حالات الإكراه والضرورة
في فتح القدير (ج 20 / 447) :
الإِكْرَاهَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ حَمْلِ الإِنْسَانِ عَلَى شَيْءٍ يَكْرَهُهُ ، يُقَالُ أَكْرَهْت فُلانًا إكْرَاهًا : أَيْ حَمَلْته عَلَى أَمْرٍ يَكْرَهُهُ ،
وَأَمَّا فِي اصْطِلاحِ الْفُقَهَاءِ فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ الإِكْرَاهَ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ الْمَرْءُ بِغَيْرِهِ فَيَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْعَدِمَ بِهِ الأَهْلِيَّةُ فِي حَقِّ الْمُكْرَهِ أَوْ يَسْقُطُ عَنْهُ الْخِطَابُ ، فَإِنَّ الْمُكْرَهَ مُبْتَلًى وَالابْتِلاءُ يُقَرِّرُ الْخِطَابَ.ا.هـ
(1) إكراه الإجبار (الملجئ):
وهو ما يستخدم فيه الإنسان كالآلة حيث ينعدم الرضا والاختيار تماما وتنفي الإرادة والقصد,ولا يمكن دفعه بحال ,
يسبقه إسلام أظهره صاحبه للناس أو فيما بينه وبين الله والإجبار يمنع وقوع التكييف الشرعي للفعل فكأنه لم يقع
وذلك بالوقوع تحت تعذيب شديد يتلف الإرادة ويسقط مسئولية الإنسان عن أقواله وأفعاله وهو مرتبط برخصة ( إن عادوا فعد ) واختلفت فيه مواقف بلال عن عمار رضي الله عنهما ونزلت فيه آية النحل [مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] {النحل:106}, بحيث تكون أفعاله وأقواله كأفعال العجماوات والجمادات .
(2) إكراه التهديد :
موقف عارض , حيث ينعدم الرضا ولا ينعدم الاختيار تماما .
- إذا كان في القول الذي لا يترتب عليه أثره بالضرورة فهو خداع للمكرِه يرفع الله به الإثم عن صاحبه
– وإذا كان في العمل ( عمل الكفر والشرك ) فإنه لا يجوز الاستجابة لهذا الإكراه.
حديث ( لا تشرك بالله شيئا وإن قتلت وإن حرقت ) ( صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة ) ( قرب ولو ذبابا قال ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله عز وجل فضربوا عنقه فدخل الجنة ) وأصحاب الأخدود وامرأة فرعون وماشطة فرعون وقال تعالى [قَالَ المَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ(88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الفَاتِحِينَ(89) ]. {الأعراف}. [وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ] {يوسف:38} ,
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « خذوا العطاء مادام عطاءً، فإذا صار رشوة على الدين فلا تأخذوه ولستم بتاركيه، يمنعكم من ذلك الفقر والحاجة، ألا إن رحى الإسلام دائرة، فدوروا مع الكتاب حيث دار.ألا إن الكتاب والسلطان سيفترقان، فلا تفارقوا الكتاب، ألا إنه سيكون عليكم أمراء يقضون لأنفسهم ما لا يقضون عليكم، إن عصيتموهم قتلوكم وإن أطعتموهم أضلوكم » قالوا: يا رسول الله كيف نصنع؟ قال صلى الله عليه وسلم: « كما صنع أصحاب عيسى بن مريم عليه السلام نُشروا بالمناشير وحُملوا على الخشب، موت في طاعة الله خير من حياة في معصية الله » أخرجه أبو نعيم في باب يزيد بن مرثد، 5/165،وفي مجمع الزوائد
وفي معرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني ( 7 / 23) :
عن خباب رضي الله عنه قال : « شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع في بردة له في ظل الكعبة ، فقلنا : ألا تدعو الله لنا ؟ ألا تستنصر الله لنا ؟ فجلس محمرا وجهه ، ثم قال «والله إن من كان قبلكم ليؤخذ الرجل فيشق باثنتين ما يصرفه عن دينه من شيء ، أو يمشط بأمشاط الحديد ما بين عصب ولحم ما يصرفه عن دينه شيء ، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب منكم من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه ، ولكنكم قوم تعجلون »,
وأجمع الأئمة والفقهاء أن القتل لا يباح بالإكراه :
( لا يجوز قتل النفس لإحياء نفس أخرى) ابن عثيمين شرح الأربعين النووية
يقول النووي في شرح مسلم :
