ثالثا : انتظار الفيء مقصد شرعي واجب
قال تعالى [وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الجَمِيلَ] {الحجر:85} [فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ] {الزُّخرف:89} [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ] {آل عمران:159} [فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ] {المائدة:13} [فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ] {السجدة:30} [وَإِنْ طَائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقتتلُوا فأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ] {الحجرات:9} [أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا] {النساء:63} [وَيَقولُونَ طَاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَة مِنهُمْ غيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكتبُ مَا يُبَيِّتونَ فَأَعْرِضْ عَنهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا] {النساء:81} [سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنهُمْ وَإِنْ تعْرِضْ عَنهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقسِطِينَ] {المائدة:42} [وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنا فَأَعْرِضْ عَنهُمْ حَتى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقعُدْ بَعْدَ الذكْرَى مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ] {الأنعام:68} [اتبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ] {الأنعام:106} [خُذِ العَفوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ] {الأعراف:199} [يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غيْرُ مَرْدُودٍ] {هود:76} [يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذا وَاسْتغفِرِي لِذنبِكِ إِنكِ كُنتِ مِنَ الخَاطِئِينَ] {يوسف:29} [فَاصْدَعْ بِمَا تؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ] {الحجر:94} [وَإِذ أَسَرَّ النبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ العَلِيمُ الخَبِيرُ] {التَّحريم:3} [وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ] {النحل:127} [وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا] {الكهف:28} [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا القَوْمُ الفَاسِقُونَ] {الأحقاف:35} [وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا] {المزمل:10} [فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا] {المعارج:5} [فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا] {الإنسان:24} [وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى] {طه:132} [إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ] {القمر:27} [رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا] {مريم:65}
في الصارم المسلول على شاتم الرسول - (3 / 217) يقول ابن تيمية :
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} {فَاعْفُ عَنهُمْ وَاصْفَحْ} {وَإِنْ تَعْفوا وَتَصْفَحُوا} {فَاعْفوا وَاصْفَحُوا حَتى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنوا يَغفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} ونحو هذا في القرآن مما أمر الله به المؤمنين بالعفو والصفح عن المشركين فإنه نسخ ذلك كله قوله تعالى: {فَاقتلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتمُوهُمْ} وقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} إلى قوله: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} فنسخ هذا عفوه عن المشركين.... إلى أن يقول
وصارت تلك الآيات في حق كل مؤمن مستضعف لا يمكنه نصر الله ورسوله بيده ولا بلسانه فينتصر بما يقدر عليه من القلب ونحوه وصارت آية الصغار على المعاهدين في حق كل مؤمن قوي يقدر على نصر الله ورسوله بيده أو لسانه وبهذه الآية ونحوها كان المسلمون يعملون في آخر عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى عهد خلفائه الراشدين وكذلك هو إلى قيام الساعة لا تزال طائفة من هذه الأمة قائمين على الحق ينصرون الله ورسوله النصر التام فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. ) أ.هـ
في تفسير الطبري 310 (دار هجر) - (24 / 308)
حَدَّثَنِي يُونُسُ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ ، قَالَ : قَالَ ابْنُ زَيْدٍ ، فِي قَوْلِهِ : {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا}. قَالَ : مَهِّلْهُمْ ، فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ ، تَرَكَهُمْ حَتَّى لَمَّا أَرَادَ الاِنْتِصَارَ مِنْهُمْ ، أَمَرَهُ بِجِهَادِهِمْ وَقِتَالِهِمْ ، وَالْغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ.
في محاسن التأويل (تفسير القاسمي) :
{ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } أي : فيما يرجفون به ، ويعيبون من جاهليتهم وعوائدهم ، بإلانة الجانب في التبليغ ، والمسامحة في الإنذار والتمهل في الصدع بالحق : { وَدَعْ أَذَاهُمْ } أي : إيصال الضرر إليهم ، مجازاةً لفعلهم . بل اعف واصفح . أو معناه : دع ما يؤذونك به بسبب صدعك إياهم . فالمصدر مضاف إلى الفاعل على الأول ، وإلى المفعول على الثاني : { وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً } أي : موكولاً إليه ، وكفيلاً فيما وعدك من النصر ، ودحر ذوي الكفر .
