في وقت ما عملت في المحاماة في قريتي لفت انتباهي أن الفلاحين أكثر ميلا للجوء إلي بعض غير المتعلمين لاستشارتهم في مسائل قانونية وشرعية و كتابة عقود البيع ولا يخرجون من تلك الفئة إلا إذا أعوزتهم الحاجة الي من يترافع عنهم امام المحاكم ، ولم أقاوم تلك النزعة الطبيعية في الشريحة التي أعمل بين ظهرانيها فلم أظهر امتعاضا على ما يمحون ولم ابد اعتراضا على ما يثبتون غير أني كنت أحاول فهم العلاقة العاطفية بين المتقاضين وبين أولئك فظننت أنها في أزيائهم المتشابهة ولغتهم المشتركة و المصطلحات الزراعية المفهومة بينهم ، ووجدتها ايضا في الفشل الدراسي المشترك الذي يذيب بينهم الفروق الطبقية ، وايضا في عبارات غريبة يستعملها هؤلاء مع الفلاحين سهلة الفهم قوية المدلول فإن أرادوا مثلا ابداء امتعاضهم من عرض سعر منخفض للأرض من قبل المشتري قالوا " البرنجان غلا " أي أن سعر الباذنجان ارتفع فما بالك مثلا بسعر الارض ، وكذلك انصرافهم في الحديث إلي الأوصاف الحسية والبني الجسمانية بما يجعل حديثهم أقرب الي الفهم التمثيلي منه الي ألغاز المصطلحات التي تنفث في العقد النفسية المدفونه .
تعتبر دراسات الشخصية الوطنية للشعب من أهم ما يشغل رجال المخابرات المحترفين ، والدراسات المتقدمة منها تهتم بتشريح الشخصية الوطنية والتشريح هنا قد يعني تشريح شخصية الفرد ويحدث هذا بالنسبة للحكام أو تشريح المجتمع الي طوائف لكل منها شخصية متميزة عن شخصية الشريحة الأخري ، و ينصب اهتمام الأجهزة المعلوماتية على تحديد مجال رد الفعل الشعبي الناشئ عن قرار ما أو ظروف ما وكلما كان القرار هادئا و صادرا عن علم وخبرة كلما كان مراعيا لطبيعة الشخصية الوطنية المعنية بذلك القرار أو تلك الحالة . كذلك تستغل دراسات الشخصية الوطنية في خلق الإحتجاجات و الثورات وأحيانا في تثبيت الأنظمة السياسية القمعية والعسكرية وذلك بالضغط على نقاط الوهن النفسي لدي الشعوب ولعل أقرب مثال لذلك بيان التنحي الذي ألقاه جمال عبد الناصر ضاغطا به على مشاعر العشرة والإنتماء وعدم اهانة الأب وإن أخطأ الذين يتميز بهم الشعب المصري .
تعرفت على ظاهرة توفيق عكاشة لكثرة مشاركات اصدقائي في الفيس بوك التي تتعلق بفقرات له ولما كانت التعليقات التي يكتبونها عنه لا تتعدي " حأتشل من توفيق " " توفيق يظغط البط " " توفيق يلقن حياة الدرديري " وغيرها من التعليقات التي لا تثير عندي ثمة فضول غير أني تحت تأثير المخدر الفكري الذي يتمثل في غزارة ما تحمله الصفحات من اخبار توفيق أضطررت الي مشاهدته اضطرارا .. وللوهلة الأولي تذكرت على الفور أولئك المستشارين في قريتنا من غير المتعلمين الذين ما انفكت أفواه الفلاحين شاغرة إذ يتحدثون وقلوبهم واجفة إذ يقررون .. نعم هو ليس سفيها ولا تافها ولا رويبضة كما كنت أظن ، ولا تحدثني هنا عن شهاداته الدراسية ولا خبراته الظاهرة العملية لأنني وجدته يحمل من التدريبات ما يعجز عن حمله كثير من المتدربين في حقول البحث والفكر ، وهو ليس مرحا بطبيعته ولا مثيرا للتندر والتنكيت في أصل شخصيته بل إن كل شيئ مصطنع بدقة .. الكلمات واللفتات ... ولكنها صنعة أسقطت على موهوب فلاح واع تماما لأبعاد الفكر القروي أولا ثم الحضري البسيط ثم هو أنيق المظهر يمتلك القناة الفضائية التي يعمل بها فلا مجال للنظر اليه كمذيع أو مقدم برامج ولذلك فلعلني احاول أن أطلق لخيالي العنان ليجيب من غير معلومات سابقة عن ماهية توفيق عكاشة الذي حققت قناته رقما قياسا في تلقي اشارات البث جعلها الأولي على جميع القنوات الناطقة باللغة العربية .
إن فكرة التجسس والجواسيس قد حصرتها اجهزة المخابرات العربية في أذهاننا بالتنصت على القادة العسكريين لمعرفة وقت تحرك وحدات الجيش و مدي ومجال حركتها ، فجمعة الشوال قدم لمصر جهاز ارسال يشبه الموبايل ورغم أن أحدا لم يقل فيم استخدم هذا الجهاز من بعد لأن الحلقة الأخيرة كانت حلقة الحصول على الجهاز ...... أما رأفت الهجان فقد كان ينتقل من موقع عسكري لآخر حتي وصل الي ديمونه وجعل " يبحلق .. ويبرق " ويسترق النظر الي الكاميرا ليعرفنا أنه يتجسس .... وهكذا حصرت المخابرات المصرية التجسس في أذهاننا أنه التعامل مع هدف عسكري او شخصية سياسية مؤثرة في صنع القرار . ربما كانت تلك أقصي أمانينا من عدو واع مدرك ... غير أن الإتجاهات الحديثة في دراسات الشخصية لشعب ما تكشف أن فهم الشعب وتشريحه الي فئات متمايزة كل منها يشترك في صفات واهتمامات ومشكلات وتعد دراسات الشخصية هى المدخل الصحيح لمواجهة العدو أو الهدف ، ولعل البعض وأنا منهم قد تعجبنا كثيرا عندما قبضوا على اسرائيلي في ميدان التحرير اتضح انه ضابط في المخابرات الإسرائيلية وبمراجعة تحركاته وعلاقاته تبين انها تحركات عادية وأحاديث وحوارات مع الشباب ولولا المعلومة الصريحة أنه ضابط في مخابرات العدو لما خطر على ذهن أحد أنه جاسوس والحقيقة إن أخطر المعلومات عن الدول هى ماهية شخصية شعبها وما يعتور تلك الشخصية من نقاط الضعف للإختراق منها وما يبين من نقاط القوة لتحطيمها ولو مع الوقت .
لقد كان توفيق عكاشة الموجه الأول للرأي العام في شريحة من الشعب المصري لا تقل عن 20 في المائة من الفلاحين بالدرجة الأولي ثم من البسطاء وقد كان مادة فكاهية يومية لكثير من المثقفين بل وكان لهوا بريئا لشريحة من الإسلاميين والملتزمين ، ثم هو في كل الحالات كان يوصل رسالته سلسة بسيطة ، لقد استطاعت اسرائيل ان تصل الي عقول هؤلاء كناصح أمين أو كأراجوز او كفقرة كوميدية مستفزة تثير لديهم ضحكات ساخرة تنقلب بعد ثوان الي ضحكات عميقة . باختصار لقد كان السم في غطاء الرأس على طريقة قتل المرحوم ياسر عرفات .
ربما لن يظهر توفيق عكاشة من جديد على شاشتنا لأن الذين سهلوا له التخابر مع اسرائيل والتدرب فيها لم يعودوا في مناصبهم الرسمية بعد قرارات الأمس واعادة تشكيل المجلس العسكري وما سوف يستتبعه ذلك من حركة تطهير لأجهزة التخابر والمعلومات غير أنه تبقي الذكري المريرة التي لن أنساها ابدا أن اسرائيل وصلت الي منزلي بالعلم .. علم دراسة شخصيتي وشخصية اهلي الذين كنت ازعم اني أعرف عنهم كل شيئ ...
لا يمكن أن ندعي أننا نفهم الشخصية الإسرائيلية حتي نزرع في اسرائيل يوما ما توفيق عكاشة العبري كما أننا لا نضمن أن مجلس الوزراء الإسرائيلي سوف يسهل لنا عمل ذلك في اسرائيل كما سهله في مصر صفوت الشريف وأجهزة الإعلام والمعلومات ولكن نقطة البدء أن نفسح مجالا لدراسات الشخصية المصرية حتي نفهم انفسنا على الأقل ونعلم كيف نتعامل مع مثل تلك الظواهر فور ظهورها لا أن نتركها تعمل فضلا عن أن نتفاعل معها ... ولا نملك سوي الدعاء والمساندة لرئيسنا الذي أشعر أن الله سوف يمكن له في الأرض ويؤتيه من كل شيئ سببا .
المقال منشور على موقع اخوان كفر الشيخ
http://www.kfrelshikh.com/news_Details.aspx?Kind=7&News_ID=14389
