لقد حرص أنبياء الله تعالى على تنفيذ رسالته، وتبليغها للناس، وتحذيرهم من عذاب الله إن لم يؤمنوا ويصدقوا بها، وظل نوح عليه السلام يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا إلى عبادة الله تعالى، وفي النهاية لم يؤمن معه إلا القليل، كما قال تعالى: {وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود: 40].
يحكي لنا الله تعالى هذا المشهد العظيم، فيقول: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 41-47].
(ثم يأتي المشهد الهائل المرهوب: مشهد الطوفان:
{وهي تجري بهم في موج كالجبال، ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين، قال . سآوي إلى جبل يعصمني من الماء، قال: لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم، وحال بينهما الموج فكان من المغرقين}.
إن الهول هنا هولان، هول في الطبيعة الصامته، وهول في النفس البشرية يلتقيان:
{وهي تجري بهم في موج كالجبال}.
وفي هذه اللحظة الرهيبة الحاسمة يبصر نوح، فإذا أحد أبنائه في معزل عنهم وليس معهم، وتستيقظ في كيانه الأبوة الملهوفة، ويروح يهتف بالولد الشارد: {يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين}.
ولكن البنوة العاقة لا تحفل بالأبوة الملهوفة، والفتوة المغرورة لا تقدر مدى الهول الشامل:
{قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء} ثم ها هي ذي الأبوة المدركة لحقيقة الهول وحقيقة الأمر ترسل النداء الأخير: {قال: لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم}، لا جبال ولا مخابئ ولا حامٍ ولا واقٍ، إلا من رحم الله، وفي لحظة تتغير صفحة المشهد . فها هو ذا الموج الغامر يبتلع كل شيء:
{وحال بينهما الموج فكان من المغرقين}.
وإننا بعد آلاف السنين، لنمسك أنفاسنا ونحن نتابع السياق والهول يأخذنا كأننا نشهد المشهد، وهي تجري بهم في موج كالجبال، ونوح الوالد الملهوف يبعث بالنداء، وابنه الفتى المغرور يأبى إجابة الدعاء، والموجة الغامرة تحسم الموقف في سرعة خاطفة راجفة وينتهي كل شيء، وكأن لم يكن دعاء ولا جواب!) [في ظلال القرآن، سيد قطب، (4/ 217-218)، باختصار].
وقفات مع نوح وابنه:
لعلنا نستخرج عدة دروس من هذه القصة العظيمة:
1. أنقذ ابنك من النار:
إن من أهم الدروس من هذه القصة العظيمة هو دور الأب مع أولاده في هدايتهم إلى طريق الله، وتعليمهم الأخلاق والعبادات، فيتضح لنا أن نوحًا ظل متمسكًا بابنه إلى آخر لحظة حتى أثناء الطوفان، وذلك إن دل على شيء فإنما يدل على مدى حرص نوح عليه السلام على نجاة ولده، وأنه يريده ألا يدخل النار، فالطفل يحتاج إلى أن ينشئ في جو أسري يسوده الروح الإيمانية بالله تعالى.
فعندما يغيب الدور الإيماني في البيت، يغيب غذاء الروح وبالتالي يختل التوازن الإنساني، يقول الدكتور هنري لنك: (فإن هؤلاء الآباء الذين كانوا يتساءلون كيف ينمون عادات أولادهم الخلقية ويشكلونها، في حين ينقصهم هم أنفسهم تلك التأثيرات الدينية التي كانت قد شكَّلت أخلاقهم من قبل، كانوا في الحقيقة يجابهون مشكلة لا حل لها، فلم يوجد بعد ذلك البديل الكامل الذي يحل محل تلك القوة الهائلة التي يخلقها الإيمان بالخالق، وبناموسه الخلقي الإلهي في قلوب الناس).
واعلم أيها الوالد أن الأبناء عندهم حاجة فطرية للإيمان، فالله عز وجل خلق كل إنسان على وجه الأرض على الفطرة، فالنفس مجبولة على حب الدين والإيمان بالله، وبسبب غياب الدين فقد ضاع كثير من الأبناء وهربوا من آبائهم بحثًا عن الغذاء الروحي، فيُحكى أن سبب هجر "سوتيلانا" ابنة "ستالين" لبلدها هو غياب الدين، (فالسبب الحقيقي لهجر وطنها وأولادها هو "الدين"؛ فقد نشأت في بيت ملحد لا يعرف أحد من أفراده "الرب" ولا يذكر عندهم عمدًا ولا سهوًا، ولما بلغت سن الرشد وجدت في نفسها من غير أي دافع خارجي إحساسًا قويًّا بأن الحياة من غير الإيمان بالله ليست حياة، كما لا يمكن أن يقام بين الناس أي عدل أو إنصاف من غير الإيمان بالله، وشعرت من قرارة نفسها أن الإنسان في حاجة إلى الإيمان كحاجته إلى الماء والهواء) [تربية الأولاد في الإسلام، عبد الله ناصح علوان، (1/35)].
