الغالبية العظمى من المثقفين والكتاب والأدباء والإعلاميين الذين حاولوا الظهور بالانحياز الأعمى لمواقف الكنيسة الأرثوذكسية في جميع المواقف المثيرة للجدل خلال الأعوام الأخيرة لا يفعلون ذلك إيمانا بقضية للأقباط ولا حبا في الكنيسة مثلا ولا بحثا عن الحقيقة ، وإنما هي عمليات تصفية حسابات مع "المجتمع" نفسه على خلفية شعور بالتهميش والعزلة والانتباذ من غالبية المجتمع الساحقة ، وهنا تتقاطع مشاعر الأقليات من كل لون وطبيعة وخصوصية ، الأقليات الطائفية مع الأقليات الأيديولوجية مع الأقليات السياسية ، حيث ينحاز بعضهم لبعض من هذا الباب تحديدا ، حيث تتلاقى الرغبة في النيل من "الجماعة / الأمة" أي مجموع الناس وغالبية المجتمع ، فيتترس بعضهم وراء بعض ، على الرغم من احتقار بعضهم بعضا ، وهذا يسهل جدا أن تلحظه في المجالس الخاصة للنخبة على وجه التحديد عندما يتحدثون عن الكنيسة ورجالها .
الميل النفسي للتضامن بين المهمشين والأقليات شائع في السلوك السياسي كما في الكتابات التاريخية كما في الكتابات الأدبية ، فمن المألوف مثلا عندما تقرأ لمثقف يساري أو طائفي أو ينتمي إلى أي أقلية عرقية أو دينية دراسة في التاريخ ـ على سبيل المثال ـ أن تجده بشكل تلقائي يميل إلى المهمشين والأقليات والمنبوذين ، ويحاول إعلاء شأنهم على بقية المجتمع وغالبيته "الجماعة/الأمة" وتلقائيا يتضامن مع مواقفه المخاصمة للمجتمع سواء كانت فكرية أو سلوكية أو سياسية ، مهما كانت شاذة أو شديدة التطرف ، وبعضهم كتب خصيصا للتعاطف مع الملحدين في التراث الإسلامي ، لأنه ببساطة ، يتماهى مع ذاته التي تعيش نفس مشاعر الانتباذ والتهميش والكراهية ضد المجتمع والغالبية ، هو يتضامن مع نفسه بدفاعه مع تلك الأقليات ، وأزعم أن تلك وتيرة ثابتة في معظم الكتابات التي تعاملت مع التراث العربي الإسلامي سواء في مجال التاريخ السياسي أو التاريخ الأدبي أو تاريخ الفكر ، وكنت قد عنيت بتتبع تلك الدراسات من خلال كتاب يساريين وشيعة ومسيحيين وشعوبيين في العراق ولبنان والجزائر والمغرب ومصر بشكل أساس ، وسجلت ذلك باستفاضة في كتب سبق لي نشرها قبل عقدين من الزمان ، لكتابات أمثال عبد الأمير الأعسم وعلي أحمد سعيد "أدونيس" وخالدة سعيد ومحمود إسماعيل ومحمد أحمد خلف الله وحسين مروة ومحمد أركون وغيرهم.
هذه الحالة النفسية أزعم أنها هي الحاكمة لمواقف إعلاميين وكتاب وأدباء مصريين الآن من المشكلة القبطية ، وهي مواقف خارج حدود العقل والمعقولية تماما ، لأنه لا يوجد أدنى محاولة لفهم وجهة النظر الأخرى ، أو التحقق من الوقائع أو حتى توجيه أي مساحة نقد للطرف القبطي ، وذلك لأن الهدف هو اتخاذ الأقباط سواتر حماية يتترسون بها في موقفهم المخاصم للاختيار الإسلامي لعموم المجتمع وانحياز الأمة إلى كل من يحمل الروح الإسلامية ويدعو إليها ، ولأنهم أجبن من أن يواجهوا المجتمع بصراحة ويخوضوا معاركهم الفكرية بوضوح وشفافية باسمهم وباسم قناعاتهم واختياراتهم ، تراهم يختبئون وراء قضية الأقباط لكي يقذفوا الأمة بكل موبقات الكلام ، فالمجتمع عندهم متطرف وجاهل وأحمق وعدواني وظالم للأقليات ولا بد من "تأديب" هذا المجتمع ومحاصرته وتهميش وجوده وخنق قدرته على الاحتجاج بترسانة قوانين وأي ممارسة قمعية في هذا الاتجاه تكون محمودة حتى لو كانت غير ديمقراطية ولا تتسق مع مبادئ حقوق الإنسان ، باختصار ، يبحثون عن "شفاء غليلهم" من المجتمع ومعاقبته لأنه ينبذهم ويهمشهم ويعطيهم ظهره ، ويقبل على الإسلام ويشعر بالانتماء إلى الإسلام هوية وتاريخا ودينا وأملا في مستقبل أفضل .
أضف إلى ما سبق أن مصر بعد ثورتها الرائعة تتجه نحو بناء ديمقراطي جديد وجاد وشامل ، والديمقراطية من أبرز ميزاتها أنها تحدد أحجام القوى السياسية بشكل علمي وموضوعي ودقيق ، وتهمش دور "الفهلوة" الإعلامية والسياسية في المجتمع ، وتتيح لجميع خلايا المجتمع ومكوناته على المستوى الفردي والجماعي الحصول على حقوقها ، حقوقها فقط ، وفق موازين عادلة وصارمة وشفافة ، وبالتالي يكون من الطبيعي أن يسعى هؤلاء "المهمشون" والأقليات بمختلف ألوانها إلى العمل بكل سبيل من أجل إعاقة هذا الانتقال إلى الديمقراطية ، وإثارة أي قلق وإلقاء أي حجارة إعلامية أو طائفية أو سياسية أمام المسيرة لمحاولة تعطيل اندفاع المجتمع نحو أشواقه المشروعة للديمقراطية وسيادة القانون ، فالديمقراطية تنهي حضورهم وتكشف وزنهم السياسي الحقيقي وتعري حجمهم الشعبي والديموغرافي ، وبالتالي يكون من الطبيعي أن تتحالف الأقليات ، طائفية وسياسية وأيديولوجية ، وإن كان لكل منهم حساباته الخاصة من هذا التحالف غير المكتوب ، ولكن "الخصم" واحد عند الجميع ، وهي الغالبية وجمهور الناس والأمة الممثلة لهوية المجتمع وكل تيار أو جماعة أو جمعية أو حزب أو مؤسسة أو منبر إعلامي ينتمي إلى هوية هذا المجتمع .