إثبات أحكام الردة والتكفير في الدنيا
الردة: في اللغة : هي الرجوع مطلقا
الردة شرعا :
هي الرجوع عن الإيمان أو عن ملة الإسلام بالوقوع في الكفر أو الشرك المخرج من الملة
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى10/372 : ( فإن نصوص الوعيد التي في الكتاب والسنة ونصوص الأئمة بالتكفير والتفسيق ونحو ذلك لا يستلزم ثبوت موجبها في حق المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع ) أ.هـ
ويقول في مجموع الفتاوى 12/488 عن تكفير أهل البدع :
( ولم يتدبروا أن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين وأن التكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع بين هذا الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا العمومات ولم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه ) أ.هـ
شروط صحة الردة أو التكفير:
1- العقل فلا تصح ردة المجنون والصبي الذي لا يعقل
2- الطواعية والاختيار والصحو والقصد المتعمد لفعل الكفر , والقصد شرعا نوعان :
أ- القصد بمعنى النية والإرادة الجازمة المستلزمة للفعل ويسمى القصد إلى الفعل وهو التعمد للفعل وهو القصد الأول وفقدانه يغير المناط وله صور تندرج تحت باب الخطأ
ب- القصد بالفعل وهو الاختيار والطواعية ويسمى القصد الثاني أو المقارن للفعل وفقدانه يلغي المناط وله صور تندرج تحت باب الإكراه - ويطلقه بهذين المعنيين معا أهل السنة والإتباع من السلف الصالح , راجع عوارض الأهلية للجبوري450
3- بلوغ الحجة أو الرسالة أو الدليل من الكتاب والسنة وليس فهم الحجة
قال ابن تيمية في الفتاوى 11/406 :
( لكن من الناس من يكون جاهلا ببعض الأحكام جهلا يعذر به فلا يحكم بكفر أحد حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة كما قال تعالى [وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا] {الإسراء:15}
وقال ابن تيمية في الفتاوى 4/501 ( ولهذا لم يكفر العلماء من استحل شيئا من المحرمات لقرب عهده بالإسلام أو لنشأته ببادية بعيدة فإن حكم الكفر لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة) ا.هـ
قال الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن النجدي:
( والمقصود أن الحجة قامت بالرسول والقرآن فكل من سمع بالرسول وبلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة وهذا ظاهر في كلام شيخ الإسلام ) الفتاوى النجدية3/124
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله : ( وقيام الحجة نوع وبلوغها نوع وأما أصول الدين التي أوضحها الله وأحكمها في كتابه فإن حجة الله هي القرآن فمن بلغه القرآن فقد بلغته الحجة ولكن أصل الإشكال أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة وبين فهم الحجة فإن أكثر الكفار والمنافقين لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم كما قال تعالى [أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا] {الفرقان:44} , وقيام الحجة نوع وبلوغها نوع وقد قامت عليهم وفهمهم إياها نوع آخر وكفرهم ببلوغها إياهم وإن لم يفهموها ) الدرر السنية 10/93
4- أن يكون الكفر مخرج من الملة صريح وقطعي الدلالة ( كفر بواح )غير مختلف فيه
5- أن يثبت الكفر أو الردة ثبوتا شرعيا بطريق صحيح
وذلك بأحد أمرين -1- الإقرار أو الاعتراف -2- شهادة رجلين مسلمين عدلين عند الجمهور واشترط الحسن أربعة شهود لأن عقوبتها القتل قياسا على الزنا (المغني 10/99 ) ومن ثم يحتاج قاض ٍ ووال ٍ ,
