| روايات قصيرة للاديب خيري شلبي | |
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
admin معلومات اضافية الجنس : العمل : الاقامة : العمر : 39 عدد المشاركات : 4284 تاريخ الانضمام : 14/05/2009 الدنيا ساعه فاجعلها طاعه | روايات قصيرة للاديب خيري شلبي 20/1/2014, 2:47 pm |
| في هذا الموضوع سوف نسعرض بعض من القصص والروايات القصيرة للاديب خير شلبي ابن قرية شباس عمير هذه الفصول الروائية، التى يضمها هذا الكتاب، سيرة ذاتية للكاتب الروائى الراحل خيرى شلبى، وهى حافلة بكل عجيب وغريب من الأحداث والشخصيات والمواقف الإنسانية، حيث اشتغل الكاتب فى العديد من المهن، وتقلب فى العديد من الأحوال، وكابد الكثير من العناء والشقاء، قبل أن يصبح كاتبا متصلا اتصالا وثيقا بالشوارع والحارات والأزقة والأكواخ، يغوص فيها، وفى قاع الحياة غوص خبير بها، يطلعنا على ما لم نكن رأيناه من حقائق الحياة. وكان عدد من المثقفين والدارسين والنقاد قد طالبوا خيرى شلبى بأن يكتب سيرته الذاتية، لكنه كان دائما يجيب بأن المرء لا يملك وحده سيرته الذاتية، بل يشاركه فيها أطراف كثيرة، ربما تفوق الحصر، ممن شاركوا فى تربيته وتثقيفه وإنضاجه، وكان لهم الفضل فيما آل إليه، ومن ثم فليس من حقه أن يتكلم بلسانهم، كما أنه لا يستطيع أن يكون محايدا فى نقل وجهات نظرهم. وقبل رحيله بأيام يكتب خيرى شلبى عن شخصيات من مرحلة الطفولة والصبا، شاركوا فى تربيته وتكوينه الثقافى والفكرى والاجتماعى بشكل أو بآخر، يكتب عنهم من قبيل الاعتراف بأفضالهم وإنسانيتهم، طامحا أن يكونوا نماذج يقتدى بها. بدأ الروائى خيرى شلبى كتابه بفصل عنوانه «مشروع مقاومة الحفاء» حين التحق بمدرسة عبدالله النديم فى العام 1944، وانتهى إلى فصل عنوانه «فى الإنشاء تعمير للعقول» وتحدث فيه عن عناصر كتابة موضوع التعبير كما تعلمها من أساتذته فى المدرسة الابتدائية آنذاك.
عدل سابقا من قبل admin في 20/1/2014, 3:32 pm عدل 2 مرات |
|
|
admin معلومات اضافية الجنس : العمل : الاقامة : العمر : 39 عدد المشاركات : 4284 تاريخ الانضمام : 14/05/2009 الدنيا ساعه فاجعلها طاعه | يوم عرق الفجل 20/1/2014, 2:50 pm |
| يوم عرق الفجل
في الدراسة الإبتدائية في عام خمسين وتسعماية بعد الألف كانت الدراسة مشتركة البنين والبنات معا في فصل واحد والفصل عبارة عن صفين طولين من القمطرات للبنين, وصف واحد من البنات يضم عشر تلميذات من علية القوم المحترمين, أما البنين فمعظمهم من أبناء الفلاحين الفقراء والمعدمين الذين اقتادهم خفراء البلدة إلي المدرسة قسرا وبقوة القانون الذي وضعه طه حسين بأن يكون التعليم إلزاميا لمدة ست سنوات ,للتلميذ بعدها أن يواصل التعليم أو يكتفي بتعلم القراءة والكتابة, لكن وزارة المعارف العظيمة رأت أن تسهل علي أمثالنا سبل التعليم فقررت أن نحصل علي الشهادة الإبتدائية من نفس مدرسة القرية في نهاية السنة السادسة ولا الحوجة للاغتراب في المدينة ودفع مصاريف باهظة علي أن عملية التعليم المشترك في جيلنا كانت فكرة عبقرية حقا من الزاوية التربوية, كل البنات حتي ـ الدميمات منهن ـ كن في نظر أهاليهن جميلات فاتنات,وكنا ندرك هذا بالطبع ,لكننا وقد دخلنا في صلب التعليم الابتدائي مع دخولنا عتبة الشباب اصبحنا ندرك بالسليقة وبالعقل معا أنهن بالنسبة لنا أخوات عزيزات ومن ثم صرن محرمات علينا إلا في منطقة الحلم يقظة كان مناما. أدرك الآن أن مشاعرالرجولة المبكرة قد سرت في أفئدتنا بسبب هذه التجربة التربوية التعليمية, وهي مشاعر أبعد ما تكون عن دائرة المراهقة الجنسية والاشتهاء وحتي ولو في المنام رغم كثرة وخصوبة منامات الشهوة حينذاك ,وكنت ألاحظ أن جميع أحاديثنا نحن الصبيان في خلواتنا لم تكن تجرؤ علي اقحام اسم واحدة منهن في أي حديث خاص باحلامنا في الحب وفي المغامرات, بل لقد لاحظت اننا جميعا قد جعلنا من انفسنا حرسا علي بنات فصلنا بالدرجة الاولي, وبنات بقية الفصول بالدرجة الثانية, واذكر ان واحدة منهن قالت لي ذات يوم وانا اسير بجوارها من المدرسة الي بيتها لكي اطمئن علي انها سلمت لأهلها كاملة غير منقوصة , قالت بكل صدق استشعرته : "كان لي أخوين اثنين والآن أصبح لي أربعة وعشرين أخا هم عدد تلاميذ الفصل" . تلك العبارة العابرة أفعمتني بمشاعر رجولية حلوة المذاق جدا حتي لأزعم أنها كانت بمثابة فرمان اصدرته تلك الفتاة الحميمة تعلن فيه عن قيام رجولتي, بمعني قدرتي علي احتمال مسؤلية حراستها من مخاطر الطريق. صحيح أن الطريق مأمون وليس يحتمل أي مخاطر علي الإطلاق إلا أن للعبارة بعدها الدلالي الذي يمتد ليشمل الحماية بجميع مستوياتها بكل ما تعنيه لفظة الأخ من مداليل في أدبيات الحياة في القرية المصرية وفي فلكلورها. الجميل أن نوازع الغيرة كانت منعدمة تماما بيننا نحن الصبيان, فقد كان من المألوف أن نتجمع لحظة دقات الجرس الاخير ليقول أحدنا للآخر: أنا سارح الغيط لابويا فقم نيابة عني بتوصيل فايزة, واذا كان هذا الرجاء يفجر السعادة والفخر في قلب من يتلقاه فان السعادة تصل إلي اقصي ذراها اذا طلبت الفتاة بنفسها منه ان يوصلها ,او اذا لجأت اليه ليشرح لها درسا غامضا أو مسألة جبر معقدة. أما أنا فقد ارتبطت عاطفيا بالفتاة "ت .ن" التي تكفلت الزمالة الحميمة بهدم ما بين اسرتي وأسرتها من حواجز طبقية شدية القوة ,فقامت بين أمها وأمي علاقة ود جميلة, كانت أمي تجيد شغل تطريز مناديل الرأس بالفل والترتر, فصارت امها ـ دون علمنا ـ ترسل مناديلها لأمي ممتدحة ذوقها الرفيع في الشغل وتنسيق الألوان. المثير لدهشتي الآن أن علاقتي العاطفية بالفتاة "ت.ن" كانت بعيدة كل البعد عن شبهة الاشتهاء الجنسي رغم أن جمالها كان مضرب الامثال في البلد, إنما هي قد غذت في خيالي وقلبي مشاعر الطموح العاقل المفعم بالبهجة خاصة أن ثورة يوليو قامت ونحن نتأهب لامتحان الشهادة الابتدائية ففرشت في خيالنا أرضا صالحة لامكانية تحقيق الكثير مما كان يبدو من قبل مستحيلا. كنت أتخيل أنني وإياها قد تزوجنا وصار لنا بيت جميل فخم بعد أن صار كلانا شيئا مرموقا في مجال من المجالات المأمولة كالمحاماة أو الطب أو السلك الدبلوماسي أو الجيش. كثيرا ما كانت مثل هذه الاكمنيات ـ المبهمة احيانا ـ تتلخص في أنني يجب أن أظل في نظرها محترما دائما. أما المظهر النظيف والسلوك الطبقي وإن كان واردا باستمرا إلا أن الثورة المباركة نجحت من أول خطوة في تدمير الحواجز الطبقية النفسية منها علي الأقل, أصبح الرئيس نفسه يفخر بأنه فلاح, واصبح الكفاح الشاق في سبيل العيش والتعليم قيمة جمالية يتعز بها الناس أضافة إلي وجهها العملي. ومع ذلك فإن فتاتي الجميلة فرضت علي ـ ربما دون أن تدري أو تعي ـ أن أكون جميلا مثلها, فاصبحت اهتم بنظافة ثيابي , بنفس الدرجة التي أهتم بها أن أكون رجلا بمعني الكلمة يمكن الاعتماد عليه ولا تصدر عنه "العيبة" أو ما يشي بسلوك مشين. وذات يوم أوصلتها إلي بيتها وروحت إلي بيتي. كانت أمي مشغولة في الخبيز مع جيرانها في سقيفة الفرن في دهاليز دارنا, فسلمتني رغيفين ساخنين ووجهتني إلي حلة الملوخية البايتة 'القرديحي 'لاغرف لنفسي مغرفتين في طبق حقير جدا من الفخار, أين هو من الأطباق الصيني في دار فتاتي؟ ثم إنني تربعت علي الأرض في المندرة, امامي الطبق ملآنا بالملوخية ذات العرق الثقيل الذي لابد أن يسقط علي صدري قطرات منه, وعلي إحدي ركبتي الرغيفين, وعلي الركبة الآخري حزمة من عروق الفجل الاخضر ذات رؤوس بيضاء شهية في صوت قرشها, جعلت أتناول طعامي وسط عصابة كبيرة من البط والأوز,راحت تهاجمني بالحاح من كل ناحية تمد مناقيرها بصضاقة وكلاحة لتخطف عروق الفجل من ناحية,والرغيف من ناحية ثانية, وتلعق الطبق من ناحية ثالثة, أربكتني تماما, صيرتني كالبهلوان أدافعها بقسوة وغيظ بين لقمة وأخري, وبينما أنا في هذه المحنة إذا بي أسمع صوتها الجميل الرنان الأنثوي يردد اسمي قرب باب دارنا : "يا خالتي ام فلان". واذ تأكدت من أنه صوتها وقد اقترب وأوشكت هي علي الظهور في باب المندرة اضطربت الكرة الارضية كلها كأن بركانا ينفجر, فانتفضت فزعا, راميا كل الفجل والخبز علي الأرض, وبقفزة واحدة في القاعة الجوانية أختبيء وراء بابها وقلبي ينتفض, صرت أتابع صوتها الحميم وهي تسأل امي ان كانت قد انتهت من شغل مناديل أمها ؟وكان أشد ما يفزعني أن نبرات صوتها الجميل تكاد تضيع في سيمفونية همجية تعزفها عصابة البط والأوز وقد هجمت علي طبق الملوخية وراحت تتبقق فيه بصوت قبيح غليظ : بط بط بط, وتتخاطف أعواد الفجل , لكن أكثر ما أفزعني أن امي صارت تقطع حوارها مع فتاتي لتهش العصابة بصوت مرعوش بالفجيعة وتصيح في استغراب "مقصوف الرقبة ساب الاكل وراح فين يا اخواتي" ؟. إلا أن ذلك كله ـ برغم آلامه ـ قد هان في سبيل أن لاتراني محبوبتي في وضع مهين يخدش الكبرياء المبكر, حتي وإن كنت في دخيلتي أتوقع أنها تعلم الحقيقة علمة اليقين.
