الحمد لله مصرف القلوب والأبصار , أمرنا بالإخلاص له , والتوكل عليه , والإنابة إليه , نشكره على جليل نعمه , وعظيم آلائه , ونسأله سبحانه أن يديم علينا المحبة لطاعته ومرضاته , وأن يرزقنا الصبر على أقداره وقضائه , والصلاة والسلام على خير من دبت قدماه على الأرض , سيد المرسلين , وأمام الموحدين والمجاهدين , جاهد في الله حق جهاده , ودعا لله حق الدعوة , فبلغ الرسالة وأدى الأمانة , ونصح الأمة وكشف الله به الغمة ليلها كنهارها لا يزيغ عنها غلا هالك , من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا , وأشهد ان لا أله إلا الله , وأن محمدا رسول الله . أما بعد ...
اللهم علمنا ما ينفعنا وأنفعنا بما علمتنا , وزدنا اللهم علما , يقول الله سبحانه :
{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً }الكهف28 , ويقول حبيبنا المصطفى - كما أورده البخاري في صحيحه - : ( ألا وإن في الجسد مضغة , إذا صلحت صلح الجسد كله , وإذا فسدت فسد الجسد كله , ألا وهي القلب ) .
فمن لطيف منن الله سبحانه وتعالى أن يسر لنا هذا اللقاء المبارك بإذن الله سبحانه تبعا لقوله جل في علاه :
{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ }الذاريات55 , أورد أحمد رحمه الله حديث عبد الله بن مسعود قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( الندم توبة ) .
كم من الذنوب اقترفنا!!! وكم من المعاصي ارتكبنا!!! وكم من الحدود تجاوزنا!!! فهل تبنا وأنبنا إلى الله؟... ودعوناه الهدى والتقى , هل شعرت أخي المسلم بلوعة التوبة بما تحمل من ندم ؟... كيف لا والتوبة شرطها الندم , ففي تلك اللحظة يزيد تعلق العبد بربه والإلحاح والانكسار والخضوع , ولكن يا ترى هل لديه متسع لذلك , لا لأن ذلك العاصي لا يذكره إلا في آخر ساعاته , بعد أن يكون الأوان قد فات , والعمر قد مضى , والجسم قد هزل , وحينها يعلم الإنسان كم الله سبحانه رحيم بعباده , يمهلهم بل ويفتح مجال التوبة لهم , بل حقيقة قوله سبحانه :
{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }البقرة74 , وأنظر لحال النادمين التائبين كما قال سبحانه :
{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }آل عمران135 , فشأن الندم اللازم للتوبة لا ينحصر في حال فعل المنكر والمعصية , بل في فوات الطاعة والنافلة , أولائك الذين شغفوا بحب الله سبحانه , كما هو حال حاتم بن الأصم رضي الله عنه يبكي لفوات صلاة العصر عليه في جماعة , فماذا نفعل نحن الذين نضيع الصلاة ليس في جماعة فقط بل عن وقتها , وأعظم ساعة من ساعات الندم التي يمر بها كل امرئ ابن آدم ساعة الاحتضار والدنو من الموت , فلا يغيب عن ناظرينا ما رواه أبان بن عياش ( بأنه ذات يوما كان خارجا من عند أنس بن مالك رضي الله عنه في البصرة , فإذا بجنازة تمر عليه يتبعها أربعة ومعهم امرأة , فسأل الرجال عن ذلك , فلم يخبروه بشيء , وأشاروا إلى المرأة , فسألها عن ذلك , فقالت : إن ذلك ابني كان عاق لي وعاصيا لله وتاب قبل مماته , وأمرني أن لا أعلم أحدا بمماته , وأن أدوس على خده , وأقول هذا جزاء من يعصي الله , وأرف يداي إلى الله , وأقول : إني قد أمسيت راضية عنه فأرض عنه ) , هذا هو حال من كان يعصي الله فأنظر متى تدارك نفسه , ولكن نحن ما زال لنا فرصة لنندم ونصحح ما قد فات بالعمل الصالح , فهلا أعدنا حساباتنا مع أنفسنا , فيقول الله سبحانه :
{كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ{26} وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ{27} وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ{28} وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ{29} إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ{30}القيامة , وندم القبر ندم شديد , وحينها :
{يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ }إبراهيم27 , وساعة البعث من القبور , فيقولون بعدما قد فات وحالهم عصيب :
{قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا }يس52 , فيرد عليهم : {هَذَا
مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ }يس52 , وأيضا ساعة رؤية جهنم والعياذ بالله من رؤيتها , يقول الجبار جل في علاه :
{كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً{21} وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً{22} وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى{23}الفجر , ويقول سبحانه :
{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً }الفرقان27 , وأيضا ساعة الوقوف للحساب فحال ذلك العاصي والعياذ بالله هو قوله سبحانه :
{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ{25} وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ{26} يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ{27} مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ{28} هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ{29} خُذُوهُ فَغُلُّوهُ{30} ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ{31} ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ{32}القيامة , وأخر ساعة من ساعات الندم لدى أولائك الظالمين لأنفسهم ساعة الخلود في جهنم والعياذ بالله , وحالهم ليس للسان قدرة على وصفه , فاللهم جنبنا النار ورؤيتها , يقول الملك سبحانه :
{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ{38} إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ{39} فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ{40} عَنِ الْمُجْرِمِينَ{41} مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ{42} قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ{43} وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ{44} وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ{45} وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ{46} حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ{47} فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ{48} فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ{49} كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ{50} فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ{51} بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً{52} كَلَّا بَل لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ{53} كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ{54} فَمَن شَاء ذَكَرَهُ{55} وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ{56}المدثر .
سبحانك اللهم بحمدك عدد خلقك , ورضا نفسك , وزنة عرشك ومداد كلماتك , نستغفرك ونتوب إليك , وصلى اللهم على حبيبنا محمد وسلم والسلام عليكم ورحمة الله .
أذكر بحديث أورده الترمذي - رحمة الله عليه - في سننه : عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
( من كانت الأخرة همه ؛ جعل الله غناه في قلبه , وجمع له شمله , وأتته الدنيا وهي راغمة , ومن كانت الدنيا همه ؛ جعل الله فقره بين عينيه , وفرق عليه شمله , ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له ) .