في تفسير القرطبي (14 / 201)
ولا تطع الكافرين والمنافقين ( أي لا تطعهم فيما يشيرون عليك من المداهنة في الدين ولا تمالئهم . الكافرين : أبي سفيان وعكرمة وأبي الأعور السلمي قالوا : يا محمد لا تذكر آلهتنا بسوء نتبعك والمنافقين : عبد الله بن أبي وعبد الله بن سعد وطعمة بن أبيرق حثوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على إجابتهم بتعلة المصلحة ) ودع أذاهم ( أي دع أن تؤذيهم مجازاة على إذايتهم إياك فأمره تبارك وتعالى بترك معاقبتهم والصفح عن زللهم فالمصدر على هذا مضاف إلى المفعول ونسخ من الآية على هذا التأويل ما يخص الكافرين وناسخه آية السيف وفيه معنى ثان : أي أعرض عن أقوالهم وما يؤذونك ولا تشتغل به فالمصدر على هذا التأويل مضاف إلى الفاعل وهذا تأويل مجاهد
في تفسير السعدي - (1 / 667)
{ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } أي: في كل أمر يصد عن سبيل اللّه، ولكن لا يقتضي هذا أذاهم، [بل لا تطعهم { وَدَعْ أَذَاهُمْ } ] (3) فإن ذلك، جالب لهم، وداع إلى قبول الإسلام، وإلى كف كثير من أذيتهم له، ولأهله.
وفي أحكام القرآن لابن العربي - (4 / 70)
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : الْإِعْرَاضُ عَنْ الْجَاهِلِينَ : وَأَمَّا الْإِعْرَاضُ عَنْ الْجَاهِلِينَ فَإِنَّهُ مَخْصُوصٌ فِي الْكُفَّارِ الَّذِينَ أُمِرَ بِقِتَالِهِمْ ، عَامٌّ فِي كُلِّ الَّذِي يَبْقَى بَعْدَهُمْ .
وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ : { لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ } .
وَقَالَتْ { أَسْمَاءُ : إنَّ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ رَاغِبَةً وَهِيَ مُشْرِكَةٌ أَفَأَصِلُهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، صِلِي أُمَّك } .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ ثَلَاثِ كَلِمَاتٍ ، قَدْ تَضَمَّنَتْ قَوَاعِدَ الشَّرِيعَةِ الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِيهِ حَسَنَةٌ إلَّا أَوْضَحَتْهَا ، وَلَا فَضِيلَةٌ إلَّا شَرَحَتْهَا ، وَلَا أُكْرُومَةٌ إلَّا افْتَتَحَتْهَا ، وَأَخَذَتْ الْكَلِمَاتُ الثَّلَاثُ أَقْسَامَ الْإِسْلَامِ الثَّلَاثَةَ .
فَقَوْلُهُ : { خُذْ الْعَفْوَ } تَوَلَّى بِالْبَيَانِ جَانِبَ اللِّينِ ، وَنَفْيَ الْحَرَجِ فِي الْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ وَالتَّكْلِيفِ .
وَقَوْلُهُ : { وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ } تَنَاوَلَ جَمِيعَ الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ ؛ وَإِنَّهُمَا مَا عُرِفَ حُكْمُهُ ، وَاسْتَقَرَّ فِي الشَّرِيعَةِ مَوْضِعُهُ ، وَاتَّفَقَتْ الْقُلُوبُ عَلَى عِلْمِهِ .
وَقَوْلُهُ : { وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ } تَنَاوَلَ جَانِبَ الصَّفْحِ بِالصَّبْرِ الَّذِي بِهِ يَتَأَتَّى لِلْعَبْدِ كُلُّ مُرَادٍ فِي نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ ، وَلَوْ شَرَحْنَا ذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ لَكَانَ أَسْفَارًا .
في أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن لمحمد المختار الشنقيطي- (2 / 47) قَوْلُهُ تَعَالَى : خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ .
بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَامَلَ بِهِ الْجَهَلَةُ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ . فَبَيَّنَ أَنَّ شَيْطَانَ الْإِنْسِ يُعَامَلُ بِاللِّينِ ، وَأَخْذِ الْعَفْوِ ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ جَهْلِهِ وَإِسَاءَتِهِ . وَأَنَّ شَيْطَانَ الْجِنِّ لَا مَنْجَى مِنْهُ إِلَّا بِالِاسْتِعَاذَةِ بِاللَّهِ مِنْهُ ، قَالَ فِي الْأَوَّلِ : خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [7 \ 199] ، وَقَالَ فِي الثَّانِي : وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [7 \ 200] ، وَبَيَّنَ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا فِي مَوْضِعَيْنِ آخَرَيْنِ .
