شتاء عام 1986 وفور أن يخرج أبي بعد العشاء أحضر الراديو من حجرته وأقترب من النافذة حتي أستطيع التقاط إذاعة " صوت مصر العربية من دمشق " ، كنت مولعا بأصوات المذيعين في تلك المحطة وهم يحضون الشعب المصري على الثورة انتقاما لإعدام الشهيد سليمان خاطر في محبسة بعد أن دافع عن التراب الوطني ضد الصهاينة المجرمين ، كانت الكلمات الثورية والعبارات الساخنة تلهب مشاعري وكانت الأغاني والأناشيد التي يطلقونها في تلك الإذاعة شبه محرمة في التليفزيون والإذاعة المصرية من أمثال " خلي السلاح صاحي " و " دع سمائي " ثم تأتي خطبة قصيرة لحافظ الأسد الدي لا يعدم صوتا جهورا ليقول في كل مرة " فليلغ حسني مبارك معاهدة السلام مع العدو الصهيوني ندعوه بطلا في تاريخ أمتنا المجيدة " ، لم تكن للخمسة عشر عاما اللائي لم أبلغهن بعد قدرة على فهم هذا اللون الجديد من الخداع والوهم ، ولم أكن أعلم أن الزعيم الدي يحضنا على الثورة قد فرغ لتوه من إبادة أكثر من عشرين ألفا من أفراد شعبه الدين خرجوا ثائرين على ظلمه وطغيانه وجبروته في مدينة حماة وغيرها من المدن السورية وأنه في الوقت الدي يقشعر جلدي فيه من خطبته القومية تكوي وتسلخ جلود طالبي الحرية والعدالة والمساواة غير بعيد من منبر الزعيم الدي اتخد رأسه شكلا مشابها " للبلاصي المقلوب " .
لم تكن الأيام السابقة على تولي حافظ الأسد مقاليد كل شئ في سوريا شديدة الصفاء حتي نقول أنه تولي الحكم في يوم عبوس ، بل سبقه ناصريون استلهموا روح الزعيم الملهم في شخص نائبه عبد الحكيم عامر الدي وجد ضالته في البلاد الجميلة ورفع شعار منتدي قريش " اليوم خمر ونساء وغدا حرب مع محمد " وبعد انقلاب ارتفعت فيه رايات الوطنية واعلاء شأن الشخصية السورية تولي حزب البعث بقيادة منظره ومؤسسه ميشيل عفلق مقاليد السلطة التي لم تدم له طويلا كسابقيه وبانقلاب ثالث تولي صلاح جديد أحد كبار الضباط رئاسة البلاد وتولي حافظ الأسد وزارة الدفاع بينما تولي مصطفي طلاس رئاسة الأركان وأثناء أحداث أيلول بين الملك حسين و الفلسطنيين حاول صلاح جديد مساعدة الفلسطنيين بارسال قوات ورفض حافظ الأسد توفير الغطاء الجوي لهم مما استدعي قيام الرئيس باقالة حافظ الأسد الدي رفض الإقالة وانقلب هو ورئيس الأركان على الرئيس فيما عرف بحركة التصحيح والتي تزامنت معها حركة تصحيح السادات في مصر بأشهر معدودة .
حكم حافظ الأسد سوريا حكما بعثيا استضعف فيه الطائفة السنية يقتل أحرارهم ومفكريهم وفنانيهم وشعراءهم ويعلي من شأن الطائفة الشيعية العلوية فمنهم وحدهم ضباط الجيش والشرطة والقضاء والمحافظين والحكام بشكل عام وتحولت سوريا مع مرور الوقت إلي دولة بوليسية طائفية تتسلط فيها الطائفة العلوية على من دونها ظلما وعلوا وتشابهت سوريا في مقتبل الألفية الثانية مع مصر في الستينات والتبس الامر على السوريين كما التبس من قبل على المصريين إن كان رجال المباحث قضاء الله وقدره فيسلموا به مثل الصداع ومثل الجذام ومثل الجرب " نزار قباني " أم ظالمون تجب مقاومتهم .
