ولا منافاة بين هذا وبين قوله (( أول ما يحاسب به العبدُ الصلاة )) (3)
فهذا حق بينه وبين الله والدماء حق العباد .
وقد ورد عند النسائي وأبو داود من حديث ابن مسعود بلفظ (( أول ما يحاسب به العبد الصلاة وأول ما يقضى بين الناس الدماء ))(4)
ولذلك قال علي بن أبي طالب كما في صحيح البخاري (( أنا أول من يجثو يوم القيامة بين يدي الرحمن جل وعلا للخصومة )) ([4])
يريد قصته في مبارزته هو وصاحبه يوم بدر وفيهم نزل قول الله تعالى {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } [ الحج:19]
فإذا قامت القيامة وقام الناس جميعاً لرب العالمين ووقفوا في أرض المحشر حفاة عراةَّ غُرلا ([5])وقد دنت الشمس من الرؤوس وتصبب العرق على قدر الأعمال وزفرت جهنم وزمجرت وقد جيء لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها ([6]) وتطايرت الصحف ونصبت الموازين ونودي عليك .
فقرع النداء قلبك وارتعدت فرائصك واضطربت جوارحك وتغير لونك وطار قلبك وجاءت الملائكة الموكلة بسوقك إلى الله تعالى .
حتى إذا ما وقفت بين يدي ملك الملوك وجبار السموات والأرض أخذت صحيفتك هذه الصحيفة التي لا تغادر صغيرة ولا كبيرة !!
فانتبه ... يُنادى عليك أيها القاتلُ المجرم يا من سفكت دماء الموحدين المؤمنين فتأتي فرداً عارياً لا سلطان لك ، ولا مال معك ، لتفتدي به وقد أحاط بك من كل ناحية من قتلتهم في الدنيا وقد تعلقوا به وأوداجهم [أي عروق أعناقهم] تشخب [أي تسيل] دماً ويقولون لله جل وعلا سل هذا القاتل فيم قتلنا كما في سنن النسائي من حديث ابن عباس وهو حديث حسن قال سمعت النبي يقول : (( يجيء المقتول متعلقاً بالقاتل تشخب [تسيل] أوداجه دما ، فيقول : أي رب سل هذا فيم قتلني ؟ )) وفي رواية (( يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ، ناصيته ورأسه بيده ، وأوداجه تشخب دماً ، يقول : يا رب ، قتلني هذا ، حتى يدنيه من العرش ، قال : فذكروا لابن عباس التوبة فتلا هذه الآية {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً} قال : وما نُسِخَت هذه الآية ولا بدلت ، وأنى له التوبة ؟ ))(1)
الله أكبر .....
تذكر وقوفك يوم العرض عريانا والنار تلهب من غيظ ومن حنق اقرأ كتابك يا عبد على مهلٍ فلما قرأت ولم تنكر قراءته فلما نادى الجليل خذوه يا ملائكتي المشركون غداً في النار يلتهبوا
| | مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا على العصاة ورب العرش غضبانا فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا وأقررت إقرار من عرف الأشياء عرفانا وامضوا بعبدٍ عصى للنار عطشانا والموحدون في دار الخلد سكانا
|
{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } [الأنبياء:47]
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن النبي r قال لأصحابه يوماً (( أتدرون من
المفلس ؟)) قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع ، قال : (( إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، وضرب هذا فَيُعْطَى هذا من حسناته ، وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يُقْضَي ما عليه ، أُخذ من خطاياهم ثم طرح في النار ))(2)
ثانياً : حكم من قتل نفسه فمات منتحراً
أحبتي في الله :
ولم ينتف هذا الوعيد الرهيب في حق من قتل نفسه منتحراً والعياذ بالله بل هو خالد في النار لما ورد في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي r قال :
((من تردى من جبل (أي ألقى بنفسه) فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالداً مخلداً فيها أبداً ، ومن تحسى سماً فقتل نفسه فسمه في يده يتحساهُ في نار جهنم خالداً فيها أبداً ، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً )) ([7])
وفي الصحيحين من حديث سهل بن سعد أن رسول الله التقى هو والمشركون فاقتتلو ، فلما مال النبي r إلى عسكره ، ومال الآخرون إلى عسكرهم ، وفي أصحاب رسول الله رجل لا يدع لهم شاذَّة ولا فاذَّة إلا اتبعها يضربها بسيفه – فقالوا ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان ، فقال رسول الله r : (( أما إنه من أهل النار )) .
فقال رجل من القوم : أنا صاحبه أبداً .
قال فخرج معه كلما وقف معه ، وإذا أسرع أسرع معه ، قال : فجُرِحََ الرجل جرحاً شديداً فاستعجل الموت فوضع سيفه فقتل نفسه فخرج الرجل إلى رسول الله فقال : أشهد أنه رسول الله .
قال : (( وما ذاك ؟ )) .
فقال : الرجلُ الذي ذكرت آنفاً أنه من أهل النار ، فأعظم الناس ذلك ، فقلت : أنا لكم به فخرجت في طلبه حتى جرح جرحاً شديداً فاستعجل الموت ، فوضع سيفه بالأرض وذُبَابَه بين ثدييه ( ذبابة السيف : طرف رأسه) ثم تحامل عليه فقتل نفسه فقال رسول الله عند ذلك :
(( إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدوا للناس وهو من أهل النار وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدوا للناس وهو من أهل الجنة وإنما الأعمال بالخواتيم ))(1)
وفي رواية أخرى في الصحيحين عن أبي هريرة قال : فلما أُخبر النبي أن الرجل قتل نفسه كبر النبي وقال : (( أشهد أني عبد الله ورسوله ثم أمر بلالاً فنادى في الناس أنه لن يدخل الجنة إلا نفسٌ مسلمة وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الكافر ))(2)
ثالثاً : حكم القتل الخطأ
وقد بينه الله جل وعلا في سورة النساء بقوله :
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً } [النساء:92]
فالحالة الأولى : أن يقع القتل على مؤمن أهله مؤمنون في دار الإسلام .
وفي هذه الحالة يجب تحرير رقبة مؤمنة وديةٌ تسلمُ إلى أهل القتيل فأما تحرير الرقبة المؤمنة فهو تعويض للمجتمع المسلم عن قتل نفس بعنق نفس مؤمنة أخرى .
وأما الدية فتسكين لثائرة نفوس أهل القتيل وشراٌْ لخواطرهم بعد ما فجعوا في قتيلهم وتعويض لهم عن بعض ما فقدوه إلا أن يصدَّقوا ويتنازلوا عن هذا الحق تسامحاً
وتعاطفاً . أ. هـ([8])
الحالة الثانية : أن يقع القتل على مؤمن وأهله محاربون للإسلام في دار الحرب .
وفي هذه الحالة يجب تحرير رقبة مؤمنة لتعويض النفس المؤمنة التي قتلت لكن لا يجوز دفع الدية لقوم القتيل المحاربين حتى لا يستعينوا بها على قتال المسلمين ، إذا لا مكان ولا مجال هنا لاسترضاء أهل القتيل لأنهم محاربون وأعداء للإسلام والمسلمين .
أما الحالة الثالثة : فهي أن يقع القتل على مؤمن أو على غير مؤمن قومه معاهدون أي لهم عهد هدنة أو عهد ذمة .
وفي هذه الحالة يجب أن تدفع الدية إلى أهله المعاهدين ولو لم يكن القتيل مؤمناً لأن عهدهم مع المؤمنين يجعل دماءهم مصونة كدماء المسلمين ويجب أيضاً على القاتل أن يعتق رقبة مؤمنة .
هذه هي أحكام القتل الخطأ .
اختلف العلماء في هذه المسألة فلقد روى البخاري عن سعيد بن جبير قال : اختلف أهل الكوفة فَرَحَلْتُ فيها إلى ابن عباس فسألته عنها فقال هذه الآية { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً ....... } هي آخر ما ترك وما نسخها شيء .