لم يدع الرسول صلى الله عليه وسلم اجتماع المسلمين في عرفه في حجة الوداع هذا التجمع العظيم يذهب سدى فأراد عليه السلام استغلال ذلك لتقرير قواعد عظيمة في الإسلام ودروس تظل مع المسلمين حتى تقوم الساعة، فلقد جاء في كتب السنة الصحيحة ان النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم عرفه خطبة عظيمة اقتطف منها:
(ان دماءكم واموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، الا ان كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ودماء الجاهلية موضوعة وان أول دم اضع من دمائنا دم إبن ربعية بن الحارث بن عبد المطلب، وربا الجاهلية موضوع وأول ربا اضع ربانا، ربا عباس بن عبد المطلب فانه كله موضوع فاتقوا الله في النساء فانكم اخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله وان لكم عليهن ان لا يوطئن فراشكم أحدا تكرهونه فان فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف واني قد تركت فيكم ما ن تضلوا بعدي ان اعتصمتم به كتاب الله وانتم مسؤولون عني فما انتم قائلون؟
قالوا: نشهد انك قد بلغت رسالات ربك وأديت ونصحت لامتك وقضيت الذي عليك. فقال: باصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس، اللهم اشهد. اللهم اشهد) رواه مسلم وابو داود وابن ماجة والدارمي.
اشتملت هذه الخطبة العظيمة على قواعد كبيرة من قواعد الإسلام ودروس وفوائد للأمة الإسلامية في كل زمان منها ما يلي:
* تأكيد حرمة المسلم وحريته وكرامته فانه لا يحل دمه ولا ماله الا بسبب يبيح ذلك ولقد أكد عليه السلام هذا الأمر في احاديث عدة منها قوله: (كل مسلم على المسلم حرام، دمه وماله، وعرضه) رواه الشيخان. و وبذلك يقرر عليه السلام حقوق الإنسان وحرمة الاعتداء عليها فهي لا تقل شأنا عن حرمة الأشهر الحرم والمسجد الحرام.
* رفض الرسول صلى الله عليه وسلم جميع العادات الجاهلية التي لم يقرها الإسلام ويعتبرها باطلة ومرفوضة يجب عدم العمل بها فهي موضوعة تحت قدمية الشريفتين كناية عن حقارتها ورفضها وهي كثيرة أكد القراَن الكريم رفضها في آيات عدة منها قوله تعالى : ( يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ) آل عمران (154) وقوله تعالى أيضاً : ( أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ) المائدة ( 50 ) . كما اكدها عليه السلام في عدة احاديث مثل قوله عليه السلام : ( ان الله اذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالاباء) رواه أبو داود . والجاهلية التي رفضها عليه الصلاة والسلام في خطبته بوحي من الله تعالى على نوعين: الأول : جاهلية الاعتقاد : وهي الكفر بالله تعالى أو الشرك به سواء الشرك الأكبر أو الاصغر. الثاني: جاهلية السلوك: وهي ان يصدر من العبد سلوك مخالف للمنهج الإسلامي مشابه لمنهج الكافرين أو المشركين من غير استباحة له فإذا استباحه تحول من جاهلية السلوك إلى جاهلية الاعتقاد.
* أكد عليه الصلاة والسلام صيانة الدماء وحرمتها التي صانها تعالى بفرض العقوبة على من اعتدى عليها بالقصاص بقوله تعلى: ( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون) البقرة (179). وبنصوص القراَن والسنة التي تحرم الاعتداء على الدماء حسم الإسلام فوضى الشرائع السابقة التي لا تحرم الدماء وتصونها.
* تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من التعامل بالربا واكله ولقد اجتمعت من القراَن والسنة الزواجر من التعامل بالربا مثل قوله تعالى: (أحل الله البيع وحرم الربا) وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله) البقرة (279). وقوله تعالى: (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) البقرة (275). كما عده النبي صلى الله عليه وسلم من الموبقات التي تهلك صاحبها في الدنيا والاخرة، كما جاء في حديث إبن مسعود قال: (ولعن رسول الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه) رواه مسلم
* أكد عليه السلام في هذه الخطبة على حق المرأة ودورها في المجتمع فهي انسانة لها كرامتها واحترامها كالرجل تماماً فهي تمثل نصف البشرية وتلد النصف الثاني فتصير بذلك الأمة كلها، ولقد نبه عليه السلام إلى مكانة المرأة وضرورة احترامها لأنها كانت مهانة في الجاهلية استعبدها الرجل في ذلة ومهانة واستعملها لحاجاته فقط ولقد عاب القراَن هذه المكانة بقوله: (وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به) النحل (58). فجاء الإسلام واكرمها يرفع منزلتها قال تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) التوبة (71). وقوله تعالى: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف) البقرة (228) كما حث عليه السلام على مراعاة حق النساء وأوصى بهن وخاصة الزوجات فدعا إلى معاشرتهن بالمعروف وفي الحديث: (استوصوا بالنساء خيراً) متفق عليه. وفي حديث آخر: (خياركم خياركم لنسائهم) رواه أحمد والترمذي.
* أكد عليه الصلاة والسلام على ضرورة الاعتصام بكتاب الله تعالى الذي انزله على رسوله الكريم ليخرج الناس من الظلمات إلى النور وليكون شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين، قال تعالى: (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربّكم وشفاء لما في الصدور ورحمة للمؤمنين) يونس (57)