حوار بين المستضعفين والمستكبرين من أهل النار
بعد أن يستقر أهل النار في قرارهم البئيس، ويوقنوا بباطل ما كانوا عليه في الدنيا، وأنه هو الذي أوردهم المهالك تحدث حوارات وعتابات بين أهلها الذين كانوا مستضعفين في الدنيا والمستكبرين الذين أمروهم بالمعصية وكانوا سببا في مرافقتهم إياهم في الجحيم.
ولكن هذه العتابات لا تجدي ولا تنفع شيئا؛ فالموازين قد وضعت، وحكم بين العباد بالقسط؛ فالاستضعاف في الدنيا لا يبرر الخضوع والاستسلام للمستكبرين الظالمين؛ فهذا لا يغني عنهم من الله شيئا؛ بل سيكونون رفقاء في النار كما أوضح القرآن في العديد من المواضع.
من ذلك ما ذكره تعالى في سورة سبأ، حينما يصف حال الظالمين بين يدي ربهم {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلاَ أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ}.. أنتم سبب هلاكنا وسبب بعدنا عن الإيمان فقد أطعناكم في معصية الله تعالى، فيأتي رد المستكبرين {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُم مُّجْرِمِينَ}؛ أي أنكم كنتم مهيئين للإجرام والظلم.
ويستمر الحوار ويرد المستضعفون {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا}، ثم يعقب القرآن واصفا حالهم {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأغْلاَلَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
ومن هذه الحوارات أيضا ما ذكره -عز وجل- في سورة الصافات حينما يرى العصاة مصيرهم المشئوم {وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ * هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}، ثم تنقل عنهم الآيات حوارهم {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ}؛ أي كنتم تأتوننا عن طريق الهداية والطاعة وتصدوننا عنه.
فيرد عليهم المستكبرون لومهم على أنفسهم {قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ * فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ}، ثم يأتي التعقيب القرآني ليجمع الفريقين معا في مصير واحد {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ}.
ويبلغ الأمر مداه وترتسم الصورة واضحة معبرة عن الحالة البئيسة التي يعاني منها الجميع، وذلك في موضع آخر من القرآن في سورة (غافر) بعد أن تحدثت عن رمز الظلم والطغيان والاستكبار في الأرض عن فرعون الذي جعل نفسه إلهًا من دون الله.
فتأتي الآيات لترسم صورة كل مستكبر ومن اتبعه في النار {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ}؛ فهل بخدمتنا لكم في الدنيا واستسلامنا لكم تدفعون عنا ولو جزءًا صغيرًا من العذاب والنار.
فيأتيهم الرد الأكثر بؤسا وندما {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ}؛ فالحال واحد، ولو استطعنا لدفعنا عن أنفسنا شيئا من هذا العذاب، ولكنه حكم الله العادل بين عباده.