تدعونا كتابات عدة هذه الأيام إلى ضرورة التحلى بالمسئولية والكف عن النظر إلى الماضى. وعدم المبالغة فى اتهام المسئولين ورجال الأعمال، لتخلص إلى المطالبة بأن ينصرف كل واحد إلى عمله وأن تنفض المظاهرات والاعتصامات، حتى يعود الهدوء والاستقرار إلى ربوع مصر، ويتم تشغيل حالها الواقف. ويبدى أصحاب تلك الكتابات قلقا شديدا على السياحة والاستثمار الأجنبى، كما يبدون تحذيرا مما وصفه أحدهم بالوقوع فى مستنقع الفوضى.
لأول وهلة. لا يستطيع أحد أن يعترض على شىء من هذا الكلام الذى يبدو بريئا فى ظاهره، لكنك إذا دققت فى مقاصده، ولاحظت أسماء كاتبيه فستكتشف أنه من قبيل الحق الذى يراد به باطل. حيث الدفاع عن الذات فيه مقدم على الدفاع عن الوطن أو المستقبل، كما أن رائحة النفاق فيه تفوح بوضوح.
لا أريد أن أسمى حتى لا أحرج أحدا، فضلا أننى واثق من أن أى قارئ بات يعرف جيدا من الذى يدافع حقا عن الوطن وحلمه، ومن الذى يدافع عن ثروته وأسياده. لكننى أريد أن أقول إنه كما أن بعض الشرفاء رفعوا فى العهد السابق شعار «كفاية» لحكم الطغيان، فإن أصحابنا هؤلاء باتوا يرفعون فى طيات كلامهم الشعار ذاته لهدف آخر تماما هو «كفاية» للثورة ونداءاتها.
التركيز المستمر على وقف التظاهرات لا يراد به وقف الفوضى، وإنما يستهدف إسكات صوت الجماهير، الذى يخوف هؤلاء ويثير فزعهم استحضار الصوت وترديده فى الفضاء المصرى. ولهذا السبب بالذات فإننى أدعو إلى استمرار التظاهرات وعدم إيقافها تحت أى ذريعة. وللدقة فإننى لست معنيا بإزعاج فلول النظام السابق بقدر عنايتى باستمرار ارتفاع ذلك الصوت لكى يصل إلى كل الأطراف. فإلى جانب أنه يبعث بتحذير إلى تلك الفلول لكى تلزم حدودها. أو جحورها، فإنه يوجه رسالة أخرى إلى القابضين على الزمام الآن تنبهم إلى أن جماهير الثورة ستظل مستنفرة ومفتوحة الأعين، حتى يتحقق مطلبها الأساسى المتمثل فى إسقاط نظام مبارك وطى صفحته.
الرسالة الثانيةهى الأهم، لأننى أزعم أنه لا تتوفر فى مصر وسيلة لإعلان التمسك بالمطالب والضغط لتحقيقها سوى التظاهرات التى تخرج إلى الشارع، الذى أصبح المنبر الوحيد للجهر بالرأى وتوجيه المطالب إلى قادة الجيش. إذ بعد تجفيف الحياة السياسية عبر سد قنواتها وإماتة خلاياها صار الشارع هو الحل. وما حدث فى ميدان التحرير وغيره من ميادين مصر فى طول البلاد وعرضها يؤكد هذه الحقيقة. إذ لولا ذلك الخروج الكبير لما تحرك شىء فى مصر ولما تزلزلت أركان دولة الفساد والظلم.
فى ضوء هذه الخلفية فإن السؤال الذى ينبغى أن يطرح ليس ما إذا كانت التظاهرات تستمر أم لا، وإنما هو كيف يمكن لها أن تستمر بما يخدم أهداف الثورة ولا يثير الفوضى ولا يصيب الحركة فى البلد بالشلل. أتحدث هنا عن مطالب الثورة وليس عن التظاهرات الفئوية، التى أحسب أنها ينبغى أن تعالج فى إطار كل قطاع، إما برفع المظالم الواقعة على العاملين، أو الوعد بتحقيق المطالب الاجتماعية فى آجال معلومة. علما بأنه لو كانت لدينا نقابات عمالية محترمة، مختلفة عن تلك التى أدارتها أجهزة أمن الدولة فى السابق، لصار التعامل مع تلك المطالب أيسر ولكانت خسائر الإضرابات أقل بكثير.
استمرار التظاهر واجب الوقت