قد تفضل على الاخ العزيز د.معتز زغلول و علق على مقالى السابق بعنوان مدنية أم دينية و وجدت انه حمل على بشدة لمجرد الكلام عن الدولة المدنية مع العلم أنى لم أقل صراحة و لا ضمنا انحيازى لخيار الدولة المدنية و انما كان كلامى مجرد تعريف بسيط لتعريف المصطلحين و ما يشتمل عليه من معان. و كان كلامى لمجرد التوضيح حتى لا نؤيد او نعارض بدون علم. و لكنى افهم جيدا ما دفع الأخ د.معنز زغلول لهذا الكلام و هو أنه استنتج من معرفته الشخصية بى أنا سوف انحاز لخيار الدولة المدنية و هو محق فى ذلك. و لكن أعود فأقول ما سبق أن قلته من قبل أنا ما زالنا نؤيد أو نعارض قبل أن نقف على حقيقة ما نؤيده أو نعارضه. فمصطلحا الدولة الدينية و الدولة المدنية هما فى الحقيقة مصطلحين حديثين. أن علماء اللغة يقولون أن الألفاظ قوالب المعانى. و يقولون كذلك أن الألفاظ تولد و تتوالد و تموت شأنها فى ذلك شأن كل الأحياء. و يقولون أيضا أن اللفظ الواحد يكتسب معانى مختلفة باختلاف الزمان و المكان. بل قد يكتسب اللفظ الواحد معان متضادة باختلاف الزمان و المكان. و لنضرب مثلا على ذلك بلفظ الثقافة. فالثقافة عند العرب تعنى التسليح فيقال فلان مثقف أذا كان مسلحا و هذا معناه أن تحذره و تخاف منه. بينما المثقف كما نفهمه حاليا هو الشخص صاحب المعرفة الضخمة و العقل الناضج و هذا معناه أن تحترمه و توقره و تلجأ اليه لتستعين برأيه و خبرته. مثال آخر هو لفظة التصوف. فان التصوف عند السلف من الأئمة و العلماء هو الزهد فى الدنيا و الانقطاع للآخرة. و التصوف فى أذهان الكثيرين منا فى هذه الأيام هو ضرب من الخرافات و الدجل و الشعوذة المقترنة فى كثير من الأحيان بالأفعال الشركية التى قد تخرج الانسان من الاسلام كله من الاستغاثة بالقبور و الاضرحة و أهلها من دون الله و التوجه اليهم بعبادات هى من حق الله وحده مثل الاستعانة و الخوف و الرهبة و الرجاء و النذر و التوسل و الاستشفاع و الطواف. فاذا قام داع يدعونا للتصوف فقبل أن نعارضة أو نؤيده يجب أن نسأله اى شكل من التصوف تقصد.فالعبرة بالمسميات و ليست بالاسماء أو بصياغة أصوليه أدق ( العبرة بالمقاصد و المعانى و ليست بالألفاظ و المبانى) و هذه قاعدة فقهية يعرفها الأصوليون جيدا و جعلوها من القواعد العامة لفهم الدين فهما صحيحا. كل ما قدمته هو نقطة جد مهمة فى فهم الدين. النقطة الثانية و الأهم هى انه دائما ما يكون هناك فرق بين الواقع و المثال. و بين ما نتمى أن يكون و ما يمكن أن يكون. و ما هو مقبول فى زمن النصر و التمكين و ما هو مأمول فى زمن الضعف و الشتات. فلا خلاف بين أحد من االاسلامين فى ضرورة الاحتكام الى الشريعة الاسلامية. و لكن السؤال هو كيف؟؟؟
باقامة دوله دينية ؟ أم دولة مدنية؟ و أنا أختلف مع الاخ د. معتز فى فهمه للدولة المدنية بأنها بالضرورة دولة تطبق بعض الاحكام الاسلامية و تترك البعض الاخر. فالدولة المدنية لا تحارب الدين ضرورة. و الدولة التى أقامها محمد (ص) هى فى فهمى و تصورى ( الذى قطعا يحتمل الخطأ) لم تكن دولة دينية. بل كانت على العكس دولة مدنية بامتياز.
كانت دولة مدنية من حيث أن كل المواطنين مسلمين و يهود و مسيحيين كانوا أمام القانون ( الشريعة الاسلامية ) سواء. لهم حقوق متساوية و واجبات متساوية. و كان مرجعهم فى ذلك حديث ( لهم ما لنا و عليهم ماعلينا ) و لم يكن هناك فرق بين مسلم و يهودى أمام القانون. و التاريخ الاسلامى مليئ بمشاهد لا تحصى على ذلك. و من يريد أن يعرف أكثر فى ذلك فليرجع الى الوثيقة التى أسست بناءا عليها أول دولة للمسلمين فى المدينة تألفت عناصرها و تآلفت من المهاجرين و الانصار و اليهود.
