الأستاذ محمد البخاتي
في السنوات الأربع الأولي من المرحلة الإبتدائية لم نكد نعرفه ، فهو لا ينشغل بغير عمله ، ولم تك هذه الصفوف الأربع في مقتبل الثمانينات من مشغولياته ، في الصف الخامس دخل علينا الفصل للمرة الأولي مرتديا بلوفر صوف وبنطلون مكوي وحذاء وشراب ولكن أكثر ما لفت نظرنا فيه هى تلك النظارة المعدنية فالغالبية يستعملون النظارات البلاستيكية السوداء أما تلك فكانت من معدن أصفر وزجاجها لم يكن بالسميك ، كانت حصة حساب ، كتب التاريخ وفي وسط السبورة كتب الأعداد النسبية ، ثم التفت الينا وجعل يشرح بطريقة منتظمة جدا لا يستبق المعلومات ولا يستدبرها وإنما في كل لحظة تعرف الجديد معرجا على القديم .
- شخصيته العسكرية أثرت فينا أيما تأثير ، نظراته القوية ،كلماته الحاسمة ، مواجة تحديات المنهج بدون ( لف ولا دوران ) ، عقوباته الرادعة ، العدالة الكاملة في الفصل بين الجميع بلا أي تمييز من أي نوع ، لم أكد أره في هذا العام يبتسم أبدا ولكني للمرة الأولي رأيت مدرسا يصلي في الفصل وكانت حصة اضافية ونظرا لعدم وجود سجادة صلاة فقد صلي فوق التخته وكنا جميعا نحدق فيه اثناء الصلاة ، في هذا العام تأثرنا جميعا بشخصيته حتي أنا كنا نقلده في الكلام و في النظرات وحتي في طريقة الكتابة التي اعتمد فيها على الخطوط المستقيمة فتشعر أن كتابته تم استخدام المسطرة فيها .
كنت مستمعا ( غير اساسي في الفصل ) وكنت أشعر بالتمييز العنصري في الفصل على أساس من القيد في دفتر المدرسين ما عدا الأستاذ محمد الذي لم يكن لديه نظرة مع من يتعامل فكنا نظن جميعا أننا مكائن المانية تتحرك بالإشارة وتتكلم بالإذن حتي إذا جاءت العقوبة تجد نفسك راضيا مرضيا بها فهي على قدر الخطأ بالتمام والكمال وكأن ( البوصة الخرزان ) التي لم نره أبدا بدونها تحتوي على كمبيوتر يقدر الخطأ وعدد ( العصيان ) ومكان الضرب من اليد ( الوش ، الظهر أم القرقوشة ) ثم تجلس باكيا كنت أو صابرا ولكنك مقتنع تماما بأن ما نالك من العذاب كان على أساس واضح وهو ( لا تظلمون ولا تظلمون ) حتي إذا خرج من الفصل ثم عاد اليه بعد برهة ليعاقبه عقابا جماعيا بسبب الصياح أو الفوضي استني من العقوبة مديحة شرف وصفاء حامد الأولي لهدوئها الجم والثانية لانها تنشغل دائما بالقراءة في الحصة دون الكلام سواء في حضور المدرس أو غيابه وتجد الجميع راضيا بهذين الإستثناءين العادلين أيما رضا . ولا نعرف لماذا تركنا الأستاذ محمد البخاتي بعد أجازة نصف العام واستبدل بمدرس آخر لا يشترك معه في اي شئ سوي في الإسم يقتسم الحصة بالتساوي نصفها الأول يشرح فيه الدرس ونصفها الثاني يحدثنا عن المغامرات العاطفية التي مر بها أثناء دراسته في مدرسة الصنايع .
- في الصف السادس درس لنا منهج العلوم لم يكن غريبا علينا أسلوبه العسكري وسمته الجاد فمن بداية العام الدراسي ومنهج العلوم يحتل المرتبة الأولي في اهتماماتنا ففي الحصة يتم التخطيط تحت المهم ويوضع فوق الخط سؤال والحصة التالية تبدأ بإجابة الأسئلة التي كانت في السابقة والعقوبات الرادعة لا تسمح بغير الحفظ أولا بأول وإلا ..... .
كان الرسم التوضيحي للجهاز الهضمي في الكتاب عبارة عن مقطع طولي في بطن يبدأ بالفم ثم البلعوم فالمرئ ثم المعدة فالأمعاء الدقيقة ثم الغليظة ولكنه أمرنا ان ننسي رسم الكتاب لانه صعب وجعل يرسم لنا رسما أخر بطريقته العسكرية المنتظمة حتي إذا جاء عند اتصال الأثني عشر وهى جزء من الأمعاء الدقيقة بغدتي الكبد والبنكرياس قال انتبهوا فهى نقطة هامة وتلك هى طريقة رسمها ثم رسمها بطريقة معينة حفرت في أذهاننا ، واليوم وبعد مرور ما يقرب من ثلاثين عاما على ذلك لازلت كلما شرد ذهني وأنا ممسك قلمي في أي اجتماع أو في المحكمة ارسم بدون وعي اتصال الإثني عشر بغدتي الكبد والبنكرياس ثم انتبه لأنظر في الرسم ولأتذكر الأستاذ محمد البخاتي ويحدث هذا عادة مرة أو مرتين في اليوم . ولم أنس أبدا أن فيتامين ب يوجد في الزبد والكبد والفول السوداني وأعتقد أن محمد عيار وابراهيم الهواري ما زالوا يحفظون أجزاء الجهاز التنفسي كرررررر.
- كان للصف السادس أهمية كبري في بلدنا ففضلا عن كونه شهادة القبول فإنه كان أيضا محل المنافسة بين المدارس وكان طبيعة الأستاذ محمد ألا ينشغل بغير ما هو مكلف به وظننا أننا بعد أن نخرج من المدرسة قد خرجنا من دائرة اهتماماته فقررنا أن نأخذ قسطا من الكرة وهو قسط يومي لازم وللمفاجأة فقد مر بنا في الملعب فأمرنا بالوقوف كل في مكانه وتناول عصا من الأرض وأخذ كل واحد منا نصيبه في الشارع أمام الجمهور والبنات وللحق فقد كان نصيبي هو الأقل ربما لأنني كنت الحكم .
كانت المرة الأولي التي أري فيها شقة بالكامل ( مدهونة زيت ) عندما ذهبنا إلي الدرس للمرة الأولي في منزله وكانت المرة الأولي أيضا التي أري فيها ستائر على النوافذ الزجاجية وكانت أغلب الشبابيك في بلدنا في هذا الوقت مغطاه ( بشكارة كيماوي يوريا 33% أزوت وعلى الشكارة صورة لوجه فلاح بالمقلوب ) . كنا ( حبيبة ) ففلان يحب فلانة وفلان التاني يحب فلانة التانية واليوم الدراسي ملئ بالإبتسامات والنظرات اما حصة العلوم ... فلا وألف لا إذا دخل علينا شخصت ابصارنا وقدحنا أذهاننا فالأمر جد الجد والشرح منطقي ومنتظم والفهم متاح ولا تمييز بين من يأخذ درس ومن لا يأخذ والأسئلة لها اجوبة فورية شافية فإن لم يرضك هذا كله فالعقوبة الرادعة الفورية أقرب اليك من حبل الوريد .
جاء ليهنئني على نجاحي في القبول وأعطاني جنيها وكان مختلفا تماما في ذلك اليوم فقد كان مبتسما وجعل يداعبني ويمازحني كثيرا بينما أنا مندهش جدا فلأول مرة أكتشف الوجه الآخر لشخصيته الفريدة ولم اضحك ولم ابتسم فحتي وهو في بيتنا كنت أخشاه وكم تمنيت بعد أن كبرت أن اجلس معه مرة اخري لأبادله المزاج والإبتسام لأعوض تلك الجلسة التي لم تتكرر على مدار السنين .