( القتل لا يباح بالإكراه بل يأثم المكرَه على المأمور به بالإجماع وقد نقل القاضي عياض وغيره فيه الإجماع وقال أصحابنا وكذا الزنا لا يرفع الإثم فيه هذا إذا أكرهت المرأة متى مكنت من نفسها وأما إذا ربطت ولم يمكنها مدافعته فلا إثم والله أعلم ) ا.هـ
وكذلك لا يجوز في رأس المحرمات من أعمال الشرك والكفر,
وفي إكراه التهديد تنقسم الأفعال إزاءه ثلاثة أقسام :
- ما يباح للإكراه والضرورة كأكل الميتة ولحم الخنزير وشرب الخمر بما يكفي لعدم الهلاك
- ما يرخص فيه للإكراه لكن العزيمة أفضل كالنطق بكلمة الكفر مع اطمئنان القلب بالإيمان
- ما لا يباح بحال من الأحوال كالزنا والقتل ومن باب أولى أعمال الشرك والكفر
(3) الاستضعاف: تحت وضع مفروض عليه لتغيير الملة بشكل دائم كالمقيم بمكة بعد هجرة المسلمين عنها والمقيم تحت قهر الأنظمة والقوانين الوضعية :-
(1) فإذا عجز عن دفعه والخروج منه بعد استفراغ الوسع مهما كانت التضحيات فهذا عسى الله أن يعفو عنه قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا(97) إِلَّا المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا(98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا(99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا(100) ]. {النساء}. , وعسى من الله موجبة وجيء بها للتشديد وبذل أقصى الجهد فليتأكد تماما أنه لا يجد حيلة 0
قال ابن عباس : كنت أنا وأمي ممن عذر الله , من المستضعفين من النساء والولدان.
وقد أمر ضمرة بن العيص الزرقي أولاده أن يحملوه إلى المدينة وكان شيخا مريضا مصاب البصر بمكة فحضرته الوفاة فضرب بيده على الأخرى وهو يقول هذه لك وهذه لرسولك ومات بالتنعيم. خرج من مكة وهو يقول إني أجد حيلة (الموافقات)
(2) أما إذا كان قادرا على الدفع أو الخروج ولم يفعل هربا من التضحيات وإيثارا للعافية فهو يتحمل مسئولية بقائه ,
قال ابن عباس :
( كان قوم من أهل مكة أسلموا وكانوا يستخفون بالإسلام فأخرجهم المشركون يوم بدر فأصيب بعضهم قال بعض المسلمين كان أصحابنا هؤلاء مسلمين فاستغفروا لهم فنزلت الآية [إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ...] فكتب إلى من بقى منهم بهذه الآية أن لا عذر لكم فخرجوا فلقحهم المشركون فأعطوهم التقية فنزلت [وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ العَالَمِينَ] {العنكبوت:10} ) أ.هـ
فهؤلاء خرجوا عندما علموا أن لا عذر لهم ثم آثروا العافية عند أقل إيذاء فلم يكن بقاؤهم لعدم الحيلة وإنما لإيثار العافية فنزل فيهم ذلك ,
وفي لباب النقول للسيوطي:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أيضا من بقي منهم في مكة بآية العنكبوت فخرج قوم وأصروا على الهجرة وهاجروا رغم ممانعة المشركين فأنزل الله عز وجل فيهم [ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ] {النحل:110} ) ا.هـ ,
وصدق الله العظيم إذ يقول [وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا القُرْآَنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ القَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ(31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ(32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا العَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(33) ]. {سبأ}.
وحد الاستضعاف :هو تعذر الانتقال وعدم استطاعة تغيير الحال
فمن أنكر سلم ومن كره برئ ولكن من رضي وتابع , فأقل ما يتحقق به الإيمان أن يعلم الله من قلبه أنه منكر وكاره , ودلالة الكره اعتزال الشرك والكفر وعدم المشايعة بالعمل ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ,
قال الطبري في تفسير التقية :
( إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافونهم على أنفسكم فتظهرون لهم الولاية بألسنتكم وتعمدوا إلى العداوة ولا تشيعوهم على ما هم عليه من الكفر ولا تعينوهم على مسلم بفعل..) ا.هـ