عدل سابقا من قبل admin في 20/1/2014, 3:21 pm عدل 1 مرات |
|
|
admin معلومات اضافية الجنس : العمل : الاقامة : العمر : 39 عدد المشاركات : 4284 تاريخ الانضمام : 14/05/2009 الدنيا ساعه فاجعلها طاعه | الندوة والجنرال 20/1/2014, 2:52 pm |
| الندوة والجنرال
القاعة العلوية لكازينو صفية حلمي في ميدان الأوبرا التي لايجلس فهيا سوي من يشرب القهوة والشاي والمرطبات والشيشة من زبائن الكازينو وهم في العادة من علية القوم المحترمين، تم تجهيزها لندوة نجيب محفوظ الأسبوعية التي تقام هاهنا: ضمت المناضد الي بعضها في صف طويل مغمور بالمفارش النظيفة إلتحقت بها الكراسي في صفين متقابلين نجيب محفوظ هو أول الحاضرين، يجلس لصق الحائط النصفي المطل علي ميدان الأوبرا حيث تقف دار الأوبرا شامخة ومن خلفها قهوة متاتيا الشهيرة التي كان يجلس فيها جمال الدين الأفغاني بين مريديه من شببية مصر الثائرين الناخبين أمثال الإمام محمد عبده وسعد زغلول وأديب اسحق والنديم وغيرهم، وأمامها سور الأزبكية يمتد فوقه مهرجان من الكتب القديمة المعروضة للبيع بأسعار زهيدة ، ويبدو تمثال إبراهيم باشا البطل ـ أبو أصبع ـ ممتطيا جواده شاهرا أصبعه كأنه ينذر بالويل كل من يهدد هدوء وجمال هذه المنطقة من وسط المدينة، سيما وبقايا حديقة الأزبكية لاتزال يانعة وأشجارها العريقة العفية الوارقة تحتضن مبني المسرح القومي عي الكرسي المواجه لنجيب محفوظ يجلس الكاتب الشاب عبدالله الطوخي باعتباره سكرتير الندوة فكل كاتب شابا كان أو شيخا يصدر كتابا جديدا يحق له أن يتقدم به الي الندوة لمنافشة علي هذه المائدة غير المستديرة أي المفتوحة للجميع كل ماعليه أن يوزع نسخا من كتابه علي رواد الندوة أوعلي الأقل من يهتمون منهم بالنقد ، وحنيئذ يضع عبدالله الطوخي الكتاب في القائمة ليأخذ دوره في الأسبوع بعد المقبل أو ربما بعد شهر أو شهرين حسب الظروف وهي نسبة من الوقت تكلفي لأن يكون الجميع قد قرأوا الكتاب وكونوا وجهات نظر عنه. في ذلك اليوم كان إيقاع الحضور حيويا ومبهجا حيث تمتليء الكراسي شيئا فشيئا فتختفي تحت الوجوه والقامات: عبد المحسن طه بدر، نجيب الكيلاني، أبو المعاطي أو النجا الشاعر العصفور الصغير النابه أبو سنه، عبد الرحمن أبو عوف، يوسف الشريف، عايده الشريف، ويوسف الشاروني، فوزية مهران، ووجوه كثيرة من الرعيل الناشيء الذي بتنفس طريقة: سيد خميس، سيد حجاب، الدسوقي فهمي، عز الدين نجيب ، محمد جاد الرب، وغيرهم من الكبار والشباب لا أذكر أسماءهم.. اللحظات التي تسبق الندوة تجيء دائما بهيجة مشرقة لأنها تضرب في كل موضوع. ففي انتظار احتمال عدد المتحدثين تري الأخبار والتعليقات والنكات المتحفظة وفيما نحن في أهبة لافتتاح الندوة، ومع الأسف نسيت عنوان الكتاب الذي كان مطروحا للمناقشة يومذاك إذا بنا نسمع وقع خطوات ثقيلة متواترة متصاعدة في صلف وغلظة من بسطة السلم الأخيرة ـ وهي في نفس الوقت عتبة الدخول الي القاعة التي نجلس فيها.. تدفقت علينا أرتال من البزات الرسمية المرعبة: عدد من جنود الشرطة يقودهم عدد من الرتب الكبيرة تلمع علي صدورهم واكتافهم النجمات والنياشين والشرائط الحمراء والسوداء دهمونا بخطوة واحدة فبقينا متسمرين في مقاعدنا وقد صرنا جزاءا من جمودها وصمتها. حتي قلوبنا توقف نبضها لبرهة وجيزة، لولا أن صحوة مفاجئة دبت في أعيننا فلمحت فيها أسئلة اسنكار صامت يحجب الشعور بالخوف مؤقتا. النظرة المستربية التي تبادلنا هاخلسة بحثا عمن عساه يكون مطلوبا حيا، أو ميتا من بيننا أقتضننا بأننا جمعيا أدباء مسالمون ليس بيننا أو من الدولة أية خصومة من أي نوع، حتي الطيب نجيب الكيلاني الذي يكتب روايات إسلامية وينتمي إلي جماعة الأخوان المسلمين خارج لتوه من السجن ومنتظم في مستشفاه الحكومي . إلا أن جنرالا أو ما للجنود فطوقونا، ثم سأل الجالسين قربة في استنكار وغطرسة عن هذا التجمع المشبوه وما أغراضه بالضبط فاندفع كثرون مثل كورس همجي وقالوا في نفس واحد: هذه ندوة نجيب محفوظ، وأشارو بأيديهم إلي حيث يجلس في العمق البعيد لصق الحائط المفتوح علي ميدان الأوبرا. توجه الجنرال إليه نجيب :رجل دمث وعلي خلق عظيم، وقادر علي تبريد جهازه العصبي عند اللزوم دون ان تتبد حرارته الدافئة من حديثه وتكون ابتسامته العنيدة عنوانا علي ذلك العمق الإنساني الهادي والموج تحت زوارقه، الهادر في ضحكاته إن انطلقت مقهقهة من المفارقات الساخرة هاهو ذا يقف في استقباله باحترام ومهابة وبساطة إنسانية أسرة أهلا وسهلا، نطقها بحماسة أولاد البلد، لكأنه السيد أحمد عبد الجواد يستقبل ضيفا ذا حيثية سأله الجنرال بلهجة موغلة في الرسمية الخشنة : إسمك ايه؟ قال نجيب بتلقائية وبرسمية مقابلة: نجيب محفوظ عبد العزيز سأله: بتشغل إيه؟ قال: وكيل وزارة الأوقاف .ألجمتنا المفاجأة لم يقل إنه الكاتب الكبير المشهور علي نطاق شعبي واسع سرعان مافطنا الي أن جوابه كان ذكيا جدا، لقد تجنب استفزاز الجنرال بعدم الإثارة الي انه كاتب مشهور، وفي نفس الوقت قدم نفسه بمنصبه الوظيفي الرسمي الذي قد يكون له بعض الخاطر لدي شرطي يقيم الناس بوظائفهم. علي أن الجنرال بدا عليه أن اسم نجيب محفوظ ليس يعني بالنسبة لو أي شيء فسأله أنت تعرف أنه ممنوع أن يجتمع اكثر من خمسة أشخاص في مكان عام لأني ذلك يثير الريبة قال نجيب خلل ابتسامته هذه ندوة ثقافية هو تجمع اي نعم ولكن ليس له أي علاقة بالسياسة من قريب أو بعيد فنحن نتكلم في الأدب والفن لا أكثر ولا أقل سأله الجنرال : هل معكم تصريح بهذا من جهة أمنية مختصة؟ عندئذ شحب وجه نجيب محفوظ لكنه استدرك في لمحة ذكية: معك حق سوف نطلب من زميلنا الاستاذ سعد الدين وهبه ـ وهو زميلكم سابقا ـ أن ينوب عنا في استصدار هذا التصريح قال الجنرال بحركة من يده لكنني الآن مضطر لفض هذا التجمع قال نجيب: اعتبرنا جالسين علي مقهي أشار الجنرال الي صف المناضل المتسطيل وهل المقهي تكون هكذا! قال نجيب في هدوء وجدية معك حق: سنعيدها الي وضعها الطبيعي كمقهي! وصفق للجرسونات الواقفين الي بعيد منكمشين علي أنفسهم طلب منهم ان يفكوا هذا المناضل وأن يعيدوها فرادي كما كانت، كل منضدة كراسيها الأربعة، بين المنضدة والأخري مسافة وهكذا في لمح البصر تم كل شيء وطلب نجيب من ضيوفه أن يتفرقوا علي الموائد، وأن تصرف كل مائدة عن الأخري درءا للشبهات وقد تم هذا بالفعل في مشهد مسرحي هزلي كمشاهد المسرح الإرتجالي ثم جلسنا جميعا صامتين لبرهة خاطفة لكنها كانت كافية لأن نفهم حقيقة الموقف علي ضوء تعليقات خاطفة من بعض الجنود وبعض الجرسونات: أن سيادة الرئيس سوف بمر موكبه من هاهنا بعد قليل في طريقه إلي الأزهر الشريف لأداء صلاة الجمعة مع بعض ضيوفه الأفارقة ، أو لعله شيء من هذا القليل، فكان علي جهاز الأمن والحراسة تمشيط هذه المنطقة بأكملها وتأمين الطريق خطوة خطوة وفيما هم يؤدون واجبهم لاحظوا كثرة الداخلين الي هذا المكان في وضح الظهيرة مع أنه مكان ليلي، فتبعهم مندوبهم فاكتشف أنهم يتجمعون في هذه القاعة العليا علي مائدة مستطيلة مما يشي بأنه اجتماع تنظيمي مشبوه، وبناء عليه لابد من تفريقه. وبعد إذا تفرقت الموائد بجُلاَّسها، وانصرف الجنرال برجاله،رفع نجيب محفوظ يديه أحاط بهما فمه كالنفير وهتف مناديا في استطراد الحوار: ايوه يادكتور عبد المحسن كنت بتقول البناء النفسي للشخصيات ماله؟
عدل سابقا من قبل admin في 20/1/2014, 3:21 pm عدل 1 مرات |
|
|
admin معلومات اضافية الجنس : العمل : الاقامة : العمر : 39 عدد المشاركات : 4284 تاريخ الانضمام : 14/05/2009 الدنيا ساعه فاجعلها طاعه | نداهة ألف ليلة وليلة 20/1/2014, 2:52 pm |
| نداهة ألف ليلة وليلة
تهف علي الأيام الحلوة كما تهف علي أنفي نكهة طبيخ أمي التي كنت كفيلة وحدها بأن تشبعني علي البعد منذ أن ندهتني النداهة وأخذتني المدينة من أمي واخوتي قبل ستين عاما مضت واندثرت في ركامها أشياء كثيرة، وماتت ذكريات كانت حميمة، وانمحت من الذاكرة وجوه وآمال وآلام لاحصر لها، إلا نكهة طعام أمي لم أنسها إلي اليوم برغم الشبه الكبير. إلي حد التطابق أحيانا بينها وبين نكهة طعام زوجتي التي باتت أما ثانية. أوضح هاتيك الأيام الحلوة الباقية في وجداني هي أيام فترة التكوين وأعلي مافيها سحر النداهة الأولي التي طلعت لي من بين صفحات الكتب وأنا بعد في السنة السادسة الابتدائية. أعني كتب الأدب لا كتب الدراسة وإن كان لها سحرها هي الأخري ولكن أين هي من سحر الأدب الشعبي بوجه خاص، حيث الخيال فيه ناشط متحرر بغير حدود، كنت أنذا ك قد تعرفت جيدا علي تلال الكتب ذات الورق المصفر، المتراصة فوق بعضها علي أرضية شباك مندرتنا، سيرة بني هلال سيرة عنترة بن شداد، سيرة الأمير ذت الهمة، سيرة الظاهر بيبرس، سيرة حمزة البهلوان، سيرة الملك سيف بن ذي يزن، سيرة الزير سالم، سيرة فيروز شاه، كتاب ألف ليلة وليلة كتاب شمس المعارف الكبري، كتاب تفسير الأحلام لابن سيرين، وهذه الكتب تختلف المعارف الكتب التي يدخرها أبي في دولاب غائص في الحائط في الحجرة الداخلية أذكر منها الشوقيات ودواوين المتنبي والمعري وابن الفارض، والأمالي لأبي علي القالي، والبخلاء والحيوان للجاحظ، وصحيح البخاري وصحيح مسلم وتفسير الجلالين وبعض كتب في السياسة وفي التاريخ لعبدالرحمن الرافعي، وعبقريات العقاد، وكانت مكتبة متواضعة جد أمام مكتبة ابن عمي الأزهري الشيخ علي محمد عكاشة الحاصل علي شهادة العالمية من الأزهر الشريف، كانت مكتبته تشغل حجرة بأكملها ملأي بالدواليب ذت الأبواب الزجاجية. أما كتب الشباك هذه فإنها متاع لرواد مندرتنا من أصدقاء أبي ومن أبناء عمومتي وأصدقائهم، وأصهارنا متي اجتمعوا في المندرة عصر كل يوم يتولي أحدهم القراءة بصوت عال والباقي ينصتون في شغف عظيم رغم أنهم استمعوا إلي نفس الكلام عشرات المرات فلابد إذا أن سحر جاذبا فيما يسمعن يبث فيهم الحيوية والبهجة والحماسة. ولقد أدركت سر هذا السحر فيما شرعت أقرأ عليهم بدلا من الشيخ بدوي عسر الذي كثيرا مايتغيب في مشاوير أكل العيش. إنها نداهة الفن المثبوث في الأخيلة الشعبية الخصيبة، النابعة من وجدان عريق في الحياة وتجارب الكد والعمل والكفاح الإنثاني. طلعت علي النداهة من كتاب ألف ليلة وليلة، تماما مثل ذلك العفريت الذي هب من القمقم كعاصفة من الدخان مشخصة في مارد يقهقة واضعا نفسه في خدمة من دعك بإبهامه فص الخاتم: شبك لبيك عبدك بين يديك وإنه لقادر علي تحقيق المطالب في الحال مهما كانت مستحيلة. هكذا كانت ليالي ألف ليلة وليلة، بالنسبة لي في ذلك الوقت المبكر من العمر، أصبحت في نظري كهذا الخاتم الذي إن دعكت فصه بإبهامي انبثقت في الحال عشرات من المردة يحققون لخيالي ماكان يهفو إليه. لعلني وأنا أبلل إبهامي بلمسة من لساني حين أرفع الصفحة كنت أفعل ذلك مفعما بشعور من يدعك فص خاتم سليمان المسحور. ففي كل صفحة عالم من البهجة والإثارة، مدن مسحورة وأخري واقعية، ناس لاحصر لتنوعهم وتفردهم، تجار وسلاطين وعبيد وجوار وقصور وأكواخ وفضاءات شاسعة تدور بها معارك طاحنة، وبحارة ومراكب وسندباد العجيب، موانيء ومرافيء وجزر وغابات، وحيوانات كالإناس، وأناس كالضواري، فيض من المعلومات والمعارف والتجارب، دفق من المشاعر المتجددة، حكم وأمثال كاللأليء في أصدف من الحكايا الشائعة الجاذبة المعلمة لك فيما هي تسليك وتسامرك فما أنبله من غرض مزدوج كل الطواتم المخيفة سقطت هيبتها في هذا الحكايات، كل الستر تنزاح عن حقائق وأفاعيل مذهلة لصبي خضع لتربية متحفظة صارمة لاتتورع عن استخدام الكرباج والمقرعة والفلكة بل وللسع بالنار إن تلفظ الولد بلفظة نابية أو أهمل الصلاة أو تدخل فيما لايعنيه هاهي ذي ألف ليلة وليلة تزلزل بصدمات متوالية، لكنها صدمات أشب بالصدمة التي يحدثها صوت انفجار الصاروخ اثناء صعوده بالمركبة الفضائية، الصدمة التي تدفع المركبة الي أعلي لكي تحررها من جاذبية الأرض كانت صدمات ألف ليلة وليلة التي أطلعتني بسفور كامل علي كل ما يخفيه أهالينا عنا، قد فعلت بي مافعلته صدمة الصاروخ بالمركبة الفضائية، سرعان مافرغتني من مشاعر الخوف والإضطراب والشعور بالذنب، فما لبثت حتي انخرطت في حكاياتها مفتونا بكل مافيها من فن. فبالفن كل شيء صار حقيقيا واضحا صار الحلال بينا والحرام بينا كذلك بالضرورة، وبالفن لاشيء يبدو غريبا ولامستنكرا لأن الليالي تعطيها الحياة كاملة بزخمها، الطيب والخبيث، الخير