنف ــ والنجاة والفرار بالجلد والنفس ، والتنصّل من الوقوف مع قضايا أمته والتعامل معها بشعار:(أنا وبعدي الطوفان).
ــ منطق النعامة ، التي لمّا ترى خطرا أو عدوا تخفي رأسها في الرمال ، هذا المنطق يتجاهل أصحابه واقع أمتهم ويهربون منه ويتركون قضاياها ويبتعدون ويتغافلون عنها ويتناسونها بممارسات واهتمامات تافهة وقاصرة ، ويغالطون أنفسهم ببعض الأفعال التي لاتسمن ولاتغني من جوع ، ينطبق عليهم تشبيه الإمام ابن الجوزي رحمه الله :(كالذي يتطهّر بالبول).
ــ منطق بني إسرائيل في النصرة والتفاعل ، لمّا دعاهم سيدنا موسى عليه السلام إلى النصرة قالوا له :( َاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)(المائدة24). الجبن والقعود واللاّمبالاة
ــ منطق أولئك النفر المتفرجين السلبيين ، الذين لايشاركون في حمل هموم أمتهم ولا يتركون غيرهم يفعلون ذلك ، فلمّا دعا رسول الله صلى الله عله وسلم الصحابة إلى الصدقة استعدادا لغزوة تبوك ، فجاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بأربعة آلاف دينار ، فقال هؤلاء المتفرجون: ما أراد بن عوف بصدقته هذه إلا رياء ، فلما جاء أبو عقيل الأنصاري رضي الله عنه بصاع من تمر بات ليله كله يعمل ويكدّ حتى وفّره ، قال هذا الصنف: إن الله غنيّ عن صدقة هذا، فأنزل الله في حقهم:( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )(التوبة79).
ــ منطق القطيع ، الذي يبرّر عجزه وسلبيته ، بمنطق ليس بالإمكان أفضل ممّا كان ، ومالّذي أستطيع فعله في ظلّ هذا الكم الهائل من غير المهتمّين بقضايا الأمة وغير المبالين بهمومها وجراحاتها ؟ ، فلا يمكنني أن أشذّ عن هذا المجموع ، فالسير مع القطيع أسلم .
هذه الأصناف جميعها ــ للأسف الشديد ــ تنسى أو تتناسى بأن سلبيتهم وقعودهم ولامبالاتهم وعدم اهتمامهم بقضايا أمتهم بالمنطق الصحيح ، لن يجعلهم بمنأى عن شظاياها ، فعندما تصاب الأمة ، فلن تميز المصيبة بينهم وبين غيرهم ، كما قال القائل:
لا تقعدن عن الجهاد إلى غد فلقد يجيء غد وأنت تـــــراب
الصيد غيرك إن سهرت فان تنم الصيد أنت ولحمك المختار
ب) ـ طرق إيجابية في التفاعل :
وهناك من يتعامل مع قضايا أمته ب:
ــ طريقة صلاح الدين الأيوبي رحمه الله ، الذي لم يرى ضاحكا قبل تحرير القدس فلمّا قيل له في ذلك قال: كيف يحلو لي الضحك والقدس في أيدي الصليبيين.
ــ طريقة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر لمّا قام المقداد بن الأسود رضي الله عنه فقال: يا رسول الله! أمض بنا لأمر الله فنحن معك ، والله لا نقول لك مثل ما قالت بنو إسرائيل لموسى: (اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)(المائدة24)، و لكن اذهب أنت و ربّك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، والذي بعثك بالحق! لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تنتهي إليه.
ــ طريقة تلك المرأة المسلمة التي لم تجد ماتقدمه للقائد المسلم للمشاركة في صدّ عدوان أعداء الأمة إلا ظفائر شعرها لجعلها لجاما لحصان منطلق في سبيل الله، فقدّمت ماتستطيع ولم تبق في وضع المتفرّج العاجز اليائس.
فالفرد المسلم مطلوب منه أن يتفاعل تفاعلا إيجابيا مع قضايا أمته ، وذلك بأن يستشعر آلامها ويحمل همومها ويدرك حقيقة المؤامرات التي تحاك ضدها آناء الليل وأطراف النهار ، ثم يقوم بالمساهمة الجادّة على قدر طاقته واستطاعته في تبنّي قضاياها وحلّ مشكلاتها وتخفيف معاناتها ، والعمل المتواصل من أجل تجاوز هزائمها وانكساراتها.
