بسم الله الرحمن الرحيم
هذا المقال منشور على موقع اخوان كفر الشيخ على الرابط الآتي :
http://www.kfrelshikh.com/news_Details.aspx?Kind=7&News_ID=14316
لم يزل التليفزيون الرسمي يذيع بين الحين والآخر أغنية " فدادين خمسة .. خمس فدادين .. " في عيد الفلاح وأعياد ثورة يوليو ، والحقيقة أن الكثيرين يصدقون مسألة الفدادين الخمسة في حين أن تسعين في المائة من الأراضي الموزعة على الفلاحين طبقا لقانون الإصلاح الزراعي لم تكن تتجاوز فدانين اثنين مقسمة إلي ثلاث قطع ، واليوم وبعد مرور ستين عاما على أول فدانين تم توزيعهما على الفلاحين يستمع أحفادهم إلي نفس الأغنية ولكنهم يفهمونها واقعيا " قراريط خمسة ... خمس قراريط " بعد أن توارثت ثلاثة أجيال على الأقل هذين الفدانين أما من لم يكن أهله حاضري الإصلاح الزراعي فيكتفي بالإستمتاع باللحن الركيك .
نشأت التعاونيات الزراعية قبل انشاء بنك مصر ولكنها انتعشت مع انشائه كمصدر للسلف الزراعية التي تمكن الفلاح الحصول على السماد والبذور والمبيدات بثمن معقول ودفع مؤجل إلي حين الحصاد وضعف دور الجمعيات التعاونية بعد ثورة يوليو حالها حال كل الهيئات العامة والخاصة غير أنها ظلت المصدر الأصيل لتلبية إحتياجات الفلاحين على مستوي " الإئتمان " أو " الإصلاح " ، وفي وقت تولي يوسف والي وزارة الزراعة كانت التعاونيات مصدرا أساسيا للسرطان والفشل الكبدي والكلوي بسبب ما توزعه من مبيدات قاتلة محرمة دوليا أو بذور معاملة جينيا وارتبط اسم التعاونيات بهيئتين كبيرتين هما الجمعية العامة للإصلاح الزراعي وبنك التنمية وكلاهما أصبحا من رموز الفساد المالي والإداري حتي وقتنا هذا .
والآن دعونا من الماضي ولنتكلم عن الحاضر وأملنا في المستقبل فيما يتعلق باقتصاديات الزراعة بالنسبة لمساحات الأراضي بين يدي أصحابها اليوم .
لا شك أن الأمر يستغرق لإتمامه عددا كبيرا من الأبحاث ولكن هنا سأركز على الواقع العملي خاصة في قري الدلتا وفي مقدمتها قري محافظة كفر الشيخ التي تحوي معظمها أراضي الإصلاح الزراعي والإئتمان ، وهنا نلاحظ أنه خلال ستين عاما كان معدل تفتيت الملكية بالميراث متقاربا ان لم يكن متساويا بين ملاك الإئتمان وملاك الإصلاح ، فالفدانان اللذان ملكهما الإصلاح الزراعي للمعدمين يقلون أو يزيدون بقراريط قليلة عما كان يملكه أغلب ملاك أراضي الإئتمان في ذلك الوقت وبالتالي فانه وبعد تلك المدة الطويلة كان معدل تفتيت الملكية واحدا تقريبا في نوعي الحائزين وكذلك معدل اعادة تجميعها بالشراء أو البدل ، وازاء عدم وجود احصاءات دقيقة عن السكان فإن المساحة الدقيقة المنزرعة مقسومة على عدد الحائزين غير متوافرة للمهتمين بالأمر غير أن الواضح أنه طالما لم تزد مساحة الأرض الزراعية خلال ستين عاما بما يقابل زيادة السكان الذين تضاعفوا مرتين فمن عشرين مليونا عام 1950 الي 40 مليونا عام 1980 الي ثمانين مليونا أو يزيدون في العقد الثاني من الالفية الثانية فلنا أن نتوقع أن من كان يمتلك فدانين مع أسرته لم يورث الي احفاده سوي قراريط معدودة لا يكفين اعاشة فرد فضلا عن اسرة ولنا هنا أن نفهم بالضرورة أن الأحفاد لا ينبغي لهم ولا يستطيعون أن يتخذوا من الزراعة مهنة وحيدة لهم وانما هى " نواية تسند الزير " بما تغله الأرض من بعض أرادب القمح ومن الأرز مثلهن بينما تبقي القيمة الأساسية للأرض الزراعية بالنسبة لأغلب الفلاحين الآن في توفير غذاء للمواشي فما تدره أبقارهم وجاموساتهم من ألبان و مشتقاتها تعتبر العماد الأساسي لمعيشتهم غذاء مباشرا وعائدا متحصلا من بيعها .
إذن نخلص إلي نتيجة حتمية أننا لسنا أمام مزارعين محترفين بمعني الكلمة وإنما نحن أمام حائزين لمساحات صغيرة وهم بالخيار بين الإكتفاء بدخلها وهو ما يعني الفقر المدقع بعينه أو اعتبارها نشاطا ثانويا بجوار العمل الأصلي الذي ربما يكون وظيفة حكومية أو عملا مهنيا أو تجاريا ولسنا أمام عمل زراعي فني بمعني الكلمة الإقتصادي بما يحقق الإستغلال الأمثل للأرض وانما نحن أمام شتات من الأراضي والمحاصيل والمزارعين المرضي .. شتات في التخطيط وشتات حتي في الإستفادة من المحاصيل ... ان الزراعة في مصر هى الشتات بعينه خاصة في المناطق المكتظة بالسكان والتي تبرز فيها مشكلة الحيازات الصغيرة للأراضي الزراعية فأحفاد الحاج عبد العاطي اليوم يزرعون نفس المساحة التي كان يزرعها قبل ستين عاما بعد أن وضعوا حدودا بينهم يروي كل منهم أرضة منفصلا بماكنيته بما يعني تشغيل أربع او خمس مكائن رفع مياه لمساحة الأصل أن ماكينة واحدة كثير عليها ويحرثونها منفردين كل منهم بجرار منفرد في اوقات مختلفة ويحمل كل حائز لتلك المساحة الصغيرة ماتور الرش لمقاومة الحشائش فضلا عن رش المغذيات الزراعية أو المبيدات المقاومة للحشرات والفطريات منفصلا عن الآخر ، بل ان كلا منهم يزرع تلك المساحة الصغيرة بنباتات مختلفة عن الآخر – لفظ محصولات واسع شوية – ثم إن كلا منهم يحاول التسويق لما يزرع إن كان نباتا اقتصاديا كالقطن مثلا أو اللب أو البصل والتسويق في الغالب يكون بالبيع في الحقل بثمن بخس لصعوبة التخزين أو بالبيع المباشر في اسواق القري لما تبقي سليما من الخضروات .
إن المشكلات التي تواجه الفلاحين في مصر في زراعة أرضهم لا تقتصر على نقص السماد و فساد البذور وندرة المياه فحسب وانما هى بالدرجة الأولي ضعف تعاطي الدولة باعتبارها سلطة مع المشروع الزراعي ككل وهو ما انعكس في مشاهد من قبيل امتطاء الفلاحين " الحمير " في سبلهم الي الحقول ومشكلات العجز عن سداد قيمة السلف الزراعية بالإضافة الي مشهد " تطليع الزريبة " الذي يعتبره البعض دليل على أن " البيت فيه خير " بعد اختفاء مشهد " أقراص الجلة " فوق البيوت كدليل على الثراء وجميعها مظاهر قد انعدمت في أغلب دول العالم تقريبا اذا استثنينا بعض دول الصحراء الكبري في افريقية .
إن ترك حرفة الزراعة لصغار الفلاحين في مصر و في كفر الشيخ على وجه الخصوص كمن يوكل مهمة التدريس الي الطلبة وإن مشكلة الحيازات الصغيرة مظاهرها و نتائجها وسبل مواجهتها هى ظاهرة منتشرة في دول العالم الثالث التي تحررت من نظام اقطاعي وإن لم يكن الحال كذلك بالضبط في مصر وقد واجهتها من قبل الهند والمكسيك وكينيا بتجارب ناجحة وواجهتها زيمبابوي بتجربة ممزقة الأوصال غير أن النموذج الذي أحب هنا أن أشير اليه تطلعا الي تقليده – بتصرف – هو النموذج الكيني في ادارة زراعة الشاي والزهور .
لا أعرف ان كان جديدا الدعوة الي انشاء شركة زراعية قومية مساهمة كبري يكون غرضها زراعة أراضي الوادي والدلتا بدلا من الفلاحين أنفسهم لديها القدرة على اعتماد مشروعات ري كبري بديله حال نقص المياه من النيل ودراسات للتربة في كل منطقة بما يمكن معه زراعة النبات الإقتصادي الأمثل الذي يجود فيها ويحقق أكبر عائد اقتصادي وقد رأيت مثلا في كينيا شركات تزرع الورد وتصدره الي هولندا متغلبة بذلك على خوف الفلاحين من ذبوله في حقولهم بأسطول النقل لديها الذي يحمله الي المطارات فورا في نيروبي فيكون في امستردام بعد عدة ساعات وهناك تعيد تصديره الي أوربا كلها .
إن تلك الدعوة ليست لإنشاء شركات استصلاح اراضي في الصحراء الغربية لتحقيق ارباح فهذا ليس حلا لمشكلة الحيازات الصغيرة في الدلتا والوادي وإنما هى دعوة لحل مشكلة الحيازات الصغيرة في القري التي يتعامل معها الفلاحون بشكل فردي ومن قبل أشخاص أغلبهم مرضي بأمراض الكبد والبلهارسيا بما يقلل العائد الإقتصادي العام ، وهى ليست دعوة الي التأميم وإنما الي التخصص ، إن شركات متخصصة قوية بما تمتلك من معدات وخبرة ومكاتب تسويق في الخارج يجب أن تجد طريقها الي سوق الزراعة في مصر وأن يحتفظ الملاك بملكية اراضيهم التي تزرعها لهم تلك الشركات جملة واحدة بجراراتها الضخمة وطائرات الرش والمواتير العملاقة وأساطيل النقل والتسويق ، ثم إن للحائزين الحرية في تمكين الشركات أو عدم تمكينها طبقا لموازناتهم المادية والربحية ، إن تلك الشركات تستهدف الربح وان تنافسها يعطي سعرا تنافسيا لإيجار الفدان أو للإيجار بالمزارعة الذي ينتشر على نطاق واسع " بالثلث " أو " بالنصف " .
إن القطاعات الأخري في الدولة مطالبة بامتصاص العمالة التي ستنتج عن هذه الفكرة ولكن الفلاحين ربما يجدون أوقاتا وأموالا فائضة ينمون بها تطلعات ابنائهم في الغذاء والتعليم والتعرف على التكنولوجيا والرفاهية والمشروعات الصغيرة والمتوسطة تعاونية كانت أو فردية .