تم نشر المقال اليوم على اخوان كفر الشيخ
http://www.kfrelshikh.com/news_Details.aspx?Kind=7&News_ID=14712
لا أولياء عهد جدد في بلاط صاحبة الجلالة ، هكذا رأينا الصحافة المصرية على مدي ستين عاما.. عجوزا عقيما .. آيسة من أمرها فكانت مطمعا لأدعياء دخلوا حماها متسكعين متطفلين ، فلما أمنوا غيرتها على بلاطها ، ادعوا أنهم أولياء العهد والمطالبين بالعرش ، وزاد من صلفهم سفههم ، وعظم من شأنهم غرورهم .. غير أن ما انطبق على الصحافة كان ينطبق على غيرها من المؤسسات والهيئات .. لقد كانت مرحلة انعدام الوزن في تاريخنا الحديث .
يظن الكثيرون أن علاج مشكلة جرائم النشر يكمن جله في قانون العقوبات والقوانين المكملة له وهذا النظر يتشابه مع من يري أن علاج مشكلة المرور يكمن في تشديد عقوبة المخالفين ، والحقيقة أن جرائم النشر التي تشمل ضمن ما تشمل جرائم الصحافة لا تقتصر على السب والقذف بطريق النشر في الصحف وإنما تمتد لتشمل عددا كبيرا من الأفعال كترويج الإشاعات وتكدير الأمن العام وإذاعة أسرار الدفاع إلي آخر الجرائم التي تنطوي عليها قوانين خاصة أكثر مما يحتويه قانون العقوبات، وهى في معظمها أفعال منضبطة في ركنها المادي تكتمل الجريمة باقترافه متي تعاصر معه الركن المعنوي المتمثل في القصد الجنائي العام بعنصريه العلم والإرادة وبعضها يستلزم قصدا خاصا .
وتناول الأمر هذه الأيام من غير المتخصصين في القانون و الصحافة بعد انفتاح ساحات الرأي علي مصراعيها له أثر ايجابي في انتاج تفاعل مجتمعي مع الموضوع ولكنه يعطي الفرصة للكثيرين ممن لا يبتغون الخير بدس السم في العسل والظهور بمظهر المدافع عن حرية الصحافة كعنوان كبير تكمن في تفاصيله خطط تضليل المجمتع و تشويش فكره بل وهدم ثوابته تحت ذلك العنوان الكبير .
لعلي لا أضيف جديدا إن قلت أن ثمة تباين بين النشر والرأي وبالتالي فثمة فرق بين جرائم النشر وجرائم الرأي فالأولي أسهل تحديدا من الآخرة ولا خلاف على ضرورة حماية المجمتع من الاولي ويظهر الخلاف في تكييف الأخيرة ، والحقيقة أن محكمة النقض المصرية قد وضعت في أحد أحكامها معيارا لضبط التمييز بين المباح والمحظور في الموضوع قطع قول كل خطيب عندما قضت تسبيبا لحكمها : " أن الحقيقة ليست وليدة التهويل والترهيب والمبالغة وإنما هى بنت البحث الهادئ والجدل الكريم وإنه إن كان لحسن النية مظهر ناطق فهو الأدب في المناظرة والصدق في المساجلة " كما أوردت في نفس الحكم " أن المداورة بالأساليب الإنشائية بفكرة الهروب من تطبيق القانون لا نفع فيها للمناور ما دامت الإهانة واضحة تتراءى للمطلع خلف استارها وتستشعرها الأنفس من خلالها ، بل إن هذه المناورة مخبثة أخلاقية شرها أبلغ من شر المصارحة فهي أحري منها بترتيب حكم القانون " .
وإن كان ثمة ما نستطيع أن نضيفه حول الموضوع فإن الأوفق أن نلفت النظر إلي أن طبيعة العمل الصحفي تدخل ضمن مفهوم الشهادة والله سبحانه وتعالي يقول " وأقيموا الشهادة لله " فكما أن الشاهد ينقل الحقيقة للقاضي فإن الصحفيون ينقلون الحقيقة للمجتمع بكل أطيافه ، وهنا يمكن القول بسوء النية متي كان الكذب سيد الموقف فيما نشر ، وقد زاد من جسامة العمل الصحفي وتأثيره على الجميع تقدم وسائل النشر الإلكتروني بما يجعل الخبر والرأي بين يدي الناس قبل أن يرتد إليهم طرفهم وهو ما يزيد من مسئولية الكاتب والناشر الشاهد على الحدث والناقل له وكما أن الشارع الحكيم قد أعفي بعض أنواع الشهادة من العقوبة كالزوج مثلا يشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ويدرء عن زوجته العذاب أن تشهد مثلهن إنه لمن الكاذبين فهنا رغم استحقاق حد قذف المحصنات فإن الشارع الحكيم درء عنه العذاب كونه زوجا يري ما لا يراه غيره و يكلم شرفه هو ما لا يمكن لغيره أن يطلع عليه بل إنه في مجال الصحافة قد يكون ذلك انفرادا يستوجب التبجيل أو كشفا يستوجب من المجتمع المكافأة وحسن الجزاء ، وهو مطمح مجتمعي يجب أن تقابله حماية للصحفي متي غرر به في سبيله للحصول عليه ، وفي جميع الأحوال فإن الأمر يكون بين يدي القاضي يكيفه على النحو الراجح من الظروف المحيطة فيخلع عليه وصف سوء النية متي كانت الظروف تجليه ، و يطرحه عنه متي كانت الملابسات تنفيه .
لذا فإن خلاصة القول أن تبقي عقوبة الحبس الإحتياطي في جرائم النشر بل تشدد حالة تعمد الكذب والتهويل بما يؤدي إلي الضرر بجمهور المواطنين أما الرأي فهو أمر مختلف عن النشر ، هو ترجمة للفهم وتوجيه للعامة في صورة رأي سياسي أو تقييم وتحليل و أحيانا هو أدب أو نظرية علمية أو غير ذلك من ألوان الإنتاج العقلي ، والأوفق أنه إن نشر فلا عقوبة عليه طالما أنه ملتزم بمعايير المحكمة العليا " البحث الهادئ والجدل الكريم " والقضاء أوفق أن يقدر كل حالة بقدرها فتحمي حرية الصحافة وتحمي أقدار الناس .
عود على بدء إن الحالة الصحفية في مصر الآن هى حالة شديدة الإلتباس عميقة عمق الدولة العميقة وربما بعد عدة سنوات لا نكون في حاجة لمثل تلك المناقشات حال أن يصبح في مصر صحفيون بحق يخشون لوم قرائهم أكثر مما يخشون العقوبة ، و يرجون رحمة ربهم أكثر مما يرجون جزاء أو شكورا ، عندما تزلزل الصحافة زلزالها وتخرج الصحف أثقالها من كتاب ومحررين يدعون بحق أنهم أولياء العهد في بلاط صاحبة الجلالة وقد جاء أشراطهم بعد أن رفع الإصر والإغلال التي كانت عليهم في يوم بارد من أيام شهر شباط .
mhashla@yahoo.com