أبناء عـم إبليس
الانكسار لله، والتواضع لعباده، فكانوا هم السادة الحقيقين
، والغـرَ الميـامين
عبد السلام البسيوني
كنا نتحدث عن المروءات، والمعالي، والسيادة وأخلاق السادة، في مقارنة بين أبناء الأصول وأبناء (الإيه) فقال صديقي مستغرقًا في ضحكة مندهشة، خذ هذه:
صادفت ذات حج رجلاً مسنًّا، قد ضلّ عن مطوّفه، وعن أهله، وعن رفاقه. وكان أميًّا، ساذج الهيئة، لا يجد حيلةً، ولا يهتدي سبيلاً.. فاحتسبت الأجر، ونويت أن أعينه على الوصول لمأمنه، وظللت أسأل وهو معي، حتى اهتدينا – بعد نحو ساعتين من العناء والعياء – إلى خيمة أهله في منى، رغم الزحام، وبُعد المسافة، وجهلي بالمكان.. فلما أوصلته ودّعته قائلاً: في أمان الله يا عمي الحاج.. مع السلامة.
فإذا به (يشخط في) بلهجة متعالية حيرتني وألجمتني: أنا عمك أنت؟ ما بقي إلا أنت؟ رح.. رح.. فألجمتني الدهشة، وانصرفت وأنا أضرب كفًّا بكف، وأستغفر الله تعالى؛ كراهية للجدال في الحج.
قلت لصاحبي: ولم العجب وأنت تعلم أن من بني البشر كائنات مسكينة أوقعتها (قلة العقل، والخيبة القوية) في اعتقاد نرجسي مرضيّ، يرون به أنهم متميزون عن سائر البشر؛ فإذا كان عباد الله مخلوقين من طين، أو من ماء مهين، فإن (البعداء) يعتقدون أنهم مخلوقون من ماء آخر: ربما من ماء زمزم، من ماء المزن، من ماء الورد، من ماء الرمان.. المهم أنهم ليسوا كالناس، فلهم خصوصية في كل شيء:
لا يرد أحدهم السلام إذا ألقيت عليه السلام، وإذا ناديته لم يُعِرْك أي اهتمام.
وإذا سار على الأرض – كالبشر – رفع رأسه، وجرّ ثوبه، وثنى عطفيه، وصعّر خدّه..
وإذا نطق تآكلت الحروف على لسانه، والتصقت بأسنانه، واسترخت، وتمطت، وشطحت، واغتربت..
فإذا تعرض المسكين لأهون شدة، وجدت قلبه قلب طائر، وعقله عقل جاهل، وسلوكه سلوك انتهازي يتقن (بوس الرؤوس) وتقبيل الأيدي والأرجل، خصوصًا أرجل من يعرفون حقيقته.
وكثيرًا ما يعظنا التاريخ – الذي لا ينسى – أن المتكبر محروم من الخير، بعيد عن حب الناس، بغيض إلى أهل العلم، وأهل الفضل، ثم إنه سيكون – يوم القيامة – مطروحًا تحت الجزم، بل تحت الأقدام العارية، تدوسه احتقارًا ولا مبالاة، بعد أن جعله الله تعالى وأمثاله أشباه الذر؛ أي النمل الصغير الذي لا يكاد يُرى!
وبقدر ما يستعلي هنا، بقدر ما يداس هناك، لأن الكبرياء لا تكون إلا لله الكبير المتعال، ومن نازعه العظمة قصمه ولم يبال.
ولا شك عندي أن هذا المستكبر متهم – فيما بينه وبين نفسه – بأنه يستر باستكباره عورة أو عورات يخشى افتضاحها؛ فهو إما حقير بلا نسب، أو جاهل عيـي، حصور اللسان، ليس بينه وبين العلم سبب، أو عائر مغموص، يخفي – بالمبالغة – ما لا يحب إظهاره.
أما كبير الهمة، راجح العقل، غزير العلم، عريق المحتد، فهو متواضع لين، تستطيع – بسهولة – أن تحادثه، وتؤاكله، وأن تجد منه طلاقة الوجه، وحلاوة اللسان، ولا ينبسط للكريم إلا الكريم..
فهذا رسول الله محمد سيد الأولين والآخرين كانت البُنيّة الضعيفة تأخذ بيده، فتطوف به شوارع المدينة ما يمتنع منها.
وكان يجلس بين أصحابه لا يعرف من بينهم، ولا يمتاز عليهم.
وكان يعلّم من حوله أن من تواضع لله أعزّه الله ورفعه.
وأبو بكر خليفة المسلمين يمشي في ركاب شاب ابن سبع عشرة سنة، ليغـبّر قدميه في سبيل الله.
وعمر الفاروق ينفخ في الكانون للعجوز حتى يتخلل الدخان لحيته، ويلبس – كمن سبقاه – الثياب المرقعة، لا يحسّ بدونية، ولا هوان، بل هو العزيز بالله المعز لدين الله..
أما اللئيم فهو غير ذلك.. أما المتكـبر فهو غير ذلك:
** جلس سيدي ونور عيني محمد النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم يأكل مع مستكبر، فوجده يأكل بشماله، فلما قال له: كل بيمينك، ضرب على الغبي (عرق الهيافة) والاستكبار، فقال من طرف أنفه: لا أستطيع، فدعا عليه المصطفى عليه السلام: لا استطعت، فما رفع يده إلى فيه!
** وأحمق ثانٍ يمر بمالك بن دينار، فلما رآه مالك متبخترًا معجبًا بنفسه، قال: شوية شوية.. رويدك؛ أن ينفجر فيك عرق، أو تطير كالبالون في الهواء.