أَحَدُهُمَا : فِي سُورَةِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ، قَالَ فِيهِ فِي شَيْطَانِ الْإِنْسِ : ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ) [96] ، وَقَالَ فِي الْآخَرِ : ( وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ) .
وَالثَّانِي : فِي حم «السَّجْدَةِ» قَالَ فِيهِ فِي شَيْطَانِ الْإِنْسِ : ( وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) ، وَزَادَ هُنَا أَنَّ ذَلِكَ لَا يُعْطَاهُ كُلُّ النَّاسِ ، بَلْ لَا يُعْطِيهِ اللَّهُ إِلَّا لِذِي الْحَظِّ الْكَبِيرِ وَالْبَخْتِ الْعَظِيمِ عِنْدَهُ فَقَالَ : ( وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) ، ثُمَّ قَالَ فِي شَيْطَانِ الْجِنِّ : ( وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) .
في تفسير ابن أبى حاتم (5 / 1639)
8687 أخبرنا أبو يزيد القراطيسي فيما كتب إلى ثنا ، اصبغ بن الفرج قال : سمعت عبد الرحمن بن زيد بن اسلم يقول في قول الله : خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين قال : أمره فاعرض عنهم عشر سنين ، ثم أمره بالجهاد .
في تفسير ابن كثير / دار طيبة - (3 / 314)
{ اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) } يقول تعالى آمرا لرسوله صلى الله عليه وسلم ولمن اتَّبع طريقته: { اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } أي: اقتد به، واقتف أثره، واعمل به؛ فإن ما أوحي إليك من ربك هو الحق الذي لا مِرْية فيه؛ لأنه لا إله إلا هو.{ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ } أي: اعف عنهم واصفح، واحتمل أذاهم، حتى يفتح الله لك وينصرك ويظفرك عليهم.
واعلم أن لله حكمة في إضلالهم، فإنه لو شاء لهدى الناس كلهم جميعا [ولو شاء الله لجمعهم على الهدى] (4) { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا } أي: بل له المشيئة والحكمة فيما يشاؤه ويختاره، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
وقوله: { وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا } أي: حافظا تحفظ أعمالهم وأقوالهم { وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ } أي: موكل على أرزاقهم وأمورهم { إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ } كما قال تعالى: { فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ } [الغاشية: 21، 22]، وقال { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } [الرعد:40] { وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) } يقول تعالى ناهيا لرسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن سب آلهة المشركين، وإن كان فيه مصلحة، إلا أنه يترتب عليه مفسدة أعظم منها، وهي مقابلة المشركين بسب إله المؤمنين، وهو الله لا إله إلا هو. كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في هذه الآية: قالوا: يا محمد، لتنتهين عن سبك آلهتنا، أو لنهجون ربك، فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم، { فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ }
[وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ] {الأنعام:112} [وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ المُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ] {الأنعام:137}
وقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتل المنافقين مع علمه بحقيقة كفرهم
وكذلك خبر فضالة حين أراد قتل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالكعبة فالتفت إلي وقال : أفضالة ! قال نعم يا رسول الله قال : ماذا كانت تحدثك به نفسك قال كنت أذكر الله قال أدن فوضع يده على صدر فضالة يقول فضالة : والله لقد كان أبغض الناس إلى فأصبح أحب الناس إلى ) أو كما قال
وفي غزوة حنين حين أراد شيبة أن يقتل النبي صلى الله عليه وسلم على حين غرة فالتفت إليه صلى الله عليه وسلم وقال ( ماذا تريد شيب ! قال يا رسول الله ما لي أرى رجالا بعمائم بيض على خيل بهم دهم قال صلى الله عليه وسلم تلك الملائكة ولا يراها اليوم إلا كافر أدن شيب قاتل الكفار والمشركين يقول شيبة فانطلقت أقاتل الكفار وقد ذهب ما كان بصدري ) أو كما قال
كل ذلك إرخاءً للستر وطلب المؤالفة وانتظار الفيء
فهذه قواعد واجبة ولازمة في الدعوة وليست مستحبات نأخذ بها أو لا نأخذ بها وليست أمر اختياري بل هي حتم وواجبة ولازمة وضرورية لحكمة يعلمها الله والمخالف لها واقع تحت كل هذه النصوص وغيرها كثير والله الموفق