3) ـ التأصيل الشرعي للتفاعل مع قضايا الأمة:
نظرا لكثرة الأدلة من الكتاب والسنة على ضرورة تفاعل المسلم مع قضايا أمته بشكل إيجابي سأكتفي بذكر أربعة أحاديث نبوية في هذا الإطار:
* حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى))(متفق عليه).
* وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم – أنه قال: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرّج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة)
* الحديث الذي رواه أبو داود : ((مامن أمريء مسلم يخذل أمرء مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه ، إلا خذله الله في موضع يحب نصرته ، ومامن أمريء مسلم ينصر أمرء مسلما في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته)).
* الحديث الذي رواه الأصفهاني : ((من مشى مع مظلوم حتى يثبت له حقه ، ثبّت الله قدميه على الصراط يوم تزل الأقدام)).
4) ـ وسائل التفاعل الإيجابي مع قضايا الأمة :
1ـ المتابعة الجادة والبصيرة للأحداث.
2 ـ القراءة الدائمة والمثمرة .
3 ـ المعرفة الدقيقة بالأعداء ومخططاتهم .
4 ـ الشعور بالتبعة والمسؤولية .
5 ـ الغيرة على محارم الله وحرمات المسلمين.
6 ــ الدعم المادي والمعنوي بكلّ السبل حسب الاستطاعة.
7 ــ توعية الناس وتحسيسهم باستمرار بهذه القضايا وواجبهم نحوها.
8 ــ المداومة على إظهار الغضب والاحتجاج بالأساليب الحضارية ضد كلّ المتواطئين والمتورّطين في جراحات الأمة ومآسيها.
9 ــ إظهار كل مظاهر الثناء والدعم والتثمين لمواقف الأحرار في كل مكان الذين يقفون مع قضايا أمتنا .
10 ــ الرغبة الصادقة في التضحية والعمل في سبيل الله .
11 ــ مغالبة الأعذار والمرابطة مع أهل الحق والخير والمروءة.
12 ــ رفض الواقع المرير للأمة والسعي لتغييره نحو الأفضل .
13 ــ الحفاظ على راية الإسلام والدعوة والنصرة مرفوعة مهما تكن الظروف.
14 ــ الروح المتفائلة الواثقة في نصر الله مهما ادلهمت الخطوب.
15 ــ التوازن بين العقل والعاطفة في التعامل مع قضايا الأمة.
16 ــ الدعاء فسهام الليل لاتخطيء.
5) ـ معوقات التفاعل الإيجابي مع قضايا الأمة :
1 ـ تشوّش الأولويات واختلال المعايير .
2 ــ جزئية الفهم والاهتمام وسطحيته.
3 ــ الانعزالية والإنسحابية والتسلل اللّواذ.
4 ــ الفراغ الروحي والفكري والثقافي .
5 ــ الإخلاد إلى الأرض والركون إلى الدنيا..
6 ــ الترخّص الدائم والجفول من العزائم.
7 ــ تبلّد الحس بحقيقة الانتماء للأمة وعدم الغيرة على حرماتها
8 ــ الإمعية والتقليد الأعمى وضعف الثقة في النفس .
9 ــ عدم الشعور بالمسؤولية والتخلّي عن واجب الوقت.
10 ــ وجود الطوابير الخامسة في مراكز التأثير في الأمة.
11 ــ الغينات الثلاث (الغباء والغفلة والغرور)
12 ــ اليأس وغلبة الروح التشاؤمية.
13 ــ انعدام روح المبادرة.
14 ــ المعاصي والذنوب.
15 ــ الجبن والبخل .
16 ــ الإتّكاليــــــــة .
فلا ينبغي أن تختلّ موازين الفرد المسلم وتضطرب أولوياته ويغالط نفسه ، بحيث يقنعها ويوهمها أنها بمجرد حرصها على بعض الأوراد وحفاظها على بعض مظاهر التديّن الشخصي المنبت عن واقع أمته ، البعيد عن آلامها وآمالها ، غير المبالي وغير الشاعر أصلا بقضاياها وجراحاتها النازفة والمفتوحة على أكثر من صعيد وفي أكثر من مكان ، بمجرد أن تفعل ذلك تكون قد أدّت واجبها وأعذرت إلى الله ، وهذا وهم بيّن تهافته الإمام ابن عقيل رحمه الله منذ قرون لمّا قال:( إذا أردت أن تعلم محلّ الإسلام من أهل الزمان ، فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع ولا ضجيجهم في الموقف بلبيك ، وإنما أنظر إلى مواطأتهم أعداء الشريعة).