هذا المقال تم نشره اليوم علي موقع اخوان كفر الشيخ
http://www.kfrelshikh.com/news_Details.aspx?Kind=7&News_ID=13427
لست أنسي يوما في شهر مايو استأجرت فيه خمسة من مشاهير ضم القمح في قريتنا لحصاد " دورة " ست عشرة قيراطا ويبدو أنهم قد استشعروا فيَ بعض الجهل بالموضوع ككل حالة أني عامئذ كنت فلاحا بالصدفة بناء على نصيحة صديق لم يصدقن النصحية ، حتي إذا ما أذن الظهر حملوا مناجلهم وانصرفوا معللين ذلك بأن " عرف الضم " من الصباح حتي الظهر فقط ولما كنت لا أعرف قواعد وأعراف " ضم الغلة " فقد أذعنت لقوانين الحصاد وشجعني على هذا الإذعان أن " الأنفار " كانوا قد قبضوا أجرتهم مقدما كما أن حديثهم إليَ تم وهم في طريقهم بالفعل إلي بيوتهم بعد الصلاة .
رغم أنه ليس ثمة رابط قوي بين ما حدث لي في ذلك اليوم وبين موضوع الإضراب إلا أنهما يشتركان في الأطراف والوسط ، فأما الأطراف فهم قبول العمل وقبض الأجر والإنصراف قبل إتمامه وأما الوسط فهو تفويت الهدف من عقد العمل .
والإضراب قد يكون جريمة في بعض القوانين وقد يكون مجرد خطأ مدني يستوجب التعويض وقد يكون مشروعا باعتباره وسيلة للتعبير عن الشعور بالقهر والظلم الذي ينتاب طبقة العمال خاصة في النظم الرأسمالية التي تستهدف المنشآت الإقتصادية فيها تحقيق الربح مهما يكلف ذلك من ضغط على العمال وسحق لأجسادهم والإعتداء على أوقات الراحة والتريض والترفيه ، والغريب أن الثورات العمالية التي تتلو تلك الإضرابات وتصل بالعمال إلي سدرة الحكم تنتهي بأنظمة قمعية تحرم اول ما تحرم باسم الإنتاج والتنمية كل صور الإضرابات و تصادر باسم عجلة العمل فيما تصادر الحريات والحقوق ، وينكر الحكام الجدد - من العمال السابقين - حقوق من كانوا يوما زملاءهم من العمال الحاليين ، بما يستدعي ثورة أخري ضد الفساد والقمع ويتجه فيها الثوار الجدد إلي الأخذ بآليات السوق باعتبارها هى الناموس الطبيعي السائد ليس فقط بين بني البشر وإنما في كل تجمعات الكائنات الأرضية بل .. والبحرية ايضا عندما يأكل السمك الكبير اخوانه من الأسماك الصغيرة ... وهكذا دواليك تأتي ثوراتهم تتري كلما جاءت ثورة لعنت أختها .
في فرنسا و في حقبة السبعينات ابتدع عمال الجمارك فكرة اضراب تقوم على الدقة في العمل فيما عرف " باضراب الهمة " حيث القوانين تقضي بتفتيش امتعة القادمين الي البلاد لفرض الضريبة الجمركية عليها ولكن التعليمات الشفوية كانت تقضي بالتفتيش الظاهري والتدقيق في ما لا يزيد على عشرة في المائة فقط حتي يستطيع العدد المتاح من الموظفين انجاز العمل في وقت يفسح المجال لرحلات أخري أن تدخل إلي صالة الأمتعة ، وقرر الموظفون الإضراب فقاموا بتطبيق القانون دون التعليمات الشفوية وجعلوا يفحصون كل البضائع والامتعة ، واستلزم ذلك منهم العمل بعد الدوام الرسمي ، وبالفعل لم يذهبوا الي بيوتهم بل جعلوا يعملون ويعملون بمنتهي الدقة حتي جاءت رحلات وراء رحلات وتكدست أعداد الركاب في المطار حتي وصل إلي حالة من الشلل التام في المطار رغم تفاني العمال في أداء وظيفتهم حتي بعد الأوقات الرسمية .