والشرير، العقل والجنون. والعجيب والعجينة ان هذه العجيبة الإنسانية الفذة التي اختلط فيها الواقع بالخيال والأساطير، وتكلمت فيها الطيور وفكرت الحيوانات ودمعت الأشجار وتزوجت الجنّيات من رجال أنجبت منهم فرسانا أدركوا أباءهم في لحظات زنقة حرجة من حيث لايحتسبون. هذه التركيبة الفنية الغريبة التي تبدو مخاصمة للعقل والمنطق وإلا فلن يقبل العقل أصلا هذه التركيبة الدرامية من أساسها. إنما العقل والمنطق مبثوثان في تلافيق التفاصيل التي تخلق للعمل الفني منطقه الخاص. إن هذه التركيبة الدرامية المطاطة، التي اتسع شكلها الفني لكل هذه الحكايات المراوغة احيانا الهاذلة أحيانا أخري، كانت أشبه بتميمة سحرية لحماية المعقول وصيانة "العقل" من الزلل. لقد بنيت علي مبدأ إنساني غاية في النبل والعظمة، إرادت ان تخاطب العقل الإنساني بكل معقولية، فلجأت إلي هذا الحشد من الحكايا التي تمثلت فيها الحياة برمتها، بجميع طبقاتها ومافيها من تناقضات ومفارقات ومآس وأفراح وظلم وعدالة، فيها كل البشر. بجميع ألوانهم وجنسياتهم، فيها كل البيئات الاجتماعية، فيها البر والبحر والجو والأفلاك والنجوم والأقمار، فيها حتي الكائنات غير المرئية كالمرة والجنيات، فيها أنفاس الكون كله بجميع المخلوقات. كل ذلك لكي تحرض العقل الإنساني علي التمعن فيما يري ويسمع، وأن يستخلص الدروس والعبر، ولكي ترسي في النهاية مبدأ إنسانيا عظيما يتبناه العقل ويعمل علي إرسائه في الواقع. ولكن قبل أن نتحدث في هذا المبدأ يتوجب علينا الإشارة إلي أنه للأسف الشديد يكاد يكون قد اندثر تحت ركام من الحكايات المدخولة التي كان يضيفها خيال الرواة المتكسبين بالحكايا في مجالس القوم فما أن ينتقل النص الشفاهي من بلد إلي بلد آخر ذي ذات طابع مختلف وتقاليد معينة حتي يستفز رواتها فيوشوه بأحداث وشخصيات من عندياتهم تعبر عن أوضاعهم وأحوالهم وتقاليدهم ومشاعرهم وصحيح أن هذه هي طبيعة الفولكلور في جميع أنحاء العالم، وأن هذه الاضافات تغني النص وتثري تفاصيله وتجعله يشبه جميع القوم في جميع البلاد، إلا أن ذلك قد ضخم النص، ودونت منه في عصر التدوين ثم في عصر ظهور المطبعة نسخ عديدة متباينة في الأحجام وفي الحكايا، وفي النفس الراوي، وفي اللغة بالضرورة، هذا التضخم جنح بالليالي إلي طلب التسلية الفارغة من المحتوي الفكري، وتغلب المثيرات التي تعجب الجمهور المتلقي، أقصد شريحة بعينها من الجمهور هي تلك التي أساءت فهم الليالي وسوأت سمعتها طبقا لما ورد في الليالي من فحش في الأفعال والأقوال، هو علي وجه التحديد ذلك الفحش الذي دسه فيها الرواة الهواة قبل عصر التدوين وبعده، أولئك الذين لديهم الفحش في الأساس ويتخذون من التركيبة المطاطة لليالي ذريعة للتكسب به، واللعب بخيال العامة وبعواطفهم المقهورة ورغباتهم المكبوتة وحرمانهم العتيد، ولهذا بقيت الليالي كمصدر للتسلية والتفكه والتندر، فيما اندثر مغزاها الأصلي الأصيل الذي نوه عنه الراوي في مفتتح الليالي بحكاية أسطورية ولكنها مفحمة للعقل من فرط حكمتها وقوة منطقها ومتانة بنياتها، وماهذه الحكايا كلها إلا من أجل تأصيل هذا المغزي وتثبيته والإقناع بضرورته وأهميته في حياة البشر. "للحديث بقية" |
|
|
admin معلومات اضافية الجنس : العمل : الاقامة : العمر : 39 عدد المشاركات : 4284 تاريخ الانضمام : 14/05/2009 الدنيا ساعه فاجعلها طاعه | مغـزي الليالي 20/1/2014, 2:53 pm |
| مغـزي الليالي
في مفتتح الليالي يكمن المغزي، وبتعبير آخر فإن المشهد الافتتاحي لليالي هو بيت القصيد، وفي الخاتمة يتضح القصد النبيل من الليالي، فبعد ألف ليلة من الحكايات التي كانت في معظمها تنويعات علي ما جاء في المفتتح، أو أشبه بتقاسيم نغمية يقودها الخيال المتوهج إلي شطحات من نفس المقام، ثم ما تلبث حتي تعود إلي اللحن الأصلي، اللحن الأساس. بعدئذ يكون الملك شهريار قد استرد إنسانيته ورشده ورقت مشاعره وصار إنسانا متحضرا يعرف قيمة المرأة علي حقيقتها، ويتأكد له ـ عبر كل هذه الحكايات التي حوت صنوفا من الحياة والبشر ـ أن المرأة كائن محترم ينبغي تقديره إلي حد التبجيل، ولكن المجتمعات الذكورية البدائية حينما التحقت بالمدنية لم تتنازل عن هذا المكسب الرجولي الكبير الذي يضع الرجل في المقام الأعلي ويضع المرأة في غير مقام، مجرد جارية وأداة للمتعة، لدرجة أن الخيال الشعبي إلي اليوم يرمز في المنامات التي يراها الرجال إلي المرأة بالحذاء، فمن يري في المنام ـ مثلا مثلا ـ أنه اشتري حذاء جديدا فمعني تفسيره أنه سيتزوج أو سيعشق امرأة جديدة! فالمجتمع الذكوري ـ إذن ـ هو الذي جني علي المرأة بافتراضه الدونية فيها ومن ثم فإنها ـ في المأثور الشعبي الدارج ـ الضلع الأعوج من آدم. وفرض عليها من القيود الرقابية والاستبدادية ما يفوق في بشاعته سجون التعذيب، أقرب مثل علي ذلك ما سمي بحزام العفة في العصور الوسطي، حيث يقوم الزوج بإلباس زوجه حزاما حديديا لا يسمح إلا بفتحة ضيقة لقضاء الحاجة، يغلقه بقفل ويحتفظ بمفتاحه في جيبه إذا ما اضطر إلي السفر أو المبيت خارج بيته ليلة أو أكثر، وكثيرا ما كان الحزام يظل مقفولا علي طول الزمان لا يفكه الزوج إلا حين يطلبها للنوم. فمثل هذا التاريخ المؤلم في التعامل مع المرأة علي هذا النحو لابد أن يخلق منها هذه الصور التي عرضتها الليالي للمرأة من جميع الطبقات في حال من الوضاعة والدناءة والخبث الشرير والانحلال والخيانة والمتاجرة بالجسد. إلخ إلخ. ولكن ماذا في المشهد الافتتاحي لليالي؟. تعالوا نعيد قراءته انه يتلخص فيما يلي: الملك شهريار المحبوب من شعبه لما يتميز به من حكم عادل، اشتاق لرؤية أخيه الملك شاه زمان ملك سمرقند والعجم. وبما أنه الأكبر فقد بعث بوزيره إليه ليدعوه ويعود معه. فلبي الملك شاه زمان دعوة أخيه شهريار وتحرك موكبه علي طريق السفر، إلا إنه في مدخل الليل تذكر خرزة زرقاء يتعين عليه أن يحملها في الطريق إلي أخيه فقفل عائدا ليأخذها، فما أن دخل غرفة نومه مباغتة حتي فوجئ بزوجه مع عبد أسود من عبيد القصر، فطار صوابه، لم يتمالك شعوره، بالسيف ضرب عنقيهما، وعاد إلي القافلة مستأنفا الرحيل وقد امتلأ صدره بالغم والكرب، لا تري عيناه إلا الظلام حتي في وضح النهار. إلي أن وصل إلي قصر أخيه شهريار. بعد الترحيب، وبعد زوال وعثاء السفر بأيام، لاحظ شهريار أن أخاه شاه زمان لا يزال كظيم الوجه ضيق الصدر ذاهب اللب. حاول شهريار أن يستميله إلي شيء من المرح فلم يفلح. استدرجه في الكلام بأساليب متعددة لعله يبوح بما عساه يكون وراء هذا الغم والنكد، وأبدا لا يبوح، ولقد فكر شهريا، في أن يصطحب أخاه شاه زمان إلي رحلة صيد لعلها ترفه عنه، وتخرجه من هذه الحالة الكئيبة. غير أن شاه زمان رفض الخروج إلي أي مكان، إذ إن حالته النفسية والمزاجية غير ملائمة لأي شيء سوي الخلوة إلي النفس ما أمكن. وهكذا تركه أخوه شهريار في حاله، وخرج هو للصيد في رحلة قد تستغرق أياما. كان شاه زمان ينزل في ضيافة أخيه في قصر منفصل لكنه ملتحق بنفس الحديقة وكل شيء فيها مكشوف للمقيم فيه وهكذا تمكن شاه زمان من رؤية زوج أخيه تخرج إلي البستان وسط عشرين جارية وعشرين عبدا. ذهل شاه زمان مما رأي من انحلال في قصر أخيه شهريار. هانت عليه بلواه، فاسترد حيويته بعض الشيء كأن وقوع أخيه في نفس المحنة قد أزاح عنه نصف العبء النفسي وهدأ روعه مما فعلت يداه. غير أنه وقع في حيرة، ووقع ضميره في أزمة: هل يخبر أخاه عما رآه بعينيه؟ وهل يشفق عليه من هول الصدمة التي جربها هو منذ قليل؟ هل يخطيء ان امتنع عن القول؟ هل سيندم إذا لم يقل؟. علي كل حال لقد لزم الصمت المطبق لأنه لم يتمكن من الرسو علي شاطئ محدد إلا أن تغيرا ما في حالته هو الذي كشفه، فقد لاحظ أخوه شهريار أن الحيوية عادت إلي وجهه وأن الكظمة قد انفكت كثيرا فألح عليه في الرجاء أن يشرح له السر في هذا الذي حدث بين عشية وضحاها: لماذا كان كظيما شاحب الوجه؟ وما سبب انفكاك الكظمة وعودة الدماء إلي وجهه؟ فلما اشتد ضغطه علي شاه زمان وافق علي أن يجيبه علي السؤال الأول: لماذا كان كظيما؟ أما عودة الحيوية إلي وجهه فليعفه من ذكر السبب فكأنه أشعل فضول شهريار الذي أصر علي معرفة كافة الخبر باعتباره الأخ الأكبر، وقد حدث، اعترف له شاه زمان بما حدث له قبل المجئ، ثم حدثه عما رآه بعينيه في قصر أخيه من نفس المهزلة، قال شهريار: أريد أن أري بعيني، فرسم له شاه زمان الخطة فنفذها: ادعي أنه مسافر إلي بلاد بعيدة جدا، ثم جهز موكبا يليق بسفر طويل، فما أن صاروا علي قارعة الطريق حتي تنكر شهريار وعاد إلي القصر الذي يستضيف أخاه فيه. جلس في دروة شباك يكشف البستان كله، فرأي ما رآه أخوه يتكرر بحذافيره، ولوقت طويل دون ملل أو إرهاق. عندئذ اغتم شهريار غما عظيما، فقال لأخيه شاه زمان: "قم بنا نسافر إلي حال سبيلنا وليس لنا حاجة بالملك حتي ننظر هل حدث لأحد مثلنا أو لا، فيكون موتنا خير من حياتنا." فاستجاب له في الحال غادرا القصر من باب سري طال بهما السفر والتجوال كيفما اتفق. إلي أن وصلا إلي شجرة في وسط مرج عندها عين ماء مجاورة للبحر المالح. جلسا يستريحان ويشربان فما لبثا إلا ساعة وقد هاج البحر وطلع منه عمود أسود صاعد إلي السماء وهو قاصد تلك المرجة. من خوفهما تسلقا الشجرة يلوذان بفروعها الوارفة وإذا بجني طويل القامة عريض الهامة واسع الصدر علي رأسه صندوق طلع إلي البر، أتي إلي الشجرة، جلس تحتها، فتح الصندوق، أخرج منه علبة ثم فتحها، فخرجت منها صبية غراء بهية كأنها الشمس المضيئة. قال الجني لها: "يا سيدة الحرائر قد اختطفتك ليلة عرسك أريد أن أنام قليلا". ثم وضع رأسه علي ركبتيها ونام. ونظرت إلي أعلي الشجرة فرأت الملكين شهريار وشاه زمان، فرفعت رأس الجني ووضعتها علي الأرض، ووقفت تحت الشجرة وقالت لهما بالإشارة: "انزلا ولا تخافا من هذا العفريت"، فتوسلا إليها أن تعفو عنهما إن كانت تقصد بهما شرا فقالت لهما "انزلا وإلا نبهت عليكما العفريت فيفتك بكما" فنزلا في الحال فراودتهما عن نفسها فارتعدت فرائصهما، فأمرتهما بأن يفعلا ما تريده منهما وإلا نبهت العفريت فلم يجدا مفرا من الاستجابة لها. ثم إنها أخرجت من جيبها كيسا وأخرجت منه عقدا فيه خمسمائة وسبعون خاتما. قالت لهما إن أصحاب هذه الخواتم فعلوا معها نفس الفعل الذي أمرتهم به علي غفلة من قرن هذا العفريت، أخذت خاتميهما وضمتهما إلي عقدها قائلة إن هذا العفريت قد اختطفها ليلة عرسها، ووضعها في علبة، ووضع العلبة داخل الصندوق وعلي الصندوق سبعة أقفال ونزل بها في قاع البحر العجاج المتلاطم الأمواج: "وهو يعرف أن المرأة منا إذا أرادت أمرا لم يغلبها شيء". هذا الموقف المفحم، العميق الدلالة، كان يجب أن يكون درسا لشهريار وأخيه شاه زمان. إن المشهد كله يعتبر تلخيصا فنيا عبقريا للمحنة التي يعيشها كل منهما بسبب المرأة. هو كذلك بمثابة رد مفحم علي غفلتهما عن هذه الحقيقة البديهية التي لخصتها فتاة الجني بقولها ان الجني ـ الذي يجسد موقفهما من المرأة ـ يعرف أن المرأة منا إذا أرادت أمرا لم يغلبها شيء. لقد أراد المؤلف المجهول لليالي أن يدين موقف الملكين بل موقف جميع الرجال من المرأة فرمز إليه بموقف الجني خاطف العروس وساجنها، ليسرب إلينا حقيقة دامغة يجب أن نضعها في اعتبارنا هي أننا مخطئون إذا تصورنا أن بإمكاننا منع المرأة بالقوة عن الزلل، أو التعامل معها باعتبارها دمية أو أداة للمتعة وتربية العيال، أو قمع شهواتها ورغباتها بأحزمة العفة أو حتي بالسجن في قمقم، فحتي العفريت نفسه فشل في ذلك فشلا ذريعا منكرا. معني هذا المشهد ـ بداهة ـ أن الليالي تدعو إلي إعادة النظر في علاقتنا نحن الرجال بل نحن المجتمعات الراغبة في التقدم، بالمرأة، أن نعطيها حقها الذي أهلتها الطبيعة له، أن تحل التربية والتعليم والثقافة محل القمع والتسلط والعنف والقسوة والتخويف، أن تكون العفة سلوكا تربويا عن قناعة. فالوازع الأخلاقي أقوي من أي رادع إرهابي. الدليل علي ذلك أن الليالي، وقد قدمت صنوفا لا حصر لها من النساء الساقطات الفاجرات الضائعات المقهورات المدللات المقموعات المقتولات فداء للعشق والموءودات درءا لخطر العشق، في وسط هذه المعمعة النسائية قدمت النموذج الأمثل للمرأة الراقية التي تستحق التبجيل: إنها شهر زاد التي قرأت كتب التاريخ والأدب والأخبار والعلوم في ظل تربية متميزة خاصة، فحق لها أن تكون قادرة علي احتواء غضبة الملك الذي تزوج كل فتيات المملكة ليقتلهن في الصباح، وأن تحضره وتنقل إليه الحكمة والموعظة والاستقامة النفسية، وتنفذ إلي قلبه فيحبها، ليعقد عليها قرانه في الليلة الأولي بعد الألف. لقد تكرر المشهد الافتتاحي ولكن في صورة عكسية واقعية صبية الجني هي نفسها شهر زاد، كلاهما نفس المرأة الداهية واسعة الحيلة، غير أن شهر زاد قد تعلمت وتثقفت، فصارت طاقة ايجابية في اصلاح حال الملك الذي سينعكس لا شك علي حياة الشعب. ثم إن شهريار هو المعادل الواقعي للجني المختطف السجان، أي أن الليالي عمدت إلي تبشيع موقف شهريار وأمثاله تبشيعا للموقف الذكوري المتضخم، لينقلب حال شهريار من النقيض إلي النقيض الايجابي المأمول، لمجرد أن امرأة ـ اسمها شهر زاد ـ قد احتوته بعاطفة قوية فأطلعته علي أحوال العباد في البلاد، وعبر التاريخ وثمرات الفكر وقطوف الأدب، فشذبته وهدبته. وتزوجته!. وبهذا تكون ليالي ألف ليلة وليلة دعوة لاحترام، وتبجيل المرأة، وصيانتها بالعلم والثقافة لتبقي أبد الدهر مصدرا للإشراق ونبعا للحنان والعاطفة: أما وأختا وزوجا. وحبيبة. |
|
|
admin معلومات اضافية الجنس : العمل : الاقامة : العمر : 39 عدد المشاركات : 4284 تاريخ الانضمام : 14/05/2009 الدنيا ساعه فاجعلها طاعه | مدد يا أبا العينين مدد 20/1/2014, 2:54 pm |
| مدد يا أبا العينين مدد
للأسطورة الشعبية سلطان علي جميع البشرية من قديم الأزل وسوف يبقي مطاولا للأبد، ولقد تكون أمة من الأمم أنجزت المعجزات في التقدم العلمي والفكر العادي لا تؤمن إلا بما قام عليه دليل مادي عملي معملي، إلا أن علماءها ومفكريها يعتبرون الأسطورة لغة فنية عالية المقام تعكس فكرا بشريا يضرب بجذوره في عمق التجربة الإنسانية ومكابداتها البكر في محاولة التفاهم مع الكون لفهم نواميسه وفض غوامضه والتحاور مع كائنات غير بشرية بعضها خفي وبعضها ظاهر؛ كما أنها كانت استشرافا للمستقبل بل إن خيالها الجامح الحالم كان بمثابة نبوءة تحققت بفضل الأبحاث العلمية وتقدم التكنولوجيا مثال ذلك بساط الريح الذي امتلأت به حواديت ألف ليلة وليلة. لقد أصبح متحققا في الطائرات، بل اتسع أفق التقدم وتجاوزت معجزاته خيال الأساطير فأصبحنا ننتقل بصواريخ إلي الكواكب الأخري، ونخطط لاحتلالها، كذلك الامر بالنسبة لخاتم سليمان الذي نضغط عليه او نلمسه فينطلق فيلق من الجن لتحقيق ما نطلبه حتي ولو كان في أقاصي الأرض يأتينا في لمح بالبصر. ها نحن اليوم نلمس زرا في جهاز فيأتينا العالم كله لنختار من أعاجيبه ما يروق لنا. الأسطورة هي زبدة الحلم البشري مصاغا في عمل فني، في حدوتة أبطالها ناس وجن وحيوانات وحشرات وغابات وأنهار وبحار وسماوات لا نهائية. هي تاريخ التفتح والوعي والتطلع والبحث عن حقائق الأشياء وبواطن الظاهرات الراسخات. وهي كذلك لعب مع الكون بمحاكاته في الخرق والغموض ربما لاستئنائه وكشف دواخله. كما أن الاسطورة في ذاتها كشوف وفتوحات تاهت معها بعد ذلك كشوفات وفتوحات اقطاب الصوفية العظام. ونحن البشر علي جميع أنحاء الأرض نصدق الأسطورة الشعبية مع علمنا اليقيني بأنها محض أسطورة لم تحدث بل هي غير قابلة للحدوث في الواقع علي الإطلاق. ذلك لأنها قد بنيت علي منطق فني خاص بها، يجعل منها "منطوقا" فكريا مفعما إن منطقها أقوي من الواقع الذي نحياه بالفعل مع أنه كثيرا ما يبدو بغير منطق علي الإطلاق. وإذن فنحن نصدقها بامتنان عظيم، إكراما لخاطر المعني الكبير الذي تحتويه. قد نستهجنها لأول وهلة نتيجة لاستعلائنا المسبق علي كل ما يدخل في باب الخرافات، وكل ما لم يقم عليه دليل مادي حاسم، غير أننا ما نلبث حتي نتوقف صاغرين لمراجعة أنفسنا علي ضوء ما في الأسطورة من ومضات خارقة تشي بأنها صادرة عن معدن ثمين أو حجر كريم. إن ضوء العرق والمكابدة في التجربة الإنسانية. سرعان ما تشم فيه رائحة عرقك. جبلته أن يحتل وجدان المتلقي بمجرد استماعه إليه أو قراءته له. إلا أنه المحتل الوحيد الذي يستحق أن نسميه بالاستعمار، لأنه يستعمر وجدانك بالفعل، يقيم فيه الجسور ويفتح السكك علي العمران الإنساني. تلك هي جبلة العمل الفني العظيم، وكل عمل فني عظيم صار عظيما لأن مبدعه ـ بوعي أو بالفطرة ـ يحاكي طموح الأسطورة التي أمدت طفولته بالعمران وحرضت ملكاته علي التفتح. وفي الخيال الشعبي المصري علي وجه التحديد تختزل الأسطورة في أمثولة تفتن جميع العقول في جميع مستوياتها الثقافية والعلمية والفكرية. تصبح مصباحا يضيء أبدا بغير زيت إلا في إمكاناته الذاتية. تصير كيانا فنيا مشعا بالمعطيات الانسانية فيداوله الناس في حميمية المأثور الدارج. تستوقفني وحدة من هذه الأماثيل الأسطورية كانت شائعة في نواحينا نحن أبناء محافظة كفرالشيخ الفخورين بأبي العينين قطبنا العارف بالله سيدي ابراهيم الدسوقي، صحيح أنه من أصل مغربي شأن جميع الأولياء أصحاب الأضرحة في ربوع مصر، ولقب سيدي جزء من مغربيته، إلا أن شمس مصر قد مصرته، وإيمان مصر الزراعي قد شففه، وشعب مصر أحاطه بالدفء وتوجه بطلا من أبطال التحرير في إحدي الحروب الصليبية، وكانت بطولاته ـ مثل قرينه وبلدياته سيدي أحمد البدوي ـ نوعا من التجليات والرؤي والكشوفات يستلهم منها المريدون أعمالا فدائية ومفاوضات لفك الأسري وما إلي ذلك، حتي بات قطبا من الأقطاب، بات أسطورة أنشأها الوجدان الشعبي ليحاكي بها بطولاته. وليس ثمة من شك في أن محافظة كفر الشيخ قد شرفت بوجوده في مدينة دسوق التي شرفت هي الأخري بأن حمل الدسوقي اسمها. فبفضله قام العمران في المدينة واكتسبت به عراقة وتميزا، وبفضل الاحتفال السنوي بموعده نشطت تجارات، وتوثقت علاقات ونبغت فنون الموسيقي وانتهاء بكافة الألعاب الشعبية ناهيك عن ان مسجده كان ولا يزال مصدرا للعلم والتنوير ونشر التقوي نحن واجداد أجدادنا كنا نذاكر دروسنا في أروقته وبين بواكيه طوال اعوامنا الدراسية وجميعا استمعنا الي هذه الامثولة عشرات المرات من مريديه علي هذا النحو : يحكي ان درويشا من احدي القري المتاخمة لدسوق كان خادما خصوصيا لأبي العينين ابراهيم الدسوقي. لا يغادره برهة واحدة حتي اذا نام الشيخ ينام هو تحت قدميه ليلبي نداءه في أية لحظة، مدة خدمته للشيخ تطول الي سنوات مضت ليس يعرف عددها. وقد حدث ان اشتاقت اليه أمه، فسافرت الي دسوق سيرا علي قدميها. اقتحمت خلوة الشيخ تسأل عن ابنها فإذا بها تراه متربعا امام باب الخلوة يتناول غداءه النفسي: رغيف وباذنجانه منقوعة في المش وأعواد من الفجل. ونظرت في الخلوة، فرأت الشيخ قابضا بيديه علي دجاجة مشوية يلتهم نسائرها في لذة. فصعب عليها ابنها. قلبها الريفي النقي لم يقبل هذه المفارقة القاسية لكنها دخلت لتسلم علي الشيخ لم تستطع امساك لسانها، قالت له: ـ "بقي يا مولانا الولد يا قلب امه بيخدمك بعينيه ليل نهار وسايبه ياكل رغيف مشضض بمش وانت من غير مؤاخذه بتاكل فرخة مشوية ما تقولوش خد نسيرة من نفسك؟! استمع اليها الشيخ مبتسما وكان قد مصمص عظام الدجاجة فلم يبق منها سوي كومة من العظم. فما كان منه إلا أن شوح بيده في العظم هاتفا: هش. فدبت الحياة في كومة العظم، وانتفضت الدجاجة حية وقامت تجري الي الخلاء عندئذ نظر الشيخ إلي المرأة قائلا: "لما ابنك يقدر يعمل دي. يبقي ياكلها!". عند هذا الرد المفحم لا ينبغي أن تشغلنا مسألة الواقعية. بل لم يعد يعنينا اذا كان هذا الذي حدث قد حدث بالفعل من الشيخ أم أنها محض أسطورة؟ ذلك ان الامثولة صارت مكتفية بذاتها في صياغة معني كبير يجب عليك احترامه بكل التقدير. ثم إننا بقليل من التأمل في الحدوتة قياسا علي تعقيب الشيخ علي نهايتها بقوله: "لما ابنك يقدر يعمل دي يبقي ياكلها"؛ نجد ان كائنا من كان لا يمكن ان يضعك في موقف العز مالم تكن أنت نفسك مؤهلا لذلك من داخلك ساعيا إليه بالجهاد المتواصل. ونجد أن الإنسان يصنع مجده بإمكاناته الذاتية وباجتهاده ودأبه علي الجد والمثابرة، فالباني طالع والفاحت نازل. ونجد أن القيمة الحقيقية للمأكل والملبس والمشرب ولكل متع الحياة مرهونة بأن يكون ثمنها من كدك وعرقك، ومالك الحلال، أما ما يحصل عليه الانسان علي سبيل الصدقة أو الفضل فليس له في نفس الكريم الأصيل لذة ولا قيمة. هذا في إطار الدلالات المتعددة للأمثولة التي لم تعد أسطورة بل إنها معادلة ذات منطق متسق تمام الاتساق. تصير كذلك بالفعل اذا حللناها علي أرضية الواقع اليومي البسيط. عندئذ نجد أن عملية النفخ في العظام حتي تصير دجاجة حية تسعي إنما هي معادل أسطوري لمعني واقعي ملموس، هو معني القدرة المادية، فأن تقوم بإحياء الدجاجة ليس بالضرورة إحياءها من العدم، بل القدرة علي إيجادها وقتما تشاء، تشتريها من المحلات تملأ ثلاجتك بها، أو تربيها. المهم أن يكون ذلك من خيرك أنت لا من خير الغير حتي وإن كان الغير سيدك الذي تتفاني في خدمته. |
|
|
admin معلومات اضافية الجنس : العمل : الاقامة : العمر : 39 عدد المشاركات : 4284 تاريخ الانضمام : 14/05/2009 الدنيا ساعه فاجعلها طاعه | حوار الحكَّايا 20/1/2014, 2:55 pm |
| حوار الحكَّايا
قد لا ينتبه الكثيرون منا إلي أن التفكير بالاسطورة والحدوتة والحكاية مبدأ أصيل في تكوين الشخصية المصرية من قديم الأزل، ففي انتظار الحصاد يروق للفلاحين خيالهم الأخضراني الخصيب، فيرسلون الأغنيات والمواويل والحكايا والألعاب الجماعية التمثيلية، يحولون فيها الأمنيات والأحلام إلي واقع قد تحقق بالفعل. فمثلما كان أجدادهم القدامي يتوددون إلي نهر النيل يقيمون معه علاقة نسب ومصاهرة لكي يصيرو هم عائلة واحدة مترابطة يزوجونه كل عام عروسا من فلذات أكبادهم لعله يبقي راضيا عنهم بدوام الفيضان. فكذلك يفعلون: يغنون أغنيات تتغزل في الطنبور في الشادوف في الساقية، وفي الماء فتنتشي المياه بالفعل تزغرد في القنوات مشتاقة إلي الأطراف البعيدة من أحضان الفدادين. يغنون للزرع حتي ينمو، للأغصان حتي تتفتح، للعريس حتي يثقل جيبه بالمهر المحترم، وللعروس بنت الأصول العياشة حتي يسترها الله ويرزقها بزينة الحياة الدنيا، وللمطاهر، للمهد، للسبوع، للخطوبة، للحنة، للدخلة، للصباحية، للميت حتي يبقي حسه علي وش الدنيا، للغائب حتي يعود، الرقي والتعاويذ أنشودات وطقاطيق غنائية لطرد السموم من الجسد الملدوغ، ولخرق عين الحسود، إبعاد الشيطان عن الدار الآمنة. الحدوتة أو الحكاية قاسم مشترك في كل الاشكال الفنية القولية الفولكلورية. الحدوتة هي لغة المقال في الأغنية والموال حتي في قصائد كبار شعرائنا منذ عرفنا الشعر إلي اليوم، وفي الرقي والتعاويذ والالغاز توجد علي نحو أو آخر، ناهيك عن الحواديت والحكايات التي تتدفق بغزارة في حياتنا اليومية. نعم لقد بلغ ولع الشخصية المصرية بالحكاية والحدوتة إلي حد جعل منها لغة تخاطب في حوارنا اليومي في كل مكان. اننا نستخدم الحدوتة أو الحكاية استخداما شعريا، علي سبيل الاستعارة والمجاز. فما نتحرج من قوله مباشرة لأي سبب من الأسباب نخترع له حكاية تنوب عنا في غمز ولمز وإيحاء علي طريقة الكلام لك ياجار ويتوافر بيننا من يحقق براعة فائقة في استقطاب الحكايات ذات الدلالات الاجتماعية والاخلاقية، وفي ارسالها في الوقت الملائم بحيث تكون منطبقة علي نفسه تمام الانطباق ومن ثم تحقق دلالتها المقصودة. ولقد عاش أرهاط لا حصر لهم من الوعاظ أنصاف الموهوبين، أنصاف المثقفين علي خصيصة حب الشعب المصري للحكايا وللحكي في حد ذاته، إذ تتحفز كل ما ملكاته للانتباه بمجرد استماعه لعبارة: يحكي أن، أو كان ياما كان أو قال الراوي ياسادة ياكرام أو ما أصبحت النكتة المصرية تستخدمه في الاستهلاك بالقول: كان فيه واحد. كذا كذا. كل أولئك الوعاظ كانت كل بضاعتهم ـ ولا تزال إلي اليوم ـ ركام لاينضب من حكايات وطرائف وُملح عنيت بجمعها بعض كتب تراثية من أمهات تراثية أكبر وأشمل وأعمق حكايات وطرف عن الصحابة عن الحكماء والظرفاء، والبخلاء والكرماء، وأولي العزم. حكايات ذات مغازمضمرة في تلافيفها بشكل مكشوف أحيانا، إذ انها في معظمها موضوعة ومنتحلة من خيال الرواة والدعاة المحترفين. لعبت هاتيك الحكايا والطرائف دورا كبيرا في تشكيل وجدان عامة المصريين خاصتهم علي السواء؛ بل إن بعض الحكايا تكتسب قدسية عند الكثيرين، خاصة تلك المتعلقة بآل بيت النبي عليه الصلاة والسلام. علي أن الوجدان المصري الزراعي حقل مزروع بالحكايا من أساسه؛ حكايا شعبية تلقائية متماسكة لصدقها، لافتة ببراءتها وبكارتها الإنسانية، أحداثها وتفاصيلها وكائناتها منسوجة من مواعيد سرمدية بينهم وبين الحصاد المفعم بالأمنيات في تحقيق الآمال المؤجلة والآجلة من علاقات الفلاحين بالمياه بالرياح بالأمطار بالشمس بالقمر، علاقة ود تتسق فيها حركة المواسم ومناخات الفصول وقيام الفاكهة. وأرض مصر الكريمة حين طرحت مع النبات مدنا وعواصم فخمة ذات عمد وقباب ومعابد ومدافن وحدائق؛ أورثت مدائنها طبيعتها الحكائية مزاجها الرائق الميال إلي الأنس والمحبة والتسامح قبل أن يصبح للعواصم أخلاقياتها المنحرفة المتلبكة بفعل الغزاة والفاتحين من أحط أمم الأرض، إلا أن المدينة المصرية بقيت طوال عمرها ابنة للقرية، وللقرية حضورها القوي في ذاكرة المدينة وفي أسواقها وطرقاتها ومؤسساتها وأحيائها السكنية، وفي أخيلة أبنائها. ونحن المصريين جميعا ـ في القرية أو المدينة ـ نتخاطب في حياتنا بالحكاية والحدوتة، في أسواق البيع والشراء في مؤسسات العمل في بيوتنا ومع بعضنا البعض. الحكاية أداة حوارية، ولهذا تشيع في واقعنا اليومي وفي أفلامنا عبارات دالة من قبيل: "إنت حتحكي لي قصة حياتك؟!" يقولها من يضيق بالتطويل والاستطراد في حديث الطرف الاخر. وتتكرر في حوارات التمثيليات والأفلام عبارة: "هات من الآخر". مما يشي بأننا مغرمون ليس بالحكي فحسب بل بالتطويل والاستفاضة والفضفضة. وبالحكي للآخر نغسل صدورنا من أدران الغضب، ونلتمس الدفء عند الآخر بأن نحكي له بعض همومنا. وحينما يأتينا الحكي ننصت بشغف فطري. الواحد منا يقول للآخر بنبرة مثيرة:"علمت بما حصل؟" فيرد الآخر علي الفور في شغف واشتياق: "هيه!" بإيقاع صوتي منغوم ممدود يعني: هات ما عندك. والمرأة النمامة تهتف في أذن صديقتها مولولة بصوت متهدج: "اسكتي اسكوتي ي ي س!" تلك هي المقدمة الموسيقية أو اللحن المميز تقصد به تنبيه صاحبتها إلي ما سوف تحكيه لها وهو لاشك خطير، والذين قدر لهم الاقتراب من عظماء المتحدثين الحكائين أكله الأدمغة من أمثال زكريا الحجاوي ومحمود السعدني وعباس الاسواني وحسن إمام عمر يري روح مصر الانيسة المؤنسة المبهجة مجسدة في شخصياتهم كان الواحد منهم إذا حضر قعدة أو سهرة فلن يستطيع مخلوق منهم أن يتحدث في حضرته، ليس قهرا أو عجزا بل حرص علي أن يستمع ويستمتع بحكي متدفق ذي حلاوة وطلاوة، وأبدا أبدا لا يكون التدفق فارغا أو سطحيا أو مجرد طرف خفيفة الظل، إنما كان حشودا من حكايات حافلة بالمواقف المثيرة بما لها من دلالات عميقة في تجاريب الحياة بالنسبة لمحمود السعدني وعباس الاسواني تراك مضطرا إلي ترقيم الحكايات التي تتداخل في بعضها مع التدفق التلقائي، لكي تفهم أن هذه العبارة أو تلك تخص الحكاية رقم كذا، أو هي تكملة للحكاية رقم كذا. وهكذا انها روح مصر الشعبية المرحة الذكية الغمازة اللمازة النقادة بلذع كالشطة والفلفل اللاسعة كأطراف الكرابيج. صديقك الحميم، بل ربما أخوك إذا أحوجته الظروف الصعبة إلي أن يقترض منك مبلغا من المال وأنت أقرب الناس إليه" وهو حِّيُي خجول لم يعتد الاقتراض؛ سوف يتردد كثيرا وتبدو عليه الحيرة بصورة لافتة تفرض عليك أن تسأله في اهتمام: ما لك يافلان؟ ولسوف يتردد مرة أخري، وأبدا لن يقول لك بشكل مباشر شوف لي معاك قرشين سلف! أو حتي يسألك سؤالا تمهيديا مباشرا معاك فلوس؟ لكن من المؤكد أنه سيحكي لك حكاية، مؤلفة كانت أو حقيقية لكنها متصلة بصلب الواقع، سيقول لك إنه ـ مثلا مثلا ـ قد ورطته زوجة فلانة ـ منها لله بقي ـ في إصلاح صنابير الحمام فإذا به يتكسعم في تغيير السيراميك بالمرة، في حين أنه لم يكن حاسبا حساب ذلك، ولهذا فالدنيا مغبرة في عينيه ولا يدري ماذا يفعل للخلاص من هذه الورطة، وأنت في الحال تكون ملكة الحكي قد تيقظت في وجدانك وتحفزت ووضعتك في موقف التجاهل الأريب؛ تقول له: اشرب الشاي؛ ثم تغدق عليه بسجائرك ومع سحب الانفاس تختمر حكاية الرد في رأسك تقول له ـ وكأنك لم تسمع بمشكلته ـ كلاما أقرب إلي تقرير واقع أكثر منه شكوي: يا أخي الواحد مش قادر يلقط نفسه! تصور أني لسه دافع فاتورة الكهرباء ميتين جنيه! المحصل مشي من هنا والبنت صرخت! داست علي كبايه مكسوة شرمت رجلها طلعنا نجري بيها ع المستشفي وخد عندك بقيت أقول ياريتني أجلت دفع الكهرباء. إلخ إلخ. حكايته ربما كانت فقيرة وعادية. أما حكايتك فلابد أن تكون بالضرورة أطول، وميلودرامية، وأكثر ماساوية كأنك تعاقبه علي مجرد التفكير في الاقتراض منك، وانه ليستحق الجلد كما فعلت. يستاهل!. |
|
|
admin معلومات اضافية الجنس : العمل : الاقامة : العمر : 39 عدد المشاركات : 4284 تاريخ الانضمام : 14/05/2009 الدنيا ساعه فاجعلها طاعه | فتــح الكتـــاب 20/1/2014, 2:56 pm |
| فتــح الكتـــاب
قول المأثور الشعبي المصري الدارج : "بيت المهمل يخرب قبل بيت الظالم!". هذا بالطبع مأثور واضح المعني والدلالة، يجري علي ألسنة المصريين منذ أجيال موغلة في القدم كحكمة مفحمة دامغة.. ولكنني أراني اليوم معنيا بها من زاوية أخري تتعلق بفلسفة الثقافة الشعبية نفسها. والفلسفة ـ بالمناسبة ـ ليس ينتجها الفلاسفة المطبوعون فحسب، بل إن هؤلاء أنفسهم قد يستلهمونها أحيانا كثيرة من منابع الحكمة في الثقافة الشعبية التي هي نتاج المكابدة والكفاح في الحياة العملية واحتكاك العقول بالعقول والمشاعر بالأفئدة. غير أننا لسنا بصدد دراسة مأثور "بيت المهمل يخرب قبل بيت الظالم"، إلا من زاوية كونه يحمل خصيصة تتميز بها الثقافة الشعبية بوجه عام. تلك هي خصيصة الالتفاف حول المعاني والحقائق والظواهر الدارجة لكي تستفيد منها في قول شيء أكثر أهمية؛ بل أحيانا تركبها لمصلحة معني جديد أعمق وأكثر إفادة للقوم، وإنما كان الضمير الجمعي الملهم في صياغة القول الجديد أو في حسن استقباله والترويج له غير مؤمن في أعماقه بصحة المقولة أو الحقيقة الشائعة أو الظاهرة التي التف حولها أو استخدمها لمصلحة قول جديد؛ إلا أن الضمير الجمعي هذا يسلم بصحتها باعتبارها مطية سوف يركبها لكي توصله إلي جوهر ثمين، إلي شيء واقعي ملموس ومفيد. فحقيقة الأمر أن العقلية الشعبية المصرية التي صاغت هذا المأثور المفعم الدامغ بالكلمة البالغة : "بيت المهمل يخرب قبل بيت الظالم"، تدرك في أعماقها الدقيقة أن بيت الظالم في الواقع ليس يخرب أبدا، وها هو ذا الواقع الهادي يرينا كل يوم ومنذ مئات القرون بيوت ظلمة لا حصر لهم في الدنيا كلها لا يصيبها الخراب مطلقا، بل هي في رغد من العيش من دم المظلومين حيث لا توجد ثروة شريفة تماما علي الإطلاق. ولكن الضمير الجمعي الشعبي المصري برغم يقينه بهذه الحقيقة الواقعية يرفضها ولا يريد الاعتراف بها، حتي وإن كانت واقعا دامغا. لقد وعي هذا الضمير المستنير بالفطرة أنه لا بد من التكريس لحقيقة مضادة : حقيقة أن بيت الظالم لابد أن يخرب في يوم من الأيام إن عاجلا أو آجلا فربك يمهل ولايهمل. نعم لابد من ترسيخ هذه المقولة في وجدان عامة الناس حتي ينبذوا المال الحرام وينأوا بأنفسهم عن ظلم الغير. وفي هذا السبيل التربوي الروحي أرسلت القريحة الشعبية عشرات المقولات والأمثال راجت رواجا هائلا بكثافة تحولت إلي سلوك عملي في الأسواق وفي أماكن العمل. ويقوم الضمير الشعبي المجهول بحركة التفاف ثانية في المأثور المذكور نفسه؛ إذ يبدأ صياغة المأثور من حيث إن خرب بيت الظالم حقيقة مفروغ منها لم تعد محتاجة لأي تنبيه؟ إنما هو الآن يتخذ منها نفسها ـ بما أنها حقيقة دامغة ـ أداة تنبيه إلي حقيقة عملية لا تقل أهمية بل لعلها أكثر إلحاحا باعتبارها تتصل اتصالا مباشرا بحياتنا العملية اليومية؛ تلك هي خراب بيت المهمل؛ أراد المأثور أن يعظم خطره، فقدمه علي خطر الظلم. هذا في الواقع إبداع إنساني خالص، وهذا ما تتميز به ثقافتنا الشعبية بحكم عراقة الشعب المصري الذي يثبت كل يوم أن ثقافة النخبة، أو الثقافة الرسمية، منذ اتصالنا بالنموذج الثقافي الغربي إلي اليوم، لم تترك فيه تأثيرا يذكر ربما لأن الثقافة النخبوية ـ بعد جيل البعثات الثاني ـ بدأت تنفصل الثقافة الشعبية ثم استعلت عليها مع أنها حصاد الوجدان ومخزونه التربوي الأخلاقي الحضاري العظيم. وصحيح أن الدكتور عبدالحميد يونس ورفاقه من تلاميذ الشيخ أمين الخولي كبير الأمناء قد أفاقوا إلي تراثهم الوجداني الكامن في الفولكلور المصري، ونجحوا في تخصيص كرسي للثقافة الشعبية في الجامعة المصرية، وبدأت الدراسات الجامعية تتفتح علي السير الشعبية والأغنيات والمواويل والحواديت وما إلي ذلك.. إلا أننا وقد تأخرنا في ذلك لا نزال نفتقد الباحث القادر علي الغوص في بحار الفولكلور العميقة الواسعة الشاملة لكل ميادين الإبداع الإنساني. أردت بهذه الجملة الاعتراضية أن أنبه إلي أن الكثير من مجالات الإبداع في الفولكلور المصري لا تزال أيضا بكرا لألوان من الدراسات الأدبية والعلمية والفنية والنفسية والاجتماعية والتاريخية، من ذلك مثلا مجال السحر والشعوذة، إنه مجال نشاط إنساني لا يستهان بخطره، فسواء قبلناه أو رفضناه ففيه كد للذهن والقريحة والخيال، إنه يكاد يكون نشاطا فنيا، إذا تأملناه وجدناه يصل أحيانا إلي مستوي الإبداع المدهش؛ علي الأقل في كيفية إقناع الناس وخداعهم، كيفية السيطرة علي عقول مثقفة ومتقدمة في مجال البحث العلمي؛ فنحن نعرف طبعا أن جمهور المشعوذين والسحرة كبير جدا ويجمع بين الجاهل والعالم، بين سيدات القصور والخادمات، كلهم وكلهن أمام المشعوذ سواء، يقعون في الخديعة نفسها التي وقع فيها من سبقوهم، يقعون فيها رغم علمهم بها بادئ ذي بدء، وقد يذهب بعضهم إلي المشعوذ بذريعة الاستكشاف أو من باب العلم بالشيء؛ إلا أنهم في النهاية يستمعون إليه بجدية، وينفذون تعليماته بحرص ودقة. هي في أصلها البعيد لم تكن شعوذة، بل كانت ثقافة شعبية، كانت لونا من الفن يحمل خصيصتها : خصيصة الالتفاف بصيغ فنية ـ تشخيصية أحيانا ـ حول ظاهرة ملتبسة يراد اختراقها وكشف حقيقتها، إن الكثير من هذه الصيغ الفنية يكاد يكون مسرحيا يلزمه قدرة علي الأداء التمثيلي والتقمص والتلوين الصوتي وضبط النظرات بالعينين، مع حصيلة من الخبرة واللباقة والذكاء والقليل من علم الفراسة الذي يتقنه الكثيرون بالفطرة خاصة أبناء قبائل الصحراء، وهناك أنماط كثيرة ممن ندخلهم اليوم في عداد المشعوذين، منهم علي سبيل المثال: فاتح الكتاب، أي أن يكون المرء في حالة اكتئاب أو اضطراب عصبي أو يعاني من نحس وإحباط وعكوسات في حياته أو مصاب بالعنة، فيذهب إلي هذا الرجل ليفتح له الكتاب، وهذا الكتاب في العادة هو المصحف الشريف، أو صحيح البخاري، أو أحيانا كتاب دلائل الخيرات، وحسب دراسة الرجل لشخصية الزبون خلال التمعن في ملامح وجهه وتأمل كلامه وحركاته؛ من ذقنه يفتل له حبلا، يعني يفهم وضعه جيدا ويعيد طرحه عليه بصياغة متماسكة ممنطقة، فيتوهم الزبون أن الرجل قد كشف عن مكنونه السري مع أنه لم يقل إلا ما فهمه من كلامه، عندئذ تبدأ أولي درجات الرضوخ والاستسلام لسطوة الرجل، الذي يبادر بفتح الكتاب بشكل يبدو عشوائيا في حين أنه مدبر في أطراف أصابعه، علي صفحة بعينها يعرف أن فيها سورة كذا من القرآن الكريم، أو الحديث الفلاني من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، أو هذا القول المأثور أو ذاك؛ لما في الآية أو الحديث أو القول المأثور من معان حمالة أوجه يتسق مدلولها مع الحالة الشعورية للزبون تحت وطأة اللحظة الراهنة، علي ضوء إيحائها يشرح له أسباب حالته إن كانت حسدا أو عقابا من الله نتيجة ذنب جناه أو نتيجة "عمل" سحري معمول له من شخص يكيد له، أما علاج الحالات السابقة فسهل وفي يده أن يطفئ عين الحسود بالرقية أو يفك النحس بعجل يذبحه علي باب المحل أو الدار، أو يتوب عن الذنب بكفارة يتقرب بها من الله التواب الرحيم. أما إن كانت "عملا" سحريا فلا انفكاك له إلا بعمل سحري مضاد يبطل مفعوله. هذه هي الصورة الراهنة للمشعوذ بعد أن تحولت الثقافة بوجه عام إلي شعوذة في ظل انحطاط ثقافي واجتماعي وسياسي طوال فترات الاحتلال العثماني الذي ساعد علي نشر الخزعبلات والخرافات بغزارة، أما الصورة الحقيقية الأصلية المنتمية بحق إلي الثقافة الشعبية فإن الرجل الذي يقوم بفتح الكتاب أو بالكشف علي مريض معتل المزاج كان واسع الثقافة والمعرفة والخبرة بالطب والصيدلة وأصناف العطارة والأعشاب وما إلي ذلك من خبرات عملية موروثة أو مبتكرة، وكان يسمي بالحكيم، ولم يكن الكتاب الذي سيفتحه ليستقرئ فيه حالة المريض إلا واحدا من الكتب التي وضعها في الطب والصيدلة فلاسفة وعلماء من طراز أبي بكر الرازي في كتابه الكبير "الحاوي في الطب المداوي"، أو ابن سينا، أو غيرهما ممن كانوا علماء وأدباء في آن معا، حيث كانت الثقافة في عصورهم تعني التبحر في علوم الطب والكيمياء والموسيقي والأدب.. وكان الحكماء الشعبيون هم واسطة الاتصال بينهم وبين عامة الناس؛ وكانت مواهبهم تكمن في قدرتهم علي استيعاب المضمون العلمي دون التقيد بالصياغة الحرفية، وعلي تطبيقه عمليا علي مرضاه، وعلي تصنيع الدواء بنفسه أو إرشاد العطار إلي صنعه محددا له الأنواع والكميات وطريقة التصنيع شرابا كانت أو "سفوفا"، وعن طريقهم انتشرت المعلومات الطبية وأنواع الأعشاب والعطارات المداوية وتحولت إلي ثقافة شعبية دارجة يمارسها عامة الناس. |