2. نوِّع من أساليبك:
فتنويع خطاباتك لولدك تساعدك في تربيته، وتجعله يعي المعلومة بأكثر من طريقة، أيضًا تسهل عليه فهم مدى أهميتها وخطورة عدم فعلها، كالصلاة على سبيل المثال، وهناك عدة أساليب للموعظة والنصيحة، (ومن أنواع الموعظة:
1- الموعظة بالقصة، وكلما كان القاص ذا أسلوب متميز جذاب؛ استطاع شد انتباه الطفل والتأثير فيه، وهو أكثر الأساليب نجاحًا.
2- الموعظة بالحوار تشد الانتباه وتدفع الملل إذا كان العرض حيويًّا، وتتيح للمربي أن يعرف الشبهات التي تقع في نفس الطفل فيعالجها بالحكمة.
3- الموعظة بضرب المثل الذي يُقرِّب المعنى ويعين على الفهم.
4- الموعظة بالحدث؛ فكلما حدث شيء معين وجب على المربي أن يستغله تربويًّا؛ كالتعليق على مشاهد الدمار الناتج عن الحروب والمجاعات ليُذكِّر الطفل بنعم الله، ويؤثر هذا في النفس لأنه في لحظة انفعال ورقَّة؛ فيكون لهذا التوجيه أثره البعيد.
وهدي السلف في الموعظة: الإخلاص والمتابعة، فإن لم يكن المربي عاملًا بموعظته أو غير مخلص فيها فلن تُفتح له القلوب، ومن هديهم مخاطبة الطفل على قدر عقله، والتلطف في مخاطبته ليكون أدعى للقبول والرسوخ في نفسه، كما أنه يحسن اختيار الوقت المناسب فيراعي حالة الطفل النفسية، ووقت انشراح صدره وانفراده عن الناس، وله أن يستغل وقت مرض الطفل؛ لأنه في تلك الحال يجمع بين رقة القلب وصفاء الفطرة، وأما وعظه وقت لعبه أو أمام الأقارب فلا يحقق الفائدة.
ويجب أن يحذَر المربي من كثرة الوعظ فيتخوَّل بالموعظة ويراعي الطفل حتى لا يمل؛ ولأن تأثير الموعظة مؤقت فيحسن تكرارها مع تباعد الأوقات) [كيف تربي ولدك، ليلى عبد الرحمن الجريبة، ص(95)].
3. هل تحب ولدك؟
إن الحب الذي نقصده هنا ليس فقط أن تحسن معاملة ولدك، أن تشتري له أحسن الثياب، وتعلمه وتنفق عليه، إن الحب هنا هو أنك تخاف عليه من عدم طاعته لله، فذلك سيؤدي إلى غضب الله عليه، وإذا نظرنا إلى نوح عليه السلام سنجده أنه حتى آخر لحظة كان يحب ولده، لأنه والد فكان يخاف عليه من عذاب الله، فأمره أن يركب معه في السفينة ولكنه عصاه، وهكذا يجب أن تكون رحمتك وحبك لأولادك، الحب الذي نابعًا من قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].
فهذا الحب وهذه الرحمة هي التي تدفع الطفل إلى طاعة الله تعالى، (فالطفل ليس كائنًا سلبيًا إلا إذا أجبرناه على السلبية، والطفل يكون إيجابيًا وفعالًا كلما وجد المناخ المساعد على ذلك، ومن ثم تكون حرية الفعل وحرية الخطأ أمرًا مشروعًا أثناء نمو الأطفال.
والمقصود بالحرية ليس تركًا للحبل على الغارب، ولكن المقصود بها تهيئة الطفل للاعتماد على نفسه انبثاق ذاته وإتاحة الفرص أمامه للاختيار كل ذلك داخل إطار من الانضباط، لأن الطفل يحتاج بجانب الحرية إلى الضبط ولكن ليس المقصود بالضبط هنا التعسف في تكبيل حرية الطفل في الحركة وفي الفعل وفي قبول أو رفض الكثير من الأمور ومن ثم يكون الضبط هنا موجودًا وبهدوء إذا ما جنح الطفل نحو فعل خاطئ أو خطر. [الطفل في مرحلة ما قبل المدرسة، د.محمد عبد الظاهر الطيب، ص(86)].
ماذا بعد؟
حتى ننهي هذا المقال بشيء عملي نجمل بعض الأمور التي يمكنك أن تفعلها:
1. حدد أهم الطاعات التي يجب لطفلك أن يتعلمها، ثم بعد ذلك تتابعه في تأديتها في وقتها المحدد.
2. نوع من خطاباتك لطفلك حتى يفهم المعلوم بأكثر من طريقة.
المصادر:
· في ظلال القرآن، سيد قطب.
· الطفل في مرحلة ما قبل المدرسة، د.محمد عبد الظاهر الطيب.
· كيف تربي ولدك، ليلى عبد الرحمن الجريبة.
· تربية الأولاد في الإسلام، عبد الله ناصح علوان.