افتتن حافظ الأسد بابنه باسل الدي أعده ليكون وليا لعهد البلاد المنكوبة حتي إدا قتل في ظروف غامضة لم يكن بدا من استدعاء الإبن الثاني بشار الدي بلغ من التفاهة والسفه مبلغا جعله نكرة في بلاط أبيه إلي يوم أن وصل صوريا إلي سدة الحكم في مشهد برلماني جعل من سوريا أضحوكة للعالم كله عندما عدل مجلس الشعب السوري الدستور في احدي الجلسات لينزل بالحد الأدني لسن رئيس الجمهورية الي اربعة وثلاثين عاما حتي يكون حكم سوريا على مقاس الشاب المراهق وكان تعديل الجيش أيضا نواميسه أسرع من البرلمان عندما أغدق الرتب العسكرية على الطفل المعجزة الدي كان أوضح ما فيه رقبته الطويلة جدا والتي تبشر ببلاصي طويل مستقبلا وسط تهليل السفهاء من بعض حكام الدول العربية ومنهم مخلوعنا وابنيه .
ربما كانت لعبة بنك الحظ تسيطر على فكر سيادة الرئيس كما اعتادوا مناداته وعليه فقد قرر أن يقتسم مدن سوريا هو واخيه ماهر واختاروا ابن خالتهما ليكون الواجهة في دخول " الأخين الحلوين " دنيا المال والأعمال ولم لا وأولاد " أنكل " حسني مبارك قد باعوا بالفعل مدن واسواق وبترول وغاز مصر فعلام اذن يعط الأخين الحلوين الدنية في نهب وطنهم ؟ وبينما زادت حالات الفقر في سوريا إلي أعلي معدل تضخمت ثروة اسرة الرئيس وحاشيته التي كانت علوية صافية .
رفع بشار كما كان يرفع ابوه من قبل شعار المقاومة وجعله الحاجز المنيع بين الحرية وبين الشعب فلا صوت إذن يعلو فوق صوت المعركة التي لن تأتي أبدا وقصفت الطائرات الإسرائيلية المعسكرات والمدن السورية عدة مرات بكل ثقة وبساطة وفي كل مرة كان الرد السوري يأتي أسرع مما تتوقع اسرائيل على لسان فاروق الشرع " أن سوريا سوف تلتزم أقصي درجات ضبط النفس .. " واعتبر العلويون في سوريا اخوانهم الشيعة في ايران سندا طائفيا لحراسة الجبهة الداخلية ومخزونا عدديا استراتيجيا لتعويض النقص العددي للعلويين في مواجهة السنة متي دعا الداعي إلي المواجهة بين الطائفتين .
واليوم .... وقد أصبحت الصورة شبه مكتملة في سوريا بعد أن بذل المجاهدون الصامدون من اخوتنا في بلادنا سوريا دماء أكثر من عشرة آلاف شهيد جلهم أطفال ونساء في سبيل حريتهم المسلوبة وأموالهم المنهوبة وأعراضهم المنتهكة ، ليس من بد بعد أن بلغت بشاعة الصورة مبلغا غير مسبوق في تاريخ امتنا من الوقوف خلف المجاهدين في سوريا بكل صور الدعم ومنها حث جيران سوريا على تسليح المجاهدين و إن كل تسارع في التسليح سوف يقابله تسارع في المد الثوري وتقليل في عدد القتلي كما أن الوقت بلا شك هو العنصر الحاسم في الأمر حالة كون ايران غير مستعدة لتقديم العون اللامحدود وهى تستعد لمواجهات شرسة في الخليج ووضع اقتصادي متردي بلغت فيه قيمة عملتها ادني حد وتعطل عمل بنكها المركزي فيما يتعلق بعمليات التجارة الدولية ، وإن التعويل على الدعم الغربي امر غير منطقي والأمر برمته مختلف عما كان في ليبيا التي ترامت اطرافها وندر سكانها كما أن روسيا التي اعتادت البلطجة السياسية لإبتزاز بعض الأموال من الولايات المتحدة تبدو وكأنها لا تجد استجابة أمريكية هده المرة فلا يحتمل أن تتغير مواقفها إلا إذا تغير الواقع على الأرض لصالح الثوار ، إذن لا بديل عن المقاومة المسلحة واعتمادها كخيار استراتيجي للثوار وهنا يبرز دور من يؤيد الثورة في سوريا من ضرورة السعي الجاد والسريع لتسليح الثوار فيها حتي ينقلب الميزان على الأرض لصالحهم .
نعم .. معارك كثيرة متزامنة هنا وهنا وهناك ولكننا نراها مواقع للجنة هنا وهنا وهناك .