رابعا : عدم مراعاة ضوابط الكفر الأكبر
والفيصل في هذا الرجوع إلى القاعدة ”المعاصي من أمر الجاهلية ولا يَكْفر أو لا يُكفَّر مرتكبها إلا بالشرك“ ـ باب البخاري ـ ولتحديد النواقض المكفرة للتوحيد لابد من وجود ضوابط ثلاثة:
أولاً: أن تكون نواقض لإفراد الله عزّ وجلّ بما لا يكون إلا لله عزَّ وجلّ ( حق خالص لله وحده وهو من العبادة الراجعة لأصل الدين ).
ثانيًا: أن يوجد نص يتنزل على مناط يفيد النقل عن الملة بالضوابط اللغوية وأن يتم تنقيح المناط وتحقيقه لتحديد ما ينزل عليه الحكم بدقة بالغة وإخراج ما لا يتنزل عليه الحكم أو ما يكون له نصيب من الحكم دون نصه المخرج من الملة.
ثالثًا: أن تكون هذه النواقض محرمة تحريمًا أبديًا لا تباح في حال دون حال أو وقت دون وقت بحيث لم يكن المسلم مسلمًا في أي وقت وهو يفعلها فلم يتأخر بيانها عن بدء الدعوة .
هذا مع مراعاة قواعد الشريعة من دفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما مثلا واعتبار المآلات وفتح وسد الذرائع ومراعاة قواعد الضرورة وأحكام التقية والإكراه وما إلى ذلك.
ضوابط لفظ الكفر
1 ـ إذا كان معرف أو مطلق ينقل عن الملة .
أ ـ معرف :
مثل قوله تعالى [وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ] {المائدة:44} المعرف بـ ( ال )
ب ـ مطلق :
مثل قوله تعالى[لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ] {المائدة:17}[لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ] {المائدة:73} [مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] {النحل:106} , وقول الرسول صلى الله عليه وسلم [ العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر ]
2ـ إذا كان مقيد أو نكرة يكون غير مخرج " كفر دون كفر "
أ ـ نكرة :
مثل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [ سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ] مسلم
ب ـ مقيد : مثل قوله صلى الله عليه وسلم [ لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ]
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم [ اثنتان في الناس هما بهما كفر : الطعن في النسب ، والنياحة على الميت ] رواه مسلم أي ( قيد الكفر في الطعن في النسب والنياحة على الميت )
ويقول ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم 70 :
[ ( فقوله هما بهما ) أي هاتان الخصلتان هما كفر قائم بالناس فنفس الخصلتين كفر حيث كانتا من أعمال الكفر وهما قائمتان بالناس . لكن ليس كل من قام به شعبة من شعب الكفر يصير بها كافرا الكفر المطلق حتى تقوم به حقيقة الكفر, كما أنه ليس كل من قام به شعبة من شعب الإيمان يصير بها مؤمنا حتى يقوم به أصل الإيمان وحقيقته وفرق بين الكفر المعرف باللام كما في قوله صلى الله عليه وسلم ( ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة ) ومن كفر منكر في الإثبات ، وفرق أيضا بين معنى الاسم المطلق إذا قيل كافر أو مؤمن وبين المعنى المطلق للاسم في جميع موارده كما في قوله ( لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ) فقوله يضرب بعضكم رقاب بعض تفسير للكفر في هذا الموضع وهؤلاء يسمون كفارا تسمية مقيدة ولا يدخلون في الاسم المطلق إذا قيل كافر أو مؤمن . كما أن قوله تعالى [خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ(6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) ]. {الطًّارق}. , سمي المني ماء تسمية مقيدة ولم يدخل في الاسم المطلق حيث قال تعالى [أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ] {المائدة:6} أ.هـ
الكفر كفران :
- أ - كفر أكبر :
ينقل عن الملة وهو كفر الجهل (بالضلال أو التكذيب أو الشك أو الإعراض) و كفر العناد بعد العلم ( جحود – عدم انقياد القلب وموافقته وموالاته – الخلع والكره والبراءة والنبذ للإسلام – العداوة والمحادة والمشاقة للدين- الكبر والاستكبار والتعطيل والشرك بأنواعه ) وهو تسعة مناطات تم حصرها من الكتاب والسنة والإجماع + مناطات الشرك 26
- ب- كفر أصغر :
" كفر دون كفر " لا ينقل عن الملة . مثل كفر النعمة : والدليل قوله تعالى [وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ] {النحل:112}.