|
|
admin معلومات اضافية الجنس : العمل : الاقامة : العمر : 39 عدد المشاركات : 4284 تاريخ الانضمام : 14/05/2009 الدنيا ساعه فاجعلها طاعه | فتــح المنـــدل 20/1/2014, 2:56 pm |
| فتــح المنـــدل
عندما كانت تحدث السرقات في القرية ـ قديما وربما إلي اليوم ـ تكون الحكومة هي آخر من يفكر المسروق في إبلاغه عما سرق منه، اللهم إلا أن يكون الحادث كبيرا، كأن تتعرض زريبة بأكملها للسرقة، أو دكان مانيفاتورة كبير، أو حتي دكان بقالة. أما سرقات البيوت، فإن المسروق يتوجه في الحال إلي أحد المعروفين قبل أن يهتم بإبلاغ العمدة. وحتي المنكوبين بسرقات كبري يهرعون إلي الحكومة ويهرعون في نفس الآن إلي العراف. ذلك أن اعتقاد المصريين في قدرة العراف ثقافة شعبية متوارثة منذ آلاف السنين مما يشي بمصداقية واضحة لم تزعزعها اختلافات العصور المتواترة ولا ما دخل البلاد من ثقافات حديثة وافدة أو مكتسبة!. والعرافون درجات، أو طبقات، تتحدد طبقة الواحد منهم بمدي قدرته علي النفاذ إلي تفاصيل حالة السرقة واستكناه المعلومات وتحليلها للعثور علي مفاتيح يتوصل بها إلي السارق، سواء كان من محيط العائلة أو من خارجها؛ وكذلك بمدي نفوذه علي طائفة الجن الذين سيستخدمهم في فك طلاسم القضية. احد أبناء عمومتي كان واحدا من أولئك العرافين. وكنت في طفولتي منجذبا إلي قعدته ذات الطقوس الاحتفالية المبهجة، المرعبة أحيانا، الحافلة بمفاجآت مثيرة، وخيمة من دخان البخور الطيب الرائحة، ورقي وتعاويذ يلقيها العراف في مشهد مسرحي بكل معني الكلمة أين منه لورنس أوليفييه في دور هاملت شيكسبير، وجه يتلون بانفعالات حادة، وجسم ينتفض، لايني يلقي بالبخور في متقد النار هاتفا يستنهض خدمه من الجن يناديهم بأسمائهم في أمر مبطن بحميمية غاضبة. والناس من حواليه في القاعة صامتون يترقبون؛ قلوبهم تخفق في وجوههم في رهبة تقارب الشعور بالذنب، وفي فضول يقارب الشعور بالتحدي اللذيذ في محاولة اختراق حجب الغيب علي يدي بشري مثلهم ولكن عبر وسيط من الجن. ولم تكن قعدة قريبي العراف هي وحدها المثيرة لخيالي، إنما كتبه الصفراء العتيقة تفوح صفحاتها برائحة مياه الوضوء ممزوجة بزخم البخور وبصمات الأصابع الملطوشة بدسم الطعام؛ لهفي علي كتاب شمس المعارف الكبري وما يحتويه من وصفات سحرية لجميع أغراض الحياة بجميع أنواعها خيرا وشرا علي السواء. ولكن كيف سيعرف العراف من هو السارق أو القاتل أو صاحب الفتنة فيما نشب من عراك دموي في البلد؟ لسوف يفتح "المندل".. وكلمة "الصندل" علي وزن كلمة "المندب"، وكلمة "المنبع" وربما كانت هذه الكلمة الأخيرة هي الأقرب لتفسير معني كلمة: المندل؛ ذلك أن المندل تعني إجراءا طقسيا تنبع منه الدلائل التي يمكن أن ترشدنا إلي الفاعل، أو الجاني. وهناك أشكال متعددة لهذا الإجراء الطقسي السحري المسمي بالمندل. كل شكل يمثل طريقة استدلال. وكل جريمة سرقة أو قتل أو حرق أو تقليع زرع أو خطف رهائن لها ما يناسبها من هذه الطرائق. فهناك مندل الفنجان، و مندل طبق الكريات الطينية، و مندل القلة الفخارية المتحركة. وقد أتيح لي في طفولتي المبكرة أن أشهد كل هذه الطرائق، وأن أكون وسيطا طفوليا في بعضها. فانطبع في وجداني هذا العالم السحري باعتباره عالما فنيا محضا، بالدرجة الأولي والأخيرة. ذلك أن كل طقس من الطقوس بشكل عام هو فن بصورة أو بأخري منذ عصور ما قبل التاريخ حينما كان الإنسان البدائي يقيم الشعائر والطقوس لاسترضاء القوي الكونية المتحكمة في حياته وفي مصيره. وحينما تجلت العقائد الدينية في حياة الإنسان وثقفت وجدانه نضجت هذه الحركات الطقسية وتحددت معانيها في صلوات وعبادات، ثم في فنون التمثيل والرقص والغناء والموسيقي؛ فاكتسبت قدسية ومهابة وجلالا؛ فاستفاد من ذلك العرافون والسحرة، اعتمدوا علي غريزة حب الناس وإجلالهم لكل ما هو طقسي؛ اعتمدوا كذلك علي خصوبة خيالهم في توصيف الوصفات السحرية بحيث تبدو كل وصفة كأنها عمل فني منسوج من صور سوريالية حوثية. أكاد أجزم أن العرافين أو السحرة أنفسهم علي قناعة بأن أعمالهم السحرية هذه ليست بقادرة علي اختراق الغيب لمعرفة الفاعل أو الجاني الخفي، وأن استخدامهم للجن أمر بالغ الاستحالة، إنما هم علي قناعة داخلية بأن المسرحية في حد ذاتها، اللعبة الطقسية بإجراءاتها الكثيرة هي في الواقع صاحبة السر الباتع في الكشف عن الجناة. ولهذا يبالغون في ردها وتشخيصها بجدية وبأكبر قدر لديهم من ملكة التفنن إن هدفهم الحقيقي هو إتقان اللعبة،. فبهذا الإتقان وحده يحدث الضغط النفسي علي نفسيات الجناة فيتوترون وتضطرب سلوكاتهم وتتعطل أذهانهم وترتبك أحوالهم فتقع منهم كلمات أو تصدر عنهم أفعال تشي بتورطهم. وكلما كان العراف حسن السمعة قادرا علي إثارة الرهبة شكل ضغطا علي نفوس الجناة الذين ربما كانوا من بين الحضور في قعدة العراف فيسرع الجناة بالتخلص من أثر الجريمة فيكشف أمرهم. إذا كانت السريقة ماشية أو محاصيل، من الزريبة أو من مخزن خارج الدار، يكون مندل الفنجان هو الأنسب. وبادئ ذي بدء ليس من المستحب وجود أكثر من عراف في نفس الجلسة كما يحدث أحيانا لدي الأسر الميسورة حيث تستدعي أكثر من عراف من أكثر من بلد إضافة إلي عراف البلد؛ مع أنهم يعتقدون ما يعتقده الناس من أن وجود أكثر من عراف في جلسة واحدة يشوشر عليهم جميعا؛ فكل عراف سيترصد شغل الآخر ويقرأ في سره من التعاويذ والآيات القرآنية والأحاديث النبوية ما يبطل به سحر منافسه. في ليلة من ليالي الفنجان في بلدتنا تسللت بين الأطفال إلي مندرة العائلة التي سرقت مواشيها لكي تنفرج علي ما يحدث أمامنا من أعمال سحرية. لم يكن قريبي هو عراف تلك الليلة ولم يكن حاضرا، وحينما تفجرت حبات البخور علي نار المنقد وعبأ الدخان ذو اللون التركوازي فراغ المندرة فبدأ الحضور جميعا كأنهم كائنات مائية غريبة متربعة في قاع بحر، تصدر عنها حركات مبهمة وزفرات ووشوشة ودمدمة وأسماء جن تسبح في موجات الدخان من قبيل: حركوشن بركوشن ماركوشن يا خدام هذا المكان أقسمت عليكم باسم الرحمن وببركة نبيه الشفيع الحنان أن تظهروا الآن.. الآن.. العجل العجل.. الوحي الوحي الساعة الساعة ثم جئ بالفنجان وقد غطي قاعه بنقطتين من الزيت. راح العراف يمرره بكفه فوق نافورة دخان البخور سبع مرات وهو يتمتم بتعزيمات تحفل بكلمات لا تعرف إن كانت عربية أو سريانية أو فارسية أو فرعونية المهم ان الانفعال الجاد علي وجه العراف وخلف خيوط لحيته الكثيفة المنسقة ثم إنه وضع الفنجان علي الأرض، وطلب أن يتبقي من هؤلاء الأطفال طفل ذو مواصفات معينة: أن يكون ذا جبهة هلالية؛ أن تكون أسنانه مفلوجة من الأمام؛ أن تكون خطوط كفيه علي شكل رقم 17، أو رقم واحد وسبعين. أحاط بنا صاحب الدار بطرفي عباءته ثم دفع بنا إلي الحصير حيث يتربع العراف ومن خلفه مسند تفحصنا العراف واحدا بعد الآخر، ثم وضع يده علي كتفي وأعلن استياءه من أن شروطه لم تتوفر في أحد منا اللهم إلا هذا الولد ـ يعني أنا ـ توفر فيه شرطان اثنان: هلالية الجبهة والسن المفلوجة أما خطوط كفي فعلي شكل رقم واحد وثمانين. فلما بان عليهم الإحباط أعلن أنه مع ذلك سيحاول لعل البركة تحل في هذا الولد. كنت في التاسعة من عمري آنذاك. مع ذلك فطنت من نظرة العراف ولهجته أنه قد احتاط بسبب يستند عليه إذا فشل في مهمته. ثم إنه وضع كفه العريضة الخشنة فوق جبهتي وقرأ تعزيمة ختمها بالصلاة علي سيد المرسلين. ثم كتب علي قصاصة من الورق كلاما يتضمن مربعات مخططة في داخلها أرقام وأحرف هجائية؛ سحب رأسي، حشر الورقة بين جبهتي وحافة الطاقية التي كانت تغطي رأسي. أمسك بيدي اليمني، فرد كفها وملس عليه عدة مرات في كل مرة تمر يده علي دخان البخور. قال لي: إثبت وكن قوي الأعصاب حتي لا يتدلدق الفنجان علي يدك. ثم وضع الفنجان بحرص وتؤدة وقال لي: عليك أن تركز النظر في قلب الفنجان وتصف لنا ما سوف تراه. فاقشعر بدني ورحت أقاوم الرعشة في يدي. ولكن بما أنني فضولي بطبعي، ولي شغف عارم لرؤية ما يقال أنني سأراه، لذا فقد استغرقني التحديق في قلب الفنجان وأنا في قمة التحفز والتركيز واشتعال الخيال. |
|
|
admin معلومات اضافية الجنس : العمل : الاقامة : العمر : 39 عدد المشاركات : 4284 تاريخ الانضمام : 14/05/2009 الدنيا ساعه فاجعلها طاعه | لعبة الكُريّات الطينية 20/1/2014, 2:57 pm |
| لعبة الكُريّات الطينية
طال تحديقي في قعر الفنجان فيما العراف مندمج في نوبة من التعزيم المنفعل في حرارة، يتخلله شخط ونطر وهتاف واستغاثة وتهديد ووعيد لإبليس اللعين، ثم سألني : ماذا تري؟ قلت : لا شيء، ثم أردفت بتعبير تلقائي : الفنجان مظلم، فهتف بصرخة أفزعتني فارتج الفنجان علي راحة يدي فسندته باليد اليسري : أحسنت، فتح الله عليك ياولد، أنت ولد فطن، الفنجان بالفعل مظلم لأن ظل ابليس يتكوم فيه ولكنه بإذن الله سيرتد، سأقطع دابره من هذا المكان، ثم لمحت في عينيه نظرة جهنمية ظهر فيها كأنه انتبه إلي شيء لتوه، وقال لي : قرب شوية هنا أنت قاعد بعيد ليه كده، لازم دخان البخور يغمر وجهك وجسمك كله، ثم أخذ الفنجان وسحبني برفق موسعا لي مكانا بجواره إلا أنه في مواجهتي عن قرب حتي خيل لي أني بقعة صغيرة غامقة تعوم في بحر عينيه الواسعتين. وضع الفنجان علي راحة يدي واستأنف التعزيم بحرارة أشد، وبكلام أغلظ وأكثر إبهاما، وبعد حوالي عشر دقائق هتف بي : الضلمة راحت طبعا، انتبهت في الحال إلا أني قد شردت، فلما نظرت في قاع الفنجان دهشت قلت : فعلا الضلمة راحت والدنيا نورت، قال : صف لي ما تراه، قلت : أري دارا بعيدة ذات شبابيك نصف مفتوحة وبوابة مغلقة، وهناك رجال كثيرون يجلسون تحت شبابيكها! ولم أكن فطنت بعد إلي أنني وصفت خيال شبابيك المندرة التي نجلس فيها، حيث كانت منعكسة في ضوء زيت الزيتون في قاع الفنجان، حينما قال لي : حيطلع لك خادم شكله غريب شبه صورة الجوكر بتاع الكوتشينة، قل له بالأمر اكنس ورش ورص الكراسي، في التو واللحظة ظهر في قاع الفنجان شبح رجل يحمل صينية عليها براد شاي وأكواب، هتفت : قد ظهر الخادم. قال : صفه لي، قلت : إنه عبد أسود يحمل صينية عليها (...) ودهمتني المفاجأة، كان العبد الأسود هو مبروك أصغر رجال الدار سنا وها هو ذا - وكأنه نزل من قعر الفنجان - ينحني قاعدا ليصب الشاي في الأكواب بجواري مباشرة، عنذئذ اندمج العراف في ضحك هستيري، تبعه الجميع في الضحك بأصوات محبطة مبللة بالمرارة. أنهي العراف جلسته علي وعد من أصحاب الدار بأن يجولوا في البلد والبلاد المجاورة من أجل العثور علي طفل تتوافر فيه الشروط الثلاثة، وعدت أنا ليلتها إلي دارنا، فتلقفني قريبي العراف من مندرتنا عقب صلاة العشاء، انزوي بي في ركن وسألني عما دار في دار فلان عصر اليوم، حكيت له ما حدث بالتفصيل، فضحك بعمق حتي سأله الحضور أن يشركهم في الضحك، فأعاد صياغة ما حكيته كأنه هو الذي كان هناك مطرحي، ثم علق ببساطة الواثقين من عتاة المهنة، قال : الجن لم يطع أخانا المسكين كان عليه وعليهم أن يعرفوا أن الجن بوقرني ويغضب و يحزن تضامنا معي! لم يعجب الجن أن أكون أنا في البلد ويلجأ أصحابنا إلي عراف براني من بلد بعيد ربنا معاهم علي كل حال يصبرهم علي ما ابتلاهم ويعوض عليهم. قريبي هذا اصطحبني ذات يوم إلي بلدة نركب إليها الحمير طوال نصف يوم، وكان من المفترض أنه سيمكث ضيفا علي العائلة الداعية لمدة أربعة أو خمسة أيام وهي المدة الكافية لإجراء مهمته علي مهل في نفس البيت الذي حدثت فيه السرقة، أما السريقة فكانت شوار عروس بعد مرور أسبوع واحد علي زفافها، حيث تسلل اللص إلي حجرة نومها فيما كانت هي مستغرقة في النوم في حضن عريسها، غالبا قبل أذان الفجر بقليل، ففتح دولاب الملابس وأخذ علبة المجوهرات وفلوس الصباحية التي بلغت مائة جنيه وكسورا، وهذا مبلغ ضخم بقياس ذلك الزمان، وقد فوجئت العائلة أن بوابة الدار مفتوحة وباب حجرة النوم مفتوح، فرجحت تقديرات المعاينات الأولية أن اللص قفز من سور الجنينة الشائك المزروع، وسرب يده من شراعة الباب المطل علي الجنينة وأزاح الترباس الداخلي ودفع الباب، وكان باب حجرة نوم العروس مجاورا له مباشرة ولم يكن مغلقا بترباس داخلي ففتحه ليجد العروسين في غيبوبة تامة، فجمع سريقته ومشي علي أطراف أصابعه إلي بوابة الدار ففتحها وخرج إلي الشارع فانغلق الباب وراءه من تلقاء نفسه. حين استمع قريبي العراف إلي ملابسات حادث السرقة ونحن جلوس في المندرة الحاشدة بالرجال، لعل من بينهم من كان له يد في السرقة، ففكر قليلا ثم قال عدم المؤاخذة يا جماعة إن اللص فعل فعلته باطمئنان شديد وبقلب جامد، إنه يألف الدار وله الدلال علي أهلها، ويعرف أنه لو انكشف قبل الفرار يستطيع أن يقدم تبريرات قد تجيء مقبولة، أو ربما هو عارف ومتأكد أن العفو عنه عندئذ سيكون من مصلحة العائلة لقطع دابر الفضيحة قبل ذيوعها، بدا علي الوجوه أن كلامه خطير وأنه ضربهم في مقتل، وبدأت بوادر من زمزقة وبرطمة وهلضمة غامضة في أركان من المندرة، كان العراف لبقا كما أعرف، وذكيا حاد الذكاء كما يصفه أبي، وقوي الشخصية يهرب الناس من التحديق في عينيه، رفع ذراعه بحركة مسرحية وصاح بصوته الجهوري ذي الرنين المتعدد الأصداء : شغلي مبدؤه الصراحة والطهر، هذه الزمزقة التي أراها دليل إدانة عدم المؤاخذة فضلا عن أنها ستشوشر علي خدامنا الأسياد! ماذا لو ظهرت الحقيقة وكانت مؤلمة لكم جميعا؟ ستكذبونني أم ستكذبون أهل الخير من أسيادنا الجن؟ أم تكذبون أنفسكم؟ صلوا علي النبي وكل من علي صدره بلغم متراكم يخرج ليكحه في الخلاء. بالفعل انصرف الكثيرون، وبعد صلاة العصر انفرد العراف بعميد العائلة وعياله الأربعة من بينهم العريس المنكوب، اضافة إلي عشم افندي مساعد العراف، كان مدرسا إلزاميا فلما أحيل علي المعاش ارتبط بقريبي لأنه يعشق هذه اللعبة السحرية، طلب العراف اسماء كل أفراد العائلة رجالا ونساء، واسماء كل من تحوم حولهم الشبهات، فلما انتهي عشم أفندي من كتابة القائمة قام بتمزيق فرخين من الورق إلي قصاصات بعدد الاسماء،وكتب علي كل قصاصة اسما، وطوي القصاصة أربع طيات كالحجاب في حجم عقلة الإصبع، ثم طلب العراف جالوصا من الطين الطاهر، فأتوا له بعجينة من نشع زير الماء علي الأرض. قال إنه سيجرب المندل الملائم لهذه السرقة، فبدل الكريات الطينية طلب حلة صغيرة ملآنة بالماء، فجيء بها، قام بتبخيرها وتبخير الطينة وقرأ عليهما تعزيمة بدت كأنها وصية أو تحذير شديد اللهجة، قام عشم أفندي بتقطيع الطين إلي كريات كالبلي، بعدد الاسماء بإصبعه وضع العراف كل قصاصة مطوية في أحشاء كرة طينية تغطيها بحيث لا يبين منها أي شيء ثم يلقي بالكريات كلها في الحلة المملوءة بالماء فصارت مثل قطيع من صراصير متكورة بعضها عائم وبعضها غاطس قليلا ، ثم قرأ عليها عدية يس، ثم وضع غطاء الحلة، وأمر بوضعها علي أرضية شباك المندرة، ونقل منقد النار إلي جوارها، دفع بحفنة من البخور فقامت دوامة مطشطشة من الدخان برائحة عطرية زاعقة إلي حد خانق، وكانت شفتاه أسرع من حركة الدخان في حركة البسملة والحوقلة والحمدلة. قال في ثقة : بعد وقت ربما في الصباح ربما في مساء الغد، ستتشقق الكرة التي تحمل اسم الفاعل وتطفو الورقة، فإن كان الفاعل أكثر من واحد، عصابة مثلا فإن كرياتهم سوف تتشقق واحدة بعد الآخري، وإذا المياه طمست الاسماء الطافية فيسهل علينا حصر الاسماء المتبقية داخل كرياتها لنعرف اسماء من طمست اسماؤهم. اقشعر بدني من هذه الصورة الفنية الساحرة بالفعل، لقد ظهر تأثيرها علي وجوه أهل الدار فبدوا في حالة اقتناع تام بجدواها، بل إنهم بدوا كأنهم تلقوا النتيجة بالفعل وعرفوا من السارق، الآن وقد كبرت أو قن إن المنطق الفني في هذا النسيج الفني لهذه الصورة للعبة الكريات الطينية هذه هو صاحب التأثير الأعظم في اقتناع الناس إلي اليوم بجدوي العرافين والسحرة والمشعوذين. كانت مهمة عشم أفندي ليلة ذاك أن يجلس لصق الشباك في حراسة الحلة حتي الصباح لينام هو وأتولي أنا الحراسة نهارا، لنمنع أي متسلل من طرف الفاعل يريد ابعاد الشبهة عن نفسه بتفجير ما تطوله يده من كريات لينجو هو ويتحمل التهمة أصحاب الاسماء الطافية، وبالفعل كادت أشياء من هذا القبيل تحدث في نوبة حراستي أثناء ذهابهم جميعا لصلاة العصر في مسجد القرية، حيث جاء من يتلكأ بحذاء الشباك ويحاول إلهائي بأكل أو شرب أو كلام، فهددت بالصراخ وفي الليلة الثانية لم تتشقق أي كرة، ولكن العراف الأريب كان يوهمهم بأن بعض الكريات في نظره علي وشك أن تتشقق وأنه ليعرفها جيدا وسوف لا يأتي الفجر إلا وتكون الاسماء قد ظهرت. وقرب أذان الفجر كانوا قد أخلدوا إلي النوم إلا عشم أفندي تربع فوق الكنبة بجوار الشباك يقرأ القرآن، وكنت ممدا بجواره بين النوم واليقظة حينما دخل رجل محترم، في هدوء مال علي عشم أفندي ووشوشه، طالت الوشوشة بينهما حتي تيقظت تماما لكني ظللت راقدا، سمعت عشم أفندي يقول له : إن الله حليم ستار فعلا وسوف نعالج الأمر، ثم قال له : اذهب إلي أي شجرة في مدخل البلد وادفنها تحتها وتعال ودع لي الباقي، وعندما خرج العراف من غرفة النوم إلي المندرة يتوضأ لصلاة الفجر تطوع عشم أفندي بأن يصب عليه من الأبريق، فصب في أذنيه حكاية ما جري فهز العراف رأسه بوجه مشرق وقال : كنت علي ثقة بأن شيئا كهذا سوف يحصل، فلما جاء القوم كلهم من صلاة الفجر قال لهم العراف، جاءني هاتف يقول لي إن مندل القلة سيأتي بنتيجة لأن السريقة مدفونة تحت شجرة، وجيء بقلة فخارية جافة، بخرها وطلب أن يري أكف الرجال واحدا واحدا، ولكنه حين أمسك بيد الرجل إياه صاح فرحا : هذا هو. وقال له : ستمشي حاملا القلة علي كفك ونحن من ورائك، بالتعزيم وبالأسياد، وعند المكان الذي دفنت فيه السريقة ستهتز القلة علي كفك وتقع رغما عنك، وسنحفر في المكان الذي وقعت فيه القلة وبإذن واحد أحد سنعود مجبورين، وقد كان عند الشجرة التي يعرفها الرجل إياه أرعش يده بقوة حتي وقعت القلة فوق بقعة الدفن مباشرة، فقال العراف : افتحوا، لم يتعمق الفأس في الفحت، لأن السريقة طلعت من خبطة واحدة، ويومذاك عدنا بالركائب محبورين مزفوفين كالأبطال الفاتحين. |
|
|
admin معلومات اضافية الجنس : العمل : الاقامة : العمر : 39 عدد المشاركات : 4284 تاريخ الانضمام : 14/05/2009 الدنيا ساعه فاجعلها طاعه | "الموالدية" ما أعظمهم 20/1/2014, 2:57 pm |
| "الموالدية" ما أعظمهم
للصييتية والموالدية في مصر تأثير بالغ القوة والنفوذ في الوجدان المصري منذ أزمنة بعيدة إلي اليوم، فلديهم من المتاع الموسيقي مدخر لا ينفد علي الرغم من أن بعضهم يتحرك في أفق نغمي محدود لضآلة حظه من التحصيل عند التكوين، أو لمحدودية صوته التي تفرض عليه الاقتصار علي البسيط الشائع من الألحان. ففي العصر الفاطمي علي وجه التقريب نشأت طبقة من المداحين تخصصوا في مدح النبي عليه الصلاة والسلام وآل بيته الكرام. تربوا في أحضان الطرق الصوفية كبطانات لكبار المنشدين الذين يصاحبون حلقات الذكر بالإنشاد الديني، حيث الإنشاد الديني ألحان متنوعة المقامات لقصائد منظومة في لغة فصحي أحيانا، عامية أحيانا أخري، خليط منهما معا في معظم الأحيان. بعضها من تراث الشعر العربي، وأشعار الصوفية علي وجه التحديد، وما تحفل به من سبحات روحية ذات رؤي شعرية غنائية عميقة تهز النفس وتحببها في الإخلاص لله، والسير في طريقه طريق الطهر والصفاء وسلامة القلب، أشعار لعمر بن الفارض ومحيي الدين ابن العربي والحلاج والشبلي والإمام الشافعي وغيرهم. وبعضها الآخر تأليف معاصر علي غرار السابقين. فالجدير بالذكر أنه أقطاب الطرق الصوفية المعاصرين كانوا كأقطابهم العماليق السابقين : أبوالحسن الشاذلي والمرس أبوالعباس وعبدالرحيم القنائي والسيد البدوي والدسوقي ابوالعينين، يكتبون الشعر.. فالشعر هو اللغة الفنية التي تتماهي مع سموقهم الروحي، القادرة علي استقطاب التجليات والفتوحات الروحية. وأتباع هذه الطرق ـ قديما وحديثا ـ يعتبرون أشعار مشايخهم بيانات ومواثيق وعهودا. فإذا كان "العهد" الذي يتلوه الشيخ علي مريديه ويلزمهم اتباعه أشبه بعقد اتفاق علي سلوك معين من العبادات ابتغاء مرضاة الله، فإن أشعار الشيخ هي الإضاءة المبهرة علي دخيلة الشيخ، هي تجلياته، هي كلمة سره الذي لا يني يستجليها من قصيدة لأخري فالصوفية يبدأون حركتهم أو رفضهم في الذكر بقرار مطمئن هاديء من مقام الباكاه، ويسيرون في هذا منوطا حتي يتم لحركتهم التآلف والإنسجام. ثم يتنقلون بالحركة الي مقام العثيران، فالطرق، فالرصد، فالدوكاه، فالسيكاه.. وهكذا إلي مقام الأنوج، وقد يرتفعون إلي المحيي، إذ يحمي الوطيس، وتبلغ حركة الذكر ذروتها من القوة والسيطرة علي الذاكرين، فترتفع صيحات الوجد من كل جانب، وتتصاعد صرخات المجذوبين تعبيرا عن أحوالهم. وهنا يرتفع صوت قائد الذكر بصيحة عالية قائلا في صوت ممدود عريض : الله ..فيكون هذا إيذانا بانتهاء هذه الطبقة من الذكر، فتسكن الحركة، وتهدأ الجوارح، ويستقر الذاكرون بعض الوقت استعدادا لطبقة ثانية.. ويعتبر الذكر علي الطريقة الليثية التي تنتسب إلي الإمام الليث بن سعد المصري أدخل الطرق في باب الفن الغنائي والموسيقي، لأنهم يوقعون حركة الذكر توقيعا منسجما، ويقطعون الألفاظ والكلمات تقطيعا منغما من الهزج. وهذا ما يمكن المنشد في التفنن، فيجول ويصول، ويجري مايشاء في مقامات النغم شعرا، وتوشيحا ومواليا حتي يخلب ألباب السامعين، ويموج بالذاكرين موجا في بحر الانسجام. ومن ثم كانت الطريقة الليثية أحب الطرق إلي رجال الإنشاد والغناء. أما ضبط الحركة والإيقاع في الذكر فيتولاه رجل من عباقرة الفن يسمونه بقائد الذكر، وهو اشبه بقائد الفرقة الموسيقية، علي أن مهمته أشق وأصعب، لأنه يضبط حركة الذكر في سيرها واندفاعها من جهة، ثم يراعي ارتباطها بنغمة الإنشاد من جهة أخري. وإذن، فحين نعلم أن عبده الحامولي ـ مؤسس نهضة الغناء العربي وباعث دولته ـ والشيخ يوسف المنيلاوي، والشيخ محمد المسلوب، والشيخ سلامه حجازي، والشيخ ابوالعلا محمد، والشيخ درويش الحريري، والشيخ علي محمود، والشيخ زكريا أحمد، حين نعلم أن هؤلاء جميعا كانوا في الأصل منشدين قبل أن يحترفوا الغناء الدنيوي الذي ابتعثه عبده الحامولي، ندرك علي الفور مدي عظمة هذه المدرسة التي أسسها الموالدية من الصوفية لتصبح شجرة ضاربة الجذور في تربة الوجدان العربي، يتفرع منها قامات سامقة في الموسيقي والغناء في مصر والشام وبغداد والمغرب الأندلسي واليمن وجزيرة العرب، يطلع بها مريديه وعلي ما أنعم الله به عليه من فتوحات فيها إشراق وحكمة، فيأخذها المنشدون للتغني بها في مصاحبة حلقات الذكر، وكان لدي المنشدين ثروة نغمية هائلة، ورثوها عن الرواد الأوائل. وقد لا يعرف الكثيرون من أبناء هذا الزمان أن الصوفية كان لهم شغف عظيم بالموسيقي ولهم فيها "شغل" إيجابي خلاق. يقول أستاذنا الراحل محمد فهمي عبداللطيف في كتاب له بعنوان "الفن الإلهي" إن الصوفية "طبعوا الغناء والموسيقي بطابع خاص، وأعني به طابع الحنان الذي تذوب فيه النفوس وتهيم به الارواح، ذلك أن الغناء عند الصوفية يقوم أصلا علي التضرع والابتهال والرجاء في الله مما يستوجب الرقة والحنان والصفاء الروحي. ثم إنهم يربطون الإنشاد بحركة الإيقاع في الذكر ربطا محكما، والحرص علي الانسجام في الانتقال من طبقة إلي طبقة، ومن مقام إلي مقام مما يبعث في النفس الانسجام والبشاشة". ويقول : "إن الصوفية يعتبرون الغناء والسماع أحد المقامات علي الطريق في الوصول الي الله. وهم يسمون هذا الطريق بسفر، أوحج. ولأجل تحقيق الوصول في هذا السفر لابد من المجاهدة في قطع عدة مقامات، كل مقام منها أشبه بمرحلة، وكل مرحلة قائمة علي التي تقدمتها، وهي علي التوالي مقامات التوبة، والورع، والزهد، والفقر، والتوكل، والرضا، وهذا النغام الأخير يسمونه راحة النفس، او السلام الروحي، والتوصل إليه يكون بالوجد والحبور، والغناء والسماع. والحبور عندهم هو السماع. وبهذا المعني يفسرون قول الله تعالي : "فهم في روضة يحبرون"، أي يسمعون "وإذن فالموسيقي عند الصوفية""هاتف سماوي يحدو بالمرء إلي التوجه والسعي نحو الله. فمن أعارها سمعه وهو راغب في الله كان له ما أراد. ومن أعارها وهو راغب في الشهوات وقع في النهاية وارتطم في حمأة الشهوات". وليس من قبيل المبالغة تأكيده أن هذه الطرق الصوفية في الحقيقة "هي التي خدمت هذا الفن الغنائي، وكانت عماد هذه الناحية الفنية حقبة طويلة من التاريخ، وكان لها كل الفضل في حفظ أصول الغناء العربي، ثم تنمية هذه الاصول بما أخذته من مقامات متناسبة متناسقة من فارس وتركيا والهند. ذلك أنها بعد أن سيطرت علي مشاعر المجتمع، وصارت قوة في الدولة لها سلطانها وسطوتها فتحت الباب علي مصراعيه لتقبل جميع ألوان الفن الغنائي والموسيقي وإدخالها ضمن شعائر التصوف، فلم يعد الفن الصوفي مقصورا علي إنشاد القوالين ووجود الحاضرين، ولكنه أصبح يستوعب كل فنون الطرب وألوانه، وبخاصة ما يثير الشجو من هذه الفنون والألوان التي تنسجم مع مشاعر الجماهير الشعبية، فقد أتاح رجال الطرق الصوفية في أول الأمر، بعد أن خلا لهم الطريق من اعتراضات الفقهاء وإنكارهم، إستخدام آلات الصفير في مجالس الإنشاد ومحافل الذكر، ثم جاءت الطريقة المولوية ـ نسبة إلي جلال الدين الرومي ـ فأباحت العزف بجميع الآلات الموسيقية علي اختلاف ألوانها في هذه المجالس والمحافل، وبهذا اكتملت الصورة الفنية للغناء والموسيقي في البيئة الصوفية، وأصبحت كل مجالات الطرب في محافلهم ومجالسهم. وكان أشهر الآلات التي استخدمها الصوفية في مواكبهم ومحافلهم، ومازلنا نراها إلي اليوم، الدف، والرق، والنقاقير والباز والسلامية والناي الذي عرف باسم ناي الدراويش، وهو يمتاز بصوته الحنون الذي يثير مكامن الشجون". ولم يكن هذا الدور الموسيقي الغنائي ليزدهر علي أيدي الطرق الصوفية إلا في ظل انتشار الموالد في مصر إبان الحكم الفاطمي، فهم الذين ابتدعوا إقامة الاحتفالات بالموالد الستة : المولد النبوي، مولد الإمام علي، مولد الحسن، مولد الحسين، مولد الزهراء، ثم مولد الخليفة الفاطمي. ثم انتشرت الموالد فشملت أقطاب الطرق الصوفية المنتشرة أضرحتهم في جميع أنحاء مصر من أقصاها إلي أقصاها. وكان رجال الطرق الصوفية هم الذين يقومون بإحياء هذه الموالد كما هو حادث الي اليوم. والجدير بالتنويه ـ فيما يؤكد فهمي عبداللطيف ـ أن جميع الطرق الصوفية تنتمي إلي آل البيت إلا النقشبندية ،فإنهم وحدهم الذين ينتمون إلي أبي بكر الصديق. ويجدر بنا أيضا أن نستمع إليه إذ يقول : إننا نحس في الحركات الراقصة للذكر رنات الشعر العربي وأوزانه المعروفة من الخفيف والهزج والرمل مما يسميه علماء العروض بالتفاعيل والبحور، ويسميه أهل الموسيقي بالمقامات والأنغام، ولكن الذي لا شك فيه أيضا هو أن الصوفية قد زادوا كثيرا علي هذا الوضع، وتوسعوا في المقامات الفنية للذكر توسعا أرحب وأحفل بمداخله في الطرب ومواقعه من النفس. فالنوبة من الرقص عند العرب كانت ترتبط من أولها إلي آخرها بلحن واحد هو الخفيف أو الهزج أو الرمل، أما النوبة من الذكر فإنها تستوعب من بدايتها إلي نهايتها جميع مقامات الغناء المعروفة عند العرب، والتي أخذها الصوفية من غير العرب، وبذلك ينتقل الذاكرون والسامعون من لحن إلي لحن، مما يكون أدعي إلي شدة الطرب، وإظهار المواجد والوجدانات لأن كل نفس تجد اللحن الذي يشاكلها، والنغم الذي ترتاح إليه، فإن النفوس تختلف في تقبل الألحان والأنغام، كما تختلف الأذواق في تقبل الطعام بألوانه. |
|
|
admin معلومات اضافية الجنس : العمل : الاقامة : العمر : 39 عدد المشاركات : 4284 تاريخ الانضمام : 14/05/2009 الدنيا ساعه فاجعلها طاعه | طاسة الخضة 20/1/2014, 2:58 pm |
| طاسة الخضة
كانت زوجة عمي الحاجة فاطمة نوحاية، التي ألهمتني رواية الوتد وكانت هي "الموديل" الواقعي الذي نقلت نسبه وتفاصيله وأنا أرسم شخصية الحاجة فاطمة تعلبة، موسوعة في أصناف وأسماء العطارة من الخُلَجَان إلي عين العفريت والمستكة إلي الجاوي وجوز الطيب والحبهان، ناهيك عن أنواع لا حصر لها من البخور الوارد من الهند والسند وبلاد تركب الأفيال.. وكان دولابها الغائص في حائط قاعتها الجوانية في دارنا ـ دار العكايشة ـ ترتص فوق رفه المحندق فرق من القوارير والقنينات والعلب ذات ألوان بللورية مبهجة وغامضة في آن. اعتدنا أن نحبها وننظر إليها بشغف وحميمية كلما فتحت درفة الدولاب لتأخذ منه أو تضيف إليه شيئا. ففي هذه القوارير والعلب شفاء من الإمساك والمغص والانتفاخ ووجع الضرس وحمو النيل وحب الشباب والدمامل، وأدهنة من زيوت ومراهم لوجع المفاصل والروماتيزم، وقطن وشاش لتجبير السيقان والأذرع المكسورة، وصبغة بودوتوتياء، وشبة، وكحل وقطرة وششم للعين. غير أن البعض منا، الأطفال بخاصة، كانوا يرتعبون من منظر القوارير الملونة المرصوصة بين علب ملونة بألوان زاهية تحتوي علي سفوف أو أقراص، وشربات الزيت والملح والخروع، إنه الدواء، وكل دواء مكروه لمرارته، وبعضه موجع، وبعضه الآخر مخيف. أشد ما كان يخيفنا من مناظر العلاج منظر عملية "أخذ الشمس". ذلك أن الفلاح الذي يتعرض للشمس في عز وقدتها في الظهيرة قد يتعرض لضربة شمس تصدعه وتفتت عظامه. ويتصور الخيال الشعبي الخصيب أن أقباساً من الشمس دخلت في دماغ من تعرض لها وسكنت في عظامه ومن ثم فلابد من طردها بالقوة الجبرية حيث لا ترياق ولا أي عقار طبي بقادر علي سحب الشمس من داخل الدماغ بالسرعة الواجبة. فبأي قوة جبرية يتم أخذ الشمس .. يتم بالحبل والمفتاح. أما الحبل فيستعاض عنه بدكة لباس تخينة مجدولة من خيوط الصوف الناعم وينتهي طرفاها بشراريب تتدلي خيوطها السائبة. لها في السروال بكية يتم تدكيكها فيها، ويعقدها الرجل، أو المرأة، عقدة وشنيطة ليسهل فكها عند اللزوم كربطة رباط العنق في سهولة فكها. هذه الدكة أنسب من الحبل المجدول من التيل أو الكتان أو ليف النخيل. تقوم الحاجة فاطمة بلف الحبل ـ الدكة ـ حول رأس المصدوع، ثم تجيء بمفتاح حدادي من مفاتيح البوابات الكبيرة، شكله شكل مفتاح الحياة في النفوس الفرعونية: رأس بيضاوية مفرغة، وذراع حديدية طولها حوالي عشرة سنتيمترات تنتهي بسنة بارزة مشرشرة، تربط طرفي الحبل في ذراع المفتاح بعد لفه، ثم تمسك المفتاح من طرفيه وتبرم، وتظل تبرم والحبل ينشد ويتوثق حتي يكاد يغوص في لحم الرأس. فيصرخ صاحبه من ألم الضغط علي عظم الجمجمة، تدمع عيناه لكنه يجز علي أسنانه كاتما صيحاته. يقول انه يشعر بهواء ساخن يخرج من رأسه بغزارة، سرعان ما يصير عرقا ينهمر علي وجهه. انه ـ تقول الحاجة فاطمة ـ عرق العافية. تبرم المفتاح الي الناحية العكسية لتخفف الوثاق قليلا ثم ما تلبث حتي تعيد الكرة مثني وثلاث ورباع. بعدها تفك الحبل، فيمسح الرجل عرقه ويغطي رأسه في الحال بالطاقية. ما أن ينتهي من شرب الشاي أو القهوة حتي يكون رأسه قد راق واستراح بعد جلاء الشمس عنه، فيعافينا بالعافية ويمضي. المنظر الآخر من مناظر العلاج المخيفة لنا نحن أطفال الدار هو منظر "أخذ كاسات الهوا". ذلك أن الواحد منا قد ينزاح عنه الغطاء أثناء النوم، أو تسفعه الريح في أجنابه ذات زعبوبة من زعابيب أمشير، فيصاب بلطشة برد حادة، فينهد حيله وتنكسر عظامه ويتوجع. لقد احتل الهواء جسده وتمدد بين اللحم والعظم، فلابد إذن من طرده بالقوة الجبرية قبل أن يتمكن من الاستيطان. إن الوسيلة المثلي لطرده هي كاسات الهوا. يتقرفص المريض معريا ظهره في القاعة المحكمة الاغلاق. تجيء الحاجة فاطمة بكوب زجاجي، تشعل النار في قرطاس صغير من الورق وتلقيه داخل الكوب مشتعلا ثم تتركه حتي يصير رمادا ويكون قد أحرق الهواء داخل الكوب، ففي الحال تقلب الكوب فوق المكان الموجوع من الظهر أو الجنبين. تضغط براحة يدها فوق قعر الكوب حتي تلتصق فتحته باللحم. تبقيه هكذا ملتصقا باللحم نتيجة تفريغ الهواء من داخله، ليمتص ما في مسام الجسد من هواء. وحين تنزعه عن اللحم يحدث صوتا كالفرقعة. وقد تلصق بالظهر والجبين مجموعة كئوس وتتركها لبرهة ثم تنزعها واحدا بعد الآخر. بعدها ينهض المريض شاعرا بالخفة والنشاط. قاعتها الجوانية كانت مصدرا للتوجع والتأوهات والصرخات في أحيان بشكل كان يفزعنا، فتندفع بقوة الفضول لنري ماذا يدور. نخالها تفترس مرضاها، فلا نلبث إلا قليلا حتي نفاجأ بأن مرضاها يقبلون يديها في شكر وامتنان. تلك ذروة سعادتها، فتروح ترد علي عبارات الدعاء برفع يديها ورأسها إلي السماء تعترف بفضل الله عليها، فأي شكر يأتيها يجب أن ترده إلي الله الذي منحها موهبة الحكمة والطبابة، والجدير بالذكر أن الحاجة فاطمة لا تتقاضي أجرا علي ما تقوم به من خدمات طبية يعجز عنها حلاق الصحة، فينصح مرضاه.. خاصة أصحاب الأمراض المزمنة.. باللجوء إلي الحاجة نوحاية التي يصفها لهم بأنها أروبة متودكة. الحاجة نوحاية مستورة الحال، لديها أبناء رجال يزرعون في عشرة أفدنة، وفي كل عام يحج واحد منهم أما هي فقد حجت سبع مرات، ولئن كانت ترفض أن تتقاضي أجرا فإنه لا مانع لديها من قبول هدية رمزية شرط أن تكون من مريض ثري: طرحة، ملس، فاكهة من خرج الجناين مباشرة، أفراخ حمام، دكر بط مزغط، قمعين من السكر، باكو شاي، دستة شموع.. إلخ. علي أن أشهر ما اشتهرت به الحاجة فاطمة نوحاية في بلدتنا هو امتلاكها طاسة الخضة، هي الوحيدة في البلدة المكونة آنذاك ــ أربعينيات القرن العشرين ــ من نحو عشرين ألف نسمة، أزعم أنهم جميعا، كبارا وصغارا، يعرفون أن طاسة الخضة لا توجد إلا في دار العكايشة عند الحاجة فاطمة نوحاية التي أصبحت كبيرة الدار بعد موت زوجها عمي الأكبر محمود عكاشة، ولهذا فكل يوم والثاني يزور دار العكايشة وفد نسائي لاستعارة طاسة الخضة من الحاجة فاطمة، وهي تجعل من طاسة الخضة سبيلا إنسانيا تبتغي به مرضاة الله. وتضع أقاربها في الأولوية، ومن بعدهم الجيران، ومن بعدهم جميع أهل البلد، فإن أعارتها لأحد من الأقارب أو الجيران، فبالصلاة علي النبي تكون ضامنة أن الأمانة سترد إليها كاملة غير منقوصة، أما إن طلبها أحد من خارج دائرة الأقارب والجيران، فلابد أن يترك تأمينا يتمثل في شيء غني يساوي أن يكون رهينة بعودة الطاسة، قطعة نحاس، خاتم ذهبي، ساعة جيب.. إلخ. كانت طاسة الخضة مفردة رئيسة في قاموس حياتنا اليومية في البلدة، وكانت تثير فضولي، ولا أزال إلي اليوم أحاول فض سرها دون أن أفلح في استقراء ما وراءها من حكمة يقبلها العقل، هل هي مجرد طقس سحري يقصد به التأثير الإيحائي علي نفسية المخضوض، فيتعدل جهازه العصبي، أم أنها تستند إلي حكمة طبية مدروسة بالتجربة، وذات تأثير عضوي مباشر يختلط بدم المخضوض؟!.. إلي أن جاء يوم احتجت فيه إلي طاسة الخضة كنت في العاشرة من عمري أعشق اللعب مع العيال في الجرن في ضوء القمر، وفيما كنت عائدا إلي دارنا ذات ليلة تولد الخوف في قلبي من البيت المهجور المرتفع أربع طوابق عالية تطرح علي مدخل حارتنا ظلا قائما كئيبا، وقد اعتدت الهرولة المضطربة بمجرد مروري أمام البيت، فإذا بي ليلة ذاك أري ــ أو هكذا توهمت ــ أن أحد الشبابيك الطويلة المهيبة الصدئة نصف مفتوح، تطل منه امرأة يشع منها الضوء، تشير لي بذراعها لبضة البضاء أن أقترب، فما كان مني إلا أن فزعت في صراخ وجري إلي أن ارتميت علي أرض مندرتنا أنتفض، وأكاد ألفظ أنفاسي. عندئذ جيء لي بطاسة الخضة، إنها مجرد طاسة من النحاس الاصفر المصقول، مفرطحة، أقرب إلي شكل الطبق أو الصحن، معها قطعة من حجرأ ملس مجهول الهوية قيل إنه يقتطع من جبل بعينه من جبال المدينة المنورة، وقيل بل من جبل عرفات تحديدا يوضع في الطاسة ملء كوب من الماء المقطر النقي بعد تعريضه للبخور، وبواسطة حجر أملس يتم تحريك الماء في الطاسة بحركة الطحن الدائرية، يتم ذلك بصبر وأناة، ومن عجب أنه بعد وقت يقصر أو يطول يتداخل الماء في بعضه، فيقل حجمه، وتزداد كثافته. يوضع جزء منه في كوب ليجرعه المخضوض دفعة واحدة ليجد أن طعمه مشوب بمذاق حليبي، أما الجزء المتبقي، فيدلق في حلة مملوءة بالماء الفاتر يجب أن يستحم به المخضوض، بغير صابون، المهم أن تغرق المياه كل أنحاء الجسد، وهذا ما أجبرت علي فعله. هل ما أصابني في الحال من تطامن وهدوء أعصاب وجريان ريق، وانتظام في ضربات القلب، وتوازن بين الشهيق والزفير قد تم بتأثير من إيحاء هذه العملية الطقسية السحرية؟ أم أن في احتكاك الماء بهذا الحجر علي وجه التحديد تخلق مادة طبية مفيدة في ترييح، وضبط الجهاز العصبي لمناهضة الشعور بالخوف والرعب؟... ما أحوجنا إلي أبحاث علمية تدرس الطب الشعبي في تواضع وحب وشغف دون الاستعلاