الحياء والخجل: هل فقدنا خفر العذارى؟ الحياء شيمة يسمو بها الإنسان عما دونه من المخلوفات، وخصلة منحها الله ليحفظ بها ماء وجهه، ويرتدع عن ارتكاب المحرمات واجتراح الآثام.
ولكننا نتساءل هذه الأيام هل أضحت هذه الصفة عملة نادرة في أسواقنا التربوية، فأصبح الكثير من شباب وصبايا المسلمين يجاهرون بالمعاصي تحت ستار الحداثة ومسوح التحرر.
خط دفاع هامكان الحياء من الأخلاق العربية الأصيلة التي يتفاخر بها العرب قبل الإسلام، فها هو عنترة العبسي يفتخر قائلا:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مخباها
وجاء الدين الحنيف ليطالبنا بالحرص على هذه الخصلة الكريمة ولنعض عليها بالنواجذ، ولم لا؟ فهي شعبة من شعب الإيمان وخط الدفاع الأول من الوقوع في المشاكل والإثم.
وكان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يوصف بأنه أشد حياء من العذراء في خدرها.
وينبهنا الداعية مصطفى السباعي في كتابه (هكذا علمتني الحياه) إلى أهمية الحياء في استقامة السلوك بقوله (إذا همت نفسك بارتكاب المعاصي فذكّرها بشيم الكرام، فإذا لم ترتدع، فذكّرها بالله، فإن لم ترتدع فذكّرها بالفضيحة بين الناس، فإن لم ترتدع فاعلم أنك قد غدوت حيواناً).
ورحم الله جدتي إذ كانت كثيراً ما تردد على مسامعي ترحمها على أيام زمان، فقد كان لكل شيء أصوله وقوانينه ، فالكبير كبير والصغير صغير، أما اليوم فقد اختلط الحابل بالنابل، ولم تعد هناك مقامات معروفة.
فعندما كان يحدث اجتماع كبير للعائلة والأصدقاء، كان يفرد للأطفال مجالس خاصة يجلسون بها يلعبون ويمرحون، حتى لا تلتقط آذانهم ما لا يجب أن يستمعوا إليه من كلام وأحاديث وكانت الفتاة العازبة لا تتزين بالأصبغة والألوان، وتكتفي من الملابس البسيطة والمحتشمة، ولا تجالس المتزوجات أو تشاركهن أحاديثهن، فحافظت بذلك على خفرها وخجلها بل أن خدودها تتضرج بالحمرة حياء عندما يذكر أمامها أمر الخطبة والزواج،أما الأن فلم تعد تحمر إلا بوضع الأصبغة عليها.
السيدة حسناء عربية الأصل ولدت في أمريكا، ومازالت تقيم فيها. في إحدى اللقاءات التي جمعتنا عبرت لها عن إعجابي الشديد لالتزامها بالحجاب الإسلامي منذ نعومة أظفارها، رغم أنها عاصرت فترة لم تكن المدارس الإسلامية متوفرة في أمريكا فأعادت الأمر إلى الحياء، حيث ربتها والدتها على الحشمة والتمسك بالحجاب وعدم الاختلاط بالرجال، ولقد تعلمت من تجربتها هناك أن تغيير الأفكار عند الناس أسهل من نزع الحياء من نفوسهم إذا كانوا تربوا عليه منذ الصغر.
وتدعو السيدة حسناء إلى عدم جعل الحجاب مجرد عادة عند الفتاة، بل أن نجعل منه وسيلة لتسهيل أداء العبادات وصيانة الأخلاق.
ولكننا نلاحظ الآن أن بعض الأمهات تتساهلن في هذا الأمر، فيسمحن لبناتهن بلبس ما شئن من الثياب، وحجة الأم في ذلك أن تشبع الفتاة رغبتها من لبس مثل تلك الملابس قبل تصبح محرمة عليها شرعاً!
البيت أولاً وأخيراًًَيظل المنزل المنبع الأهم والأول في تنشئة الطفل على الخصال الحميدة ومكارم الأخلاق، وكل ما عداه هي روافد ثانوية، أو رماد بإمكان أي عاصفة أو ريح أن تزيحه ليبقى التوهج الحقيقي لشخصية الإنسان.
والتعرف على أحوال المسلمين في الدول الغربية أكبر برهان على ذلك، فالفتاة الباكستانية حتى ولو ولدت وتربت في بلاد الغرب تبقى محافظة على احتشامها، والفتاة المسلمة في فرنسا وقفت أمام المحاكم حتى لا تنزع حجابها.
وبما أن المجتمع الفاسد لا يشكل أية قوة بالنسبة للحياء فمن الواجب أن نزيد جهودنا لتنميته في نفوس أولادنا وبناتنا، فبالنسبة لي، أنا لا ألبس ابنتي الملابس القصيرة، ولا أعودها على ارتداء ملابس البحر، لا نمي بذرة الحياء الموجودة في نفسها ويصبح من الصعب عليها أن تفكر في عدم الاحتشام، كما أني أظهر استهجاني لكل منظر يخدش الحياء وانتقد كل سلوك لا أوافق عليه، كل ذلك لكي تشب وهي محصنة بالعفة والخفر.
وجوهرة الكلام، يجب أن نعترف جميعاً أن تربية الأطفال وغرس بذرة الحياء في نفوسهم ليس منوطاً بالأسر ة وحدها، إنها مسألة ذات خطوط عديدة ومتشابكة، ولكن ماذا نفعل إذا خرجت كل الخيوط من أيدينا ولم يبق لنا إلا خيط واحد نحركه هنا من منازلنا، إن قصارى ما نستطيع فعله هو أن نمسك هذا الخيط بحزم وبحرص ونحركه بحكمة وحذر، فقد نستطيع أن نحفظ البقية الباقية من ماء الحياء في وجوه أجيالنا.