على ما يبدو أننا قد دخلنا عهدا جديدا من علاقات العمل والعمال يختلط فيها المشروع مع غير المشروع والإضراب المستحق مع " الإستعباط والإستهبال " ، و الأمر لأهميته ودقته يستلزم منا بعض التدقيق في المسألة واستلهام تجارب الآخرين مع التركيز على خبرتنا المصرية في الموضوع ويجدر هنا أن ألفت النظر إلي بعض المسائل التي لا تغيب عن فطنة القارئ :
1- بعد عام أو عامين من عملي في المحاماة – لضعف ملكة الملاحظة عندي – فقد استرعي انتباهي كون تسعون في المائة من موظفي محكمة قلين تقريبا وعددهم يزيد على المائتين من قريتين اثنتين دون باقي القري والمركز ولما استفسرت عن السبب أخبروني بأن هاتين القريتين بهما عدد من المستشارين كانوا كلما أعلن عن ثمة وظائف في وزراة العدل قاموا بتعيين أقاربهم بالواسطة دونما اختبارات و لا مؤهلات ، وأن هؤلاء المستشارين من القوة والسطوة بحيث لا يمكن الجدل فيما يقررون ولا المناقشة فيما يقضون . وهكذا تقريبا كل قطاعات الدولة من البترول والري والخارجية والشرطة والتعليم والأوقاف والأزهر بل وحتي لعب الكرة في الأندية الكبري والتمثيل رغم أنها أعمال تحتاج إلي مواهب وملكات خاصة وامتد الامر ايضا الي عمال النظافة ودورات المياه في المواقف العامة و محطات القطار . تذكرت مثال وزارة العدل بالذات عندما رأيت هؤلاء الموظفين يضربون عن العمل احتجاجا على عدم مساواتهم بالقضاة في الرواتب والرعاية الصحية بل والزام القضاة والمستشارين حدود الأدب في التعامل معهم ورغم أن الأمر لا يخلو مما يثير السخرية إلا أن من يعمل في هذا المجال يعلم أن كثيرا من القضاة يتركون لسكرتارية الجلسات تحقيق مسائل الوراثات وبعض مسائل الأحوال الشخصية وأحيانا الحكم في بعض مسائل الجنح البسيطة كالتبديد وجنح المرور فربما ظنوا أنهم قد أصبحوا قضاة بالفعل مع تكرار التسيب والإنفلات .
2- لست أعني هنا القدح في حقوق هؤلاء في العمل الذي تحول سوقه - في عهد المخلوعين والمقتولين والمسمومين والمحبوسين والهاربين والمنتظرين للخروج الآمن - إلي غابة يسحق فيها القوي الضعيف ، إنما من اللازم الضروري إنهاء تلك الثقافة الهزلية الإجرامية التي وصلت بنا إلي ظاهرة الموظف الجاهل لمفردات واجبات وظيفته كونه غير مؤهل لها غير قادر على النهوض بأعبائها أو ذلك الموظف " المفتح المرتشي " أو تلك الموظفة التي تخبئ في درج مكتبها سكينا وبطاطس وملوخية ومخرطة ، نعم لست أقدح في عمل هؤلاء الذين ينطبق عليهم قول ايليا أبو ماضي :
جئت لا أعرف من أين ولكني أتيت : ووجدت قدامي طريقا فمشيت
ولكني أقدح في أن تتحول الدولة مع الوقت إلي غابة تعج بالصراعات الطبقية خاصة مع انفتاح الحريات على مصراعيها ومما يؤجج تلك الصراعات ما يسمعه الموظفون والعمال كل يوم عن مناجم الذهب المنهوبة ومليارات الغاز المسلوبة وملايين الأفدنة " الساقعة " دون ثمة اجراءات حاسمة ضد اللصوص توقف نزيف افكار المطحونين والمنهوبين والإشتراكيين واليساريين والشيوعيين والمعذبين في الأسحار .
3- أعتقد أن ثمة أجراءات واجبة فورا لوقف تطور فكرة الإضراب في عقول الطبقات المطحونة ونحن منهم – بلا شك – قبل أن تتسع الهوة في الأفكار ويصبح الضغط والتجمعات وسيلة ناجحة لإحداث الفوضي وضرب الإقتصاد ، وهنا أعتقد أن الحل يكمن في تحقيق الحد الأقصي من العدالة وفي أسرع وقت بالقصاص ممن نهبوا البلاد واعادة أراضيهم وأملاكهم إلي أصحابها كما يكمن الحل أيضا في التهديد باحلال العمالة المعطلة في قوائم المنتظرين للعمل من المؤهلين مكان المضربين في حالة كان الإضراب غير مشروع ، ويكمن أولا وأخيرا في التعريف بفكرة الجهاد والرباط والصبر وجزاؤهم في الدنيا والأخرة والتعريف بخطورة القاعدين والمعوقين والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا .
