حوار بين إبليس وأتباعه
إنه حوار من طرف واحد؛ طرف يتكلم والطرف الآخر لا ينطق ولا يرد من هول الدهشة؛ فما أقسى على النفس من تخلي المتبوع عن تابعه الذي وثق فيه حينما يحتدم الأمر وتنكشف الأمور، حينها لا يجدي الرد ولا العتاب، وربما يكون الصمت هو أبلغ رد في مثل هذا الموقف {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
حوار بين أهل النار وأعضائهم الجسدية
من صفات الإنسان التي وصفه القرآن الكريم بها أنه أكثر شيء جدلا؛ فهو يحاول أن يدفع عن نفسه الخطأ والنقيصة بأي طريقة، حتى ولو كانت بالجدال بالباطل، ومن العجيب أن يمتد جدال أعداء الله لرب العزة جل وعلا يوم القيامة.
فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "ضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم وتبسم، فقال: "ألا تسألوني عن أي شيء ضحكت؟" قالوا: يا رسول الله من أي شيء ضحكت؟ قال: "عجبت من مجادلة العبد ربه يوم القيامة، يقول: أي ربي، أليس وعدتني ألا تظلمني؟ قال: بلى فيقول: فإني لا أقبل عليّ شاهدًا إلا من نفسي. فيقول الله تبارك وتعالى: أوليس كفى بي شهيدا، وبالملائكة الكرام الكاتبين؟! قال: فيردد هذا الكلام مرارًا". قال: "فيختم على فيه، وتتكلم أركانه بما كان يعمل، فيقول: بُعْدًا لكُنَّ وسُحقا، عنكن كنت أجادل".
فما أجرأه من جدال ذلك الذي يعترض فيه الإنسان على ربه الحكم العدل وعلى ملائكته الكرام الكاتبين، وينقل لنا القرآن الكريم هذا المشهد وهذا الحوار بين الإنسان وأعضائه الجسدية بعد أن يرفض كل الشهود الذين شهدوا ضده؛ فينطق بعضه على بعض ويجادل بعضه بعضا {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
إنها المفاجأة الرهيبة غير المتوقعة أن ينطق بعض الإنسان ويشهد عليه رغم أن العذاب سينال الكل بما فيه هذا البعض، ولكنه سلطان الله على الجوارح، واليوم الذي تخرج فيه الطبائع عن خصائصها وصفاتها؛ فما لا ينطق في الدنيا ينطق في ذلك اليوم العظيم.
ولكن أعداء الله سُقط في أيديهم ولم يجدوا ما يمارون به؛ فاتجهوا باللوم والتقريع لأبعاضهم التي شهدت عليهم {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا}، وهنا تجابههم الجلود بالحقيقة التي غابت عن أذهانهم وهي قدرة الله عز وجل الذي أنطق ألسنتهم في الدنيا فكذبوا بها وكفروا وأضلوا وأنه هو الذي خلقهم أول مرة وأوجدهم من عدم؛ فمن فعل هذا قادر أن ينطق هذه الأعضاء اليوم {قَالُوا أَنطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.
ثم تستمر هذه الأعضاء في التبكيت والتذكير بضلال أعمالهم الناتجة عن سوء ظنهم في الله عز وجل {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ}. صدق الله العظيم