و كانت دولة مدنية من حيث أنه لم يكن يكره فيها أحد على اعتناق الاسلام من منطلق ( من شاء فليؤمن و من شاء فليكفر). كانت دولة مدنية من حيث انها لو تؤمن يوما بالكهنوتية و بسيطرة رجال الدين على الحياة السياسية , فلا كهنوت فى الاسلام و انما كان ذلك فى المسيحية و اليهودية من قبل. و لا وجود لطبقة تسمى رجال الدين تحتكر تأويل النصوص الشرعية و يعتبر تأويلها هذا تأويلا مقدسا لا يجب و لا يسمح بمعارضته. بل كان منطلقهم ( كل يؤخذ من كلامه و يرد الا المعصوم ) و ( كل ما دون النبى فليس بحجة).
و كانت دولة مدنية من حيث أن الحاكم فيها كان يختاره عموم المسلمين أو من أهل الحل و العقد و ليس من قبل رجال الدين.
و كانت دولة مدنية من حيث أن الحاكم فيها لم يكن ظل الله على الأرض و لم يكن يوما معصوما من الخطأ و الذلل. و لا أدل على ذلك من خطبة أبى بكر الصديق بمجرد اختياره حاكما و اميرا التى قال فيها ( انى وليت عليكم و لست بخيركم) و ( ان عصيت فقومونى).
و كانت دولة مدنية من حيث أنها لم تنشئ محاكم تفتيش على غرار ما حدث فى دول أروبا المسيحية فى العصور الوسطى على مدى أربعة قرون ذاق فيها المسلمون و اليهود بل و حتى المسيحيون البروتوستانت أشد العذاب من اخوانهم المسيحيين الكاثوليك. بل كان منطقهم فيمن خالفهم حديث الرسول ( من قال قولا يحتمل الكفر من تسعة و تسعين وجه و يحتمل الايمان من وجه واحد. حمل على الايمان ).
و كانت دولة مدنية من حيث غير المسلمين فيها لم يعاملوا معاملة مواطنين من الدرجة الثانية و العهده العمرية بين عمر بن الخطاب و مسيحيى بيت المقدس و موقفه مع عمرو بن العاص فى القبطى الذى سبق ابنه انن عمر أكبر دليل على ذلك. و الله ما أعظم هذا الدين الذى علم عمر بن الخطاب هذا العربى البدوى البسيط هذه المعانى الرائعة لما قال لعمرو ( متى استعبدتم الناس و قد ولدتهم أمهاتهم أحرارا).
و كانت دولة مدنية من حيث أنها لم تجعل المناصب السيادية حكرا على المسلمين. بل كان الفيصل فى ذلك هو الخبرة و الكفاءة و ليس الاسلام. و من يقرأ تاريخ الاسلام يجد عددا لا يحصى من غير المسلمين من الفرس و الروم قد اعتلوا مناصب مهمة عديدة فى الدولة الاسلامية دون أن يجد المسلمون فى ذلك غضاضة .
و كانت دولة مدنية من حيث أنها قائمة على أساس الشورى التى يسمح فيها لكل المواطنين بالمشاركة فى اتخاذ القرار و صنعه.
و أنا أهيب بكل الأخوة و الأصحاب أن يندفعوا بدون قصد لخدمة أعداء الاسلام و أعداء الأمة بدون قصد و من منطلق عفوى و فطرى. و ألا ينخدعوا بالاسماء دون المسميات كما حدث من قبل عندما أراد الرئيس المصرى الراحل محمد أنور السادات أن يتحايل على الدستور المصرى الذى كان ينص على أنه لا يسمح للرئيس بالترشح لمنصب الرئاسة أكثر من دورتين ليجعلها عدد غير محدود من الدورات. و قد علم أنه لن يتحصل على ذلك الا اذا عرض التعديل المقترح على الشعب المصرى و موافقة الشعب على التعديل فى استفتاء عام. فما كان منه الا أن دس للمصريين الأبرياء العاطفيين السم فى العسل لما جعل الاستفتاء على مادتين بدلا من مادة واحدة. المادة الاولى تنص على احقية الرئيس المصرى فى الترشح لعدد غير محدود من الدورات بدلا من دورتين فقط.
و المادة الثانية تنص على أن تكون الشريعة الاسلامية هى المصدر الرئيسى ( بالألف و اللام ) للتشريع بدلا من مصدر رئيسى للتشريع ( بدون ألف و لام). فاما أن يقبلهما المصريين معا. أو أن يرفضاهما معا.
فما كان من المصريين البسطاء الطيبين المتدينين بفطرتهم الا أن تعاطفوا مع المادة الثانية و من أجل سواد عيونها وافقوا كذلك على المادة الأولى و قد كان. و كان أن حصل السادات على ما أراد من المادة الأولى. و كان طبعا التعديل الثانى كأن لم يكن. فاستفاد السادات من تعديل المادة الأولى. و لم يستفد المصريون الطيبون شيئا من تعديل المادة الثانية. و كما قال أمير الشعراء فى وصف المصريين
هداك الله من شعب برئ : يصرفه المضلل كيف شاء.
و قبل أن اختم مقالى الذى أطلت فيه عليكم أريد أن أسالكم سؤال مهم جدا. لماذ يخاف بعض الاسلاميين فى كل الدول العربية من اقامة دولة مدنية؟ و يطالبون فى المقابل بدولة دينية؟ الاجابة على هذا السؤال فى المقال المقبل ان شاء الله.
موضوعات متعلقة
الدولة المدنية هى الحل الجزء الثانى
الدولة المدنية هى الحل الجزء الثالث