حوار بين رب العزة وأهل النار
إن حوار رب العزة مع عباده يختلف عن حوار المخلوقات جميعا؛ فهو -عز وجل- يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ولكن تختلف أغراض هذه الحوارات حسب سياقاتها؛ فحواره -عز وجل- مع أهل النار يهدف إلى إقامة الحجة وزيادة الحسرة والتوبيخ والتأنيب.
فمن ذلك ما ساقه القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ * قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ}.
إنه حوار التوبيخ والتأنيب؛ فالله عز وجل يريد من حواره مع هؤلاء إقرارهم بزيف ما كانوا عليه؛ فهو جل وعلا أعلم بجوابهم وأعلم بحالهم {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}.
فيأتي رد الغاوين بالتبرؤ ممن أغووهم {قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ}.
أي أننا لم نملك سلطانا لإجبارهم على الغواية، ولكننا دعوناهم للضلال فاستجابوا عن رضا كما استجبنا نحن أيضا؛ فإغواؤهم كغوايتنا نحن أيضا، وهذا الحال يوم القيامة، الكل يتبرأ من أتباعه، والكل يعادي بعضه بعضا إلا المتقين كما قال عز من قائل: {الأخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ}.
وينقل القرآن مشهدا آخر من مشاهد وحوارات القيامة يوم الحشر الأكبر لجميع الخلائق إنسهم وجنهم {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنْسِ}، وهذا السؤال موجه للجن بأنكم استمتعتم من أوليائكم من الإنس، وهذا الاستمتاع بطاعتهم إياهم واتباعهم أوامرهم.
ولكن الملاحظ أن هؤلاء الأولياء من الجن لم يردوا، ورد عنهم أولياؤهم من الإنس {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِّنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا}؛ فالاستمتاع متبادل؛ فالجن تمتعوا بطاعتهم لهم، والإنس تمتعوا بالمعاصي والذنوب التي أمروهم بها؛ فهو تمتع مؤقت سرعان ما يزول وتنكشف الحقائق؛ فهذا التمتع كتمتع الأجرب بحكِّه جربه؛ فهو يظن أن في هذا الحك الشفاء لكنه يفاجأ بانتشار المرض، وحينما يكتشف هؤلاء خطأهم يكون التكفير عنه مستحيلا إذ يفجؤهم المصير المحتوم {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}.
وينقل لنا القرآن حوار أهل النار الذين كانوا أولياء متحابين في الدنيا؛ فها هم في النار يطلب كل منهم للآخر مضاعفة العذاب وهم يتلاعنون {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاَءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ}. "أخراهم" هم التابعون الضعفاء، و"أولاهم" هم المتبوعون الأقوياء الذين يدخلون النار في البداية نتيجة إضلالهم وإغوائهم؛ فيطلب التابعون مضاعفة العذاب على المتبوعين الذي أغووهم وأضلوهم وكانوا سببا فيما هم فيه الآن، فيأتي الرد {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ}؛ أي لكل فريق ما يستحقه من أضعاف العذاب، كما قال -عز وجل- في موضع آخر: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ}. صدق الله العظيم