- يقول الشوكاني في الرسائل السلفية (بل ولو علم أدنى علم أن ذلك شرك لم يفعله , قلت : الأمر كما قلت , ولكن لا يخفى عليك ما تقرر في أسباب الردة أنه لا يعتبر في ثبوتها العلم بمعنى ما قاله مما جاء بلفظٍ كفري أو فعل فعلا كفرياً ) أ.هـ
موانع الردة أو التكفير:
1- عوارض الأهلية مثل الجهل – الخطأ- التأويل- النسيان- الإكراه – عدم العقل والبلوغ والاختيار
قال ابن تيمية في الفتاوى 11/408:
( ولهذا اتفق الأئمة على أن من ينشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان وكان حديث عهد بالإسلام فأنكر شيئا من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول)
ويقول ابن تيمية في الفتاوى35/165 : ( وأصل ذلك أن المقالة التي هي كفر بالكتاب والسنة والإجماع يقال هي كفر قولا يطلق كما دلت على ذلك الدلائل الشرعية فإن الإيمان من الأحكام المتلقاه عن الله ورسوله ليس ذلك مما يحكم به الناس بظنونهم وأهوائهم ولا يجب أن يحكم في كل شخص قال ذلك بأنه كافر حتى يثبت في حقه شروط التكفير وتنتفي موانعه مثل من قال إن الخمر حلال لقرب عهده بالإسلام أو لنشوئه ببادية بعيدة ) أ.هـ
وقال ابن تيمية في جامع المسائل ( عزيز شمس ) 3 /151 وفي مجموع الفتاوى 11/320
( وهذا الشرك إذا قامت على الإنسان الحجة فيه ولم ينته وجب قتله كقتل أمثاله من المشركين ولم يُدفن في مقابر المسلمين ولم يُصلّى عليه وأما إذا كان جاهلا لم يبلغه العلم ولم يعرف حقيقة الشرك الذي قاتل عليه النبي المشركين فإنه لا يُحكم بكفره ) ا.هـ ,
وقال أبو بطين في الدرر السنية 10/406 ( وأما قول الشيخ (يقصد ابن تيمية ) عن الشرك : ولكن لغلبة الجهل في كثير من المتأخرين، لم يمكن تكفيرهم حتى يبين لهم ما جاء به الرسول... إلخ، فهو لم يقل إنهم معذورون، ولكن هذا توقف منه في إطلاق الكفر عليهم قبل التبيين؛ فيجمع بين كلامه بأن يقال: إن مراده أننا إذا سمعنا من إنسان كلام كفر، أو وجدناه في كلام بعض الناس المنظوم، أو المنثور، أننا لا نبادر في تكفير من رأينا منه ذلك؛ أو سمعناه حتى نبين له الحجة الشرعية، وهذا مع قولنا: إن هؤلاء الغلاة الداعين للمقبورين، أو الملائكة، أو غيرهم، الراغبين إليهم في قضاء حوائجهم، مشركون كفار. ) أ.هـ
وقال ابن سحمان في تبرئة الشيخين 1 / 35 (وقال ابن عبد الوهاب في رسالته للشريف : وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على قبة عبد القادر والصنم الذي على قبر أحمد البدوي وأمثالهما لأجل جهلهم وعدم من ينبههم فكيف نكفر من لم يشرك بالله أو لم يهاجر إلينا ولم يكفر ويقاتل ( سبحانك هذا بهتان عظيم ) .أ.هـ ,
فالجهل مانع من التكفير في الدنيا عند الشيخين ابن تيمية وابن عبد الوهاب وليس عذرا في الشرك والكفر عند الله في الحقيقة وهو قول الإمام أحمد وعامة أهل السنة والإتباع .
2- أن يكون الكفر محتملا غير صريح غير قطعي الدلالة ( الكفر بالمآل ليس بكفر في الحال ولازم المذهب ليس بمذهب ما لم يلتزمه صاحبه)
3- عدم ثبوت البينة على الكفر بالشهود أو الإقرار
قال ابن فرحون المالكي :
( لا تقبل الشهادة بالردة المجملة كقول الشهود كفر فلان أو ارتد بل لابد من تفصيل ما سمعوه ورأوه منه لاختلاف الناس في التكفير فقد يعتقدون كفرا ما ليس بكفر ) تبصرة الحكام2/277
وملخص أحكام المعين :
1- من أتى بأقوال أو أفعال أو اعتقادات ليست بعينها مكفرة ولكن مآلاتها ولوازمها مكفرة فهنا لابد من استيفاء الشروط وانتفاء الموانع . فهذا يتهم بالردة ولا يدان بها إلا بعد تحقق الشروط وانتفاء الموانع .
2- من أتى بأقوال أو أفعال أو اعتقادات هي بعينها مكفرة ولكنها تحتمل وجها آخر غير الكفر لكونه حديث عهد بكفر أو قادم من بادية بعيدة أو لسبب أو لآخر من عوارض الأهلية أو غير ذلك من الشبهات فهذا أيضا يتهم ولا يدان إلا بعد استيفاء الشروط وانتفاء الموانع يقال هذه ردة وفعل كفر فإن تاب صاحبها وإلا قتل مرتداً كافرا .
3 – من أتى بأقوال أو أفعال أو اعتقادات هي بعينها مكفرة ولا تحتمل وجها آخر غير الكفر ( بلا أي موانع ) فهذا يدان بالكفر قبل الاستتابة ويستتاب للقتل . ويقال هذا : مرتد كافر يستتاب و إلا قتل مرتدا كافرا
4- من أتى بأقوال أو أفعال أو اعتقادات هي بعينها مكفرة ولا تحتمل وجها آخر غير الكفر وليس لها توبة كالردة المغلظة بحرابة أو الطعن في الدين أو سب الرسول أو الزندقة . فهذا يدان بالكفر ولا يستتاب ولا تقبل له توبة ويقتل مرتدا .
5- من ثبت كفره بالانتساب وهي حالة ظهور الكفر في الدار والطائفة وشدة التصاقه بها التصاقا تغيرت معه التبعية فهنا يكون الكفر حكميا للصغير واللقيط والمجنون بتبعية الدار أو الطائفة
وتغير التبعية بأربعة أمور هي- تميز فسطاط أو تميز انتساب – أن يثبت الكفر بالاسم الظاهر أو الشارة بحيث يغني الاسم عن المسمى – أن يكونوا ممكنين من توريث أبنائهم ما هم عليه – أن يكون أمر التابع كأمر المتبوع .
6 – التصاق الكفر بالدار أو الطائفة دون أن يصل إلى تغير التبعية ويكون أمر التابع غير أمر المتبوع فهذا يتهم ولا يدان إلا بعد استيفاء الشروط وانتفاء الموانع .
7- وجود ظواهر الشرك والردة بالدار دون أن تصل إلى شدة الالتصاق أو تغير التبعية وهنا لا يتهم أحد ولا يدان ولكن يستبرأ للدين والعرض ويستصحب حكم الإسلام للصغير واللقيط والمجنون ومجهول الحال ويعامل المعين كما في دار الإسلام بحسب حاله هو بعينه وليس بانتسابه .
8- الطائفة شديدة الالتصاق بالكفر داخل دار الردة عن الشرائع فهذه : الحكم فيها بالكفر جملة ولا يحكم على معين فيها بكفر إذا كان في أمره خفاء يتطلب استيفاء الشروط وانتفاء الموانع في حقه ولكن يقاتل على ما عليه فئته ويستحل منه ما يستحل من طائفته ونكل أمره إلى الله .
9- من كان كفره بواحا داخل طائفة أو خارجها فهذا لا حرج من تكفيره لرفع الالتباس. ولا يصح تكفير المعين ما لم يكن كفره بواحا لنا فيه من الله برهان أو يصدر الحكم بكفره من جهة شرعية أو بعد إقامة الحجة والبينة عليه التي يعلمه بها الخاص والعام من أهل الحق .
10 – يستبرأ للدين والعرض ممن أدخل نفسه في سيما النفاق وإن لم نقطع بكفره ومن دخل في كفر نوع ولم نقطع بكفره كمعين ومن قطع بكفره بعد إقامة الحجة عليه ولم تستطع أن تظهر أمره للناس ببينة يعلمه بها الخاص والعام وينابذ بالكفر من أقيمت عليه البينة إذا كان في ذلك مصلحة شرعية .