فاستدار أخونا المنفوخ وهو يهزّ الميدالية الذهبية، ويثبت النظارة الكارتيـيه على أنفه: أنت مش عارف أنا مين؟!
فقال مالك: بل أعرفك جيدًا، ولا يخفى عليّ أصلك: كنت نطـفةً مهينة مذرة، وتصير جيفة مدوّدة قذرة، وأنت فيما بين الكون والصيرورة تحمل بين جنبـيك العذرة!
فبهت الذي انتفخ.
** وقد يؤدي هذا الانتفاخ إلى درجة إبليسية، تذكّرنا بالرجيم الذي أبى واستكبر وكان من الكافرين:
مرت امرأة لا تعرف الطريق جيدًا فسألت أحد المارة: يا عبد الله: كيف الطريق إلى مكان كـذا؟
فقال لها في أبلسة: أمثلي يكون من عبيد الله؟!
** ومنفاخ آخر خطب الناس بالبصرة فأحسن وأوجز، فنودي من نواحي المسجد: كثّر الله فينا من أمثالك، فقال وبئس ما قال: لقد كلفتم الله شططًا !
** وثالث أضلّ راحلته فالتمسها فلم توجد، فقال: والله لئن لم يردّ الله علي راحلتي لا صليت له أبدًا، فلما وُجدت، قيل: قد رد الله عليك راحلتك، فقال: إنما كانت يميني يمينًا قصدًا!
قولاً لأحمق يلوي التيهُ أخدَعَهُ ..... لو كنت تعلم ما في التيه لم تَتِـهِ
التيه مفسدةٌ للدين.. منقـصةٌ ..... للعـقل.. مَهْلكةٌ للعرض فانتـبهِ
والمؤمن – بطبعه – إلف مألوف.
وأقرب الناس مجالس من النبي صلى الله عليه وسلم أحاسنهم أخلاقًا. وأصحابه كل متواضع منكسر، يرى نفسه مقصرًا، ضعيفًا، محتاجًا لعفو العفوّ، ورحمة الرحمن..
وإن قيمة المرء تعلو؛ ليس بثيابه بل بثوابه، وليس باختياله بل بفعاله..
وقد عرف سادات العرب في الجاهلية بالحلم والبذل والنجدة، وجمَع ساداتُ المسلمين – إلى ذلك - الانكسار لله، والتواضع لعباده، فكانوا هم السادة الحقيقين، والغرَ الميامين.
وأين أنت قارئي العزيز من مآثر السادة النجب من آل بيت رسول الله والصحب والخلفاء والعلماء والعباد صلى الله عليهم وسلم تسليمًا كثيرًا؟!
أين أنت من جود عبيد الله بن العباس، وعبد الله بن جعفر الطيار، وسعيد بن العاص، وطلحة الطلحات، ومعن بن زائدة، ويزيد بن المهلّب، وغيرهم؟
اقرأ معي عن ثلاثة من الأجواد هذه القصة الأعجوبة:
تماري ثلاثة في أجواد الإسلام – بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم – فقال واحد:
أسخى الناس في عصرنا: عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما!
وقال الآخر: بل أسخاهم عرابة الأوسي،
وقال الثالث بل إن الأسخى هو قيس بن سعد بن عبادة.
ثم بدا لهم أن يجروا اختبارًا ميدانيًّا، لاكتشاف الأسخى من أولئكم الأجواد الثلاثة، فمضى صاحب عبد الله بن جعفر إليه، فصادفه وقد وضع رجله في غرز رحله، يريد ضيعة له، فقال الرجل: يا بن عم رسول الله: ابن سبيل ومنقطَع به.
فقال ابن جعفر: ضع رجلك، واستوِ على الراحلة، وخذ ما في الحقيبة، واحتفظ بسيفك فإنه من سيوف علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
فجاء لصاحبيه بالناقة، والحقيبة فيها مطارف خزّ بأربعة آلاف دينار، وأعظمها وأجلّها كان السيف!
وأما صاحب قيس بن سعد بن عبادة – رضي الله عنهم – فصادفه نائمًا، فخرجت له خادمة فقالت: هو نائم، فما حاجتك إليه؟
قال: ابن سبيل ومنقطَع به.
قالت الجارية (المفلوتة) التي أصابتها من سيدها عدوى الجود:
حاجتك أهون من إيقاظه، ثم رمت إليه بكيس فيه سبعمائة دينار، وقالت: الله يعلم أن ما في دار قيس غيره، فخذه، وامض إلى معاطن الإبل، فخذ راحلةً من رواحله، وما يصلحها، وعبدًا من العبيد، وامض لشأنك.
فقيل إن قيسًا لما انتبه من رقدته أخبرته بما صنعت فـ......أعتقها!
ومضى صاحب عرابة الأوسي إليه فألفاه قد خرج من منـزله يريد الصلاة، وهو يمشي معتمدًا على عبدين، وقد كفّ بصره، فقال الرجل:
يا عرابة: ابن سبيل ومنقَطع به، قال: فخلى العيدين، وصفق بيمينه وقال: أواه، أواه،
ما تركت الحقوق لعرابة مالاً. ولكن خذهما؛ يعني العبيدين..
فقال الرجل: ما كنت الذي أقصّ جناحيك.
قال: إن لم تأخذهما فهما حرّان، فإن شئت تأخذ، وإن شئت تعتق..
هذه هي السيادة، وهذا هو الشرف؛ لا نفخة الطبل الأجوف، ولا مشية الطاووس، ولا جعجعة الرحى لا ترى منها طحنًا:
هذى المكارمُ لا قعبان من لبِن ..... شِيبا بماء فعادا بَعْدُ أبوالا