1- قال بعض أهل الغلو: من ليس في جماعة فهو كافر. وقال آخرون: بل من ليس في جماعتنا ـ بزعمهم ـ هذه فهو كافر. وقال آخرون: من ليس في طاعة أميرنا فلان فهو كافر. والعالم كله لم يسمع بجماعتهم ولا أميرهم ما عداهم ونفر قليل من الناس من غيرهم، وجماعتهم هذه غير ممكنة ونسوا أو لم يقرأوا ما في البخاري «باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة» ونسوا أو لم يقرأوا أو يفهموا أن الجماعة المُلْزِمة بالسمع والطاعة والتي يتحقق بها الوجود الشرعي الإسلامي هى جماعة الخلافة أي الجماعة صاحبة السلطان والشوكة أي الجماعة الممكنة التي تبعث الجيوش وتقيم الحدود وتحفظ البيضة وتجمع الزكاة وتنصب القضاة وليست أية جماعة من بضعة أفراد يبايعون أميرًا يسبقون به غيرهم فيكون هو الأول فمن لم يدخل في بيعته يكفر ومن تؤخذ له بيعة بعده يكفر إذا لم يدخل في بيعة من سبقه، كل هذا دون تمكين لا لهذا ولا لذلك ودون تميزُّ يعلمه الناس ولا مباينة ولا دعوة يفيء إليها الناس... إلى آخر هذا الهراء.
ومن يجمع بين الأحاديث يفقه، وإن كان الأمر لا يحتاج إلى تدبر لوضوح المعنى، ولكن حكمة الله قضت أن يقيم الحجة على من يفهم ومن لا يفهم بالمعنى الواضح والنص الحرفي الذي لا يدع مجالاً للجدل ولا للمماراة، ففي الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأنا آمركم بخمس أمرني بهن: الجماعة والسمع والطاعة والهجرة والجهاد في سبيل الله، فإن من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع، ومن دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جثي جهنم» ، «لا يحل دم امرئ مسلم شهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس والثيب الزاني والمارق من الدين التارك للجماعة»، «من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فمات فميتته جاهلية»، «من كره من أميره شيئًا فليصبر عليه فإنه ليس أحدًا من الناس خرج من السلطان شبرًا فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية»، «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما»، وفي معنى الحديث «أن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي بعث الله نبيًّا وأنه لا نبيَّ بعدي وستكون خلفاء فتكثر فأوفوا بيعة الأول فالأول أدوا إليهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم» [وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ] {النور:55} [الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ] {الحج:41}
فلا بد أن يكون الأمير خليفة أو نائبًا عن خليفة ولا بد أن يكون الخليفة أو الإمام: سلطانًا أو صاحب سلطان، ونصُّ الحديث واضح جدًا: «فإنه ليس أحدًا خرج من السلطان شبرًا فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية»: من السلطان، ولذلك لما ناظر شيخ الإسلام ابن تيمية الشيعة في الحديث «لا يزال أمر الإسلام عزيزًا، ما وليه اثنا عشر خليفة كلهم من قريش» قال لهم: ربما يكون فيمن ذكرتم من هو خير من بعض الخلفاء المعنيين بالحديث الذين ولوا أمور المسلمين ولكنهم غير ممكنين، والخليفة لا يكون خليفة إلا بشوكة وسلطان يجتمع عليه الناس رغبة ورهبة.
و في حديث حذيفة لم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم لحذيفة: إذا لم يكن للمسلمين جماعة ولا إمام فابحث عن أمير وألِّف أنت جماعة فمن لم يدخل في بيعتك هذه يكون كافرًا ومن بويع له بعدك يكون كافرًا، لأن المقصود بالجماعة هو التمكين والتمكين لا يتحقق باثنين ولا ثلاثة، ولذلك ترجم العلماء الحديث هكذا: «باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة» أما إذا كان الأمر سهلاً هكذا والمسألة مسألة شكلية وتسديد خانة كما يقولون، لم يصح لهذا العنوان معنى لأنه ولا بد ستكون جماعة بل جماعات كثيرة جدًا كما ترى الآن، فهل تحققت شرعية الخلافة والسلطة الشرعية بهذه الجماعات الكثيرة غير الممكنة؟
وفي بعض روايات الحديث: «إذا وجدت خليفة فاتبعه وإن لم تجد خليفة فالهرب الهرب» فهل الخليفة هو أي شخص يمسك به في الشارع يقول له تعالى أعطيك بيعة خلافة حتى أكون أنا وأنت مُسْلِمَيْنِ بشرط الجماعة دون مقاصد الخلافة من التمكين ؟! أم الخلافة تمكين يحفظ البيضة ويقيم الشرع ويعلي كلمة الله ويظهر الدين على الدين كله حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ؟!
وهذه روايات حديث حذيفة الذي ترجم له العلماء «كيف الأمر إذا لم تكن جماعة»: في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير ( فنحن فيه ) فهل بعد هذا الخير من شر( فتنة ) ؟ قال نعم (قلت فما العصمة منه ؟ قال السيف ) قلت وهل بعد ذلك الشر من خير ؟ قال نعم وفيه دخن قلت وما دخنه؟ قال قوم: ( يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هديي ) يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر ( فمن أنكر برئ ومن كره سلم ) قلت فهل بعد ذلك الخير من شر ؟ قال نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها قلت يا رسول الله صفهم لنا قال هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا قلت فما تأمرني إن أدركني ذلك ؟ قال تلزم جماعة المسلمين وإمامهم ( ولو ضرب ظهرك وأخذ مالك ) ( تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك ) – ( فإن رأيت خليفة فالزمه فإن لم يكن خليفة فالهرب ) قلت فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ قال فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك ( فلأن تموت وأنت عاضّ على جزل خير لك من أن تتبع أحدا منهم).
واضح جداً أن المقصود بالجماعة هو الخليفة السلطان صاحب الشوكة والسلطة، وهذا واضح ليس فقط من المعنى وإنما اللفظ الصريح، وأن المراحل السابقة أيضًا هى في جماعة التمكين: الخير الخالص، الخير المشوب بالدخن، والفتنة. وأن الفرق أيضًا أوضاع ممكنة ولكن اجتماع على غير الإسلام وانتساب إلى غير الشرع فخرجت عن معنى الخلافة أو الخليفة وخرجت عن معنى الشرعية فوجب اعتزالها، وليس المقصود بها الجماعات غير الممكنة.
فالذى يقول إن الجماعات الإسلامية فرق من فهم هذا الحديث: مخطئ تمامًا، والذى يقول إن واحدًا من هذه الجماعات خلافة إسلامية ملزمة بالسمع والطاعة وأن من لم يلزمها ويسمع ويطيع لأميرها ـ فلان ـ فهو كافر: مخطئ تمامًا ومبتدع.
فنحن الآن في الوقت الذي ترجم له البخاري: «كيف الأمر إذا لم تكن جماعة» وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لحذيفة هو أمر لنا: اعتزال كل الأوضاع التي تقوم على الاجتماع على غير الإسلام والانتساب إلى غير الشرع، لم يأمرنا بلزوم فلان ولا بإقامة جماعة من ثلاثة تكون ملزمة لغيرنا ومن خرج عنها يكون كافرًا، ولا بشيء من هذه البدع المحدثة.
هذا ما يؤخذ من هذا الحديث.
أما ما يؤخذ من غيره فهو راجع إلى قولــه عز وجل ( ولتكن منكم أمة ) والأحاديث المفسرة لها:
روايات حديث «لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق يقاتلون عليه لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى يأتي أمر الله أو تقوم الساعة» وفي رواية من روايات الحديث: «لا تزال أمة من أمتى» وهذه رواية مفسرة لقوله تعالى:[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] {آل عمران:104} [وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ] {الأعراف:159} [وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ] {الأعراف:181} و«من» فى كل هذه النصوص للتبعيض وليست للبيان. وهذه جماعة العلماء التي تكلم عنها الشاطبي في الاعتصام وقال: «إذا سألت جاهلاً أجابك إن الجماعة هى سواد الناس ولا يدرى أن الجماعة عالم متمسك بأثر الرسول وأصحابه ومن تبعهم».
وهذه الجماعة تقبل التعدد لتعدد الوظائف الشرعية لخدمة جماعة المسلمين، وهو تعدد أطر وليس تعدد انتماءات، وتعدد تكامل وتنافس على الخير لا تعدد تحزب وصراعات حزبية، فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد برئ ممن فرَّق دينه واحتزب. والفرق بين جماعات التشيع ـ الشيع والفرق والأحزاب ـ وبين جماعات الترشيد والقيام بالوظائف الشرعية لخدمة المجتمع المسلم والجماعة المسلمة هو تقديم الولاء الخاص على الولاء العام، فمتى فعل ذلك فهذا تحزب وشيع وفرق، ومن قدم الولاء العام على الولاء الخاص وكان ولاؤه الخاص مجرد إطار للعمل وليس إطارًا للانتماء وانتماؤه أصلاً لأهل السنة والجماعة دون غيرهم فهذا داخل في «من» للتبعيض وهذه الجماعات الداخلة فى «من» للتبعيض، الانتماء إليها فرض كفاية لا فرض عين ويتأكد هذا الفرض عند انقطاع الوجود الشرعي الإسلامي للعمل من خلال أطر متنوعة متكاملة تتعاضد لإعادة هذا الوجود الشرعي والتمكين الإسلامي.
ولتكون لجماعةٍ شرعيةُ جماعةِ الدعوة أو العلماء لابد أن تكون متصفة بهذه الصفات:
• التزام السنة.
• الاجتماع عليها.
• القتال دونها.
• عدم الوقوع في أعيان البدع الكبار.
• ترك اتباع الهوى.
• ترك اتباع المتشابه وتقديمه على المحكم.
• الخروج من العداوة والبغضاء.
• أن تكون إطار عمل لا إطار انتماء.
• وأن يتقدم ولاؤه العام لجماعة المسلمين على ولائه الخاص لإطاره الخاص في العمل الإسلامى.
وغير هذا ينطبق عليه قول أم سلمة رضى الله عنها: إن نبيكم قد برئ ممن فرَّق دينه واحتزب، وقول الله عز وجل[قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ] {الأنعام:65} [إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ] {الأنعام:159} [ ولا تكونوا من المشركين , مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ] {الرُّوم:32} فتكون شيع عقوبة من الله يذيق بعضها بأس بعض حتى تفيء القلوب إلى الله خالصة من كل غرض بعيدة عن كل هوى.
يقول الشاطبي في الاعتصام 2/266 : ( وذلك أن الجميع اتفقوا على اعتبار أهل العلم والاجتهاد وسواء ضموا إليهم العوام أم لا فإن لم يُضَمُّوا إليهم فلا إشكال أن الاعتبار إنما هو بالسواد الأعظم من العلماء المعتبر اجتهادهم، فمن شذَّ عنهم فمات فميتته جاهلية وإن ضموا إليهم العوام فبحكم التبع لأنهم غير عارفين بالشريعة، فلابد من رجوعهم في دينهم إلى العلماء فإنهم لو تمالأوا على مخالفة العلماء فيما حدُّوا لهم لكانوا هم الغالب والسواد الأعظم فى ظاهر الأمر لقلة العلماء وكثرة الجهال، فلا يقول أحد أن اتباع جماعة العوام هو المطلوب وأن العلماء هم المفارقون للجماعة والمذمومون في الحديث، بل الأمر بالعكس، وإن العلماء هم السواد الأعظم وإن قلوا، والعوام هم المفارقون للجماعة إن خالفوا، فإن وافقوا فهو الواجب عليهم. ومن هنا لما سئل ابن المبارك عن الجماعة الذين يقتدى بهم أجاب بأن قال: أبو بكر وعمر، قال: فلم يزل يحسب حتى انتهى إلى محمد بن ثابت والحسين بن واقد، قيل: فهؤلاء ماتوا، فمن الأحياء؟ قال: أبو حمزة السكري وهو محمد بن ميمون المروزى. فلا يمكن أن يعتبر العوام في هذه المعاني بإطلاق، وعلى هذا فلو فرضنا خلو الزمان عن مجتهد لم يمكن اتباع العوام لأمثالهم ولا عُدَّ سوادهم أنه السواد الأعظم المنبه عليه في الحديث الذي من خالفه فميتته جاهلية، بل يتنزَّل النقل عن المجتهدين منزلة وجود المجتهدين، فالذى يلزم العوام مع وجود المجتهدين هو الذي يلزم أهل الزمان المفروض الخالي عن المجتهد، وأيضًا فاتباع نظر من لا نظر له واجتهاد من لا اجتهاد له محض ضلالة ورمي في عماية وهو مقتضى الحديث الصحيح «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا». الحديث. روى أبو نعيم عن محمد بن القاسم الطوسي قال: سمعت إسحاق بن راهوية، وذكر في حديث رفعه إلى النبيّ قال: «إنَّ اللهَ لم يكن ليجمع أمة محمد على ضلالة، فإذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم. فقال رجل: يا أبا يعقوب من السواد الأعظم؟! فقال: محمد بن أسلم وأصحابه ومن تبعهم. ثم قال: سأل رجل ابن المبارك: من السواد الأعظم؟ قال: أبو حمزة السكرى. ثم قال إسحاق: في ذلك الزمان، يعنى: أبا حمزة، وفي زماننا محمد بن أسلم ومن تبعه. ثم قال إسحاق: لو سألت الجهَّال عن السواد الأعظم لقالوا: جماعة الناس، ولا يعلمون أن الجماعة: عالم متمسك بأثر النبيّ صلى الله عليه وسلم وطريقه فمن كان معه وتبعه فهو الجماعة. ثم قال إسحاق: لم أسمع عالمًا منذ خمسين سنة كان أشد تمسكًا بأثر النبيّ صلى الله عليه وسلم من محمد بن أسلم. يقــول الشاطبي: فانظر في حكايته تتبين غلط من ظن أن الجماعة هى جماعة الناس وإن لم يكن فيهم عالم، وهـو وهْـم العوام لا فهم العلماء. أهـ.
2- وقالوا: «من لم يكفر الكافر فهو كافر في سلسلة لا تنتهى من التكفير» ونقول: هذا ليس بنص من كتاب أو سنة، وإنما هو قول يقوله بعض العلماء في المناطات الواضحة جدًا التي ليس فيها شبهة ولا التباس، والتي يكون ترك تكفير الكافر فيها إنما هو لإنكار معلوم من الدين بالضرورة أو رَدِّهِ، فيكون الكفر للإنكار والرد لا لترك التكفير، وإنما ترك التكفير في هذه الحالة دلالة على الإنكار والرد، فإذا تبيّن عدم الإنكار أو الرد للنص الموجب لكفر الكافر بطلت دلالة ترك التكفير على الكفر في هذه الحالة.
والمسألة واضحة جدًا فى قولــه تعالى:[فَمَا لَكُمْ فِي المُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا , وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ] {النساء: 88-89} يقول القرطبي في تفسير هذه الآيات: قال ابن عباس: هم قومٌ بمكة آمنوا وتركوا الهجرة. قال الضحَّاك: وقالوا: إن يظهر محمدٌ صلى الله عليه وسلم فقد عرفنا، وإن ظهر قومنا فهو أحبُّ إلينا. فصار المسلمون فيهم فئتين: قومٌ يتولونهم وقومٌ يتبرءون منهم فقال اللهُ عز وجل : [فَمَا لَكُمْ فِي المُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ ] ويقول ابن كثير في التفسير: قال العوفي عن ابن عباس: «نزلت في قوم كانوا بمكة قد تكلموا بالإسلام وكانوا يظاهرون المشركين فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم فقالوا: إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا منهم بأس، وإن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة قالت فئة من المؤمنين: اركبوا إلى الجبناء فاقتلوهم فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم، وقالت فئة أخرى من المؤمنين: سبحان الله ـ أو كما قالوا ـ أتقتلون قومًا قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به من أجل أنهم لم يهاجروا ولم يتركوا ديارهم؟ نستحل دماءهم وأموالهم؟! فكانوا كذلك فئتين والرسول عندهم لا ينهى واحدًا من الفريقين عن شيء فنزلت [فَمَا لَكُمْ فِي المُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ ] الآية. رواه ابن أبي حاتم. وقد روى عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعكرمة ومجاهد والضحَّاك وغيرهم قريب من هذا، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم :«إنها طيبة وإنها تنفي الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد». أهـ.
ولقد جاء في تفسير الآية أنها تشمل طائفة أخرى وهم قوم هاجروا ثم تركوا الهجرة وعادوا إلى أوطانهم، يقول القرطبى: وذكر أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه أنها نزلت في قوم جاءوا المدينة وأظهروا الإسلام فأصابهم وباء المدينة وحماها فأركسوا فخرجوا من المدينة فاستقبلهم نفرٌ من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما لكم رجعتم؟ قالوا: أصابنا وباء المدينة فاجتويناها. فقالوا: ما لكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة؟ فقال بعضهم: نافقوا، وقال بعضهم: لم ينافقوا هم مسلمون، فأنزل الله عز وجل [فَمَا لَكُمْ فِي المُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ ] الآية. حتى جاءوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون ثم ارتدوا بعد ذلك فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليأتوا ببضائع فيتجرون فيها فاختلف فيهم المؤمنون فقائل يقول: هم منافقون، وقائل يقول: هم مؤمنون، فبيَّن اللهُ تعالى نفاقهم وأنزل هذه الآية وأمر بقتالهم.
ويقول النسفي في تفسيرها: [فَمَا لَكُمْ ] مبتدأ وخبر [ فِي المُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ ] أي ما لكم اختلفتم في شأن قوم نافقوا نفاقًا ظاهرًا وتفرقتم فيهم فريقين ولم تقطعوا القول بكفرهم، وذلك أن قومًا من المنافقين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى البدو معتلِّين باجتواء المدينة فلما خرجوا لم يزالوا راحلين مرحلة مرحلة حتى لحقوا بالمشركين فاختلف المسلمون فيهم فقال بعضهم: هم كفار، وقال بعضهم: هم مسلمون [ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ ] ردَّهم إلى حكم الكفَّار فردوهم أيضًا ولا تختلفوا في كفرهم [ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ ] أتريدون أن تسموهم مؤمنين وقد أظهر اللهُ ضلالهم، فيكون تعييرًا لمن سمَّاهم مهتدين [ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ]أي ودُّوا لو تكفرون كفرًا مثل كفرهم أي مستوين أنتم وهم في الكفر [ فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ] فلا توالوهم حتى يؤمنوا لأن الهجرة في سبيل الله بالإسلام [فإن تولوا ] عن الإيمان [ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ ] حيث وجدتموهم كما كان حكم سائر المشركين [ إلا الذين يصلون إلى قوم ] أي ينتهون إليهم ويتصلون بهم، والاستثناء من قوله [ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ ] دون الموالاة أي إلا الذين يصلون إلى قوم معاهدين أو قوم ممسكين عن القتال لا لكم ولا عليكم، أي الذين يتصلون بالمعاهدين أو الذين لا يقاتلونكم. أهـ.
نقول :عاب اللهُ عزَّ وجلّ على من لم يقطع القول بكفرهم، ولم يكفر من لم يكفرهم، وقال عنهم إنهم مسلمون، والصحابة والرسول لم يكفروا من لم يكفرهم من الصحابة، والرسول عندهم لم يَنْهَ إحدى الطائفتين عن شيء ولم يقطع بكفرهم ويصوب من كفرهم ويخطئ فضلاً عن أن يكفر من لم يكفرهم حتى نزلت الآية
وقد اختلف الصحابة والأئمة في تكفير الخوارج وفي كفر تارك الصلاة وغيره ولم يكفر بعضهم بعضا لأجل ذلك
3- وقالوا: التعليم طاغوت، والوظيفة والجيش طاغوت، والمشاركة السياسية لدفع الصائل طاغوت ومن لم يكفر بالطاغوت فهو كافر.
والفيصل في ذلك هو ضوابط مناط الكفر السابقة والقواعد المحكمة والنواقض المخرجة من الملة
وإذا روعى كل ذلك فإن التعليم واجب إن لم يكن عينيًا فهو كفائي والجيش أحيانًا يكون واجبًا وأحيانًا يكون مباحًا وأحيانًا يكون ضرورة كما أن المشاركة السياسية لدفع الظلم والتحاكم للقوانين الوضعية لرد الحقوق ودفع الصائل ضرورة شرعية... إلخ. وعبادة غير الله على وجه الشرك الأعظم مخرجة من الملة وإن لم يكن المعبود طاغوتًا ملكًا كان أو نبيًا.
المدخل إلى الفهم دائمًا هو القواعد المحكمة لا الأمور المجملة وفهم الأمور المجملة بعد ذلك في إطار المحكم ليتبيَّن لنا معنى آخر إضافيًا في وجه الطاغوتية في الأمر ودخوله أو عدم دخوله بعد استقرار كون الفعل شركًا أعظمًا بقواعد وضوابط الأصول.
آسف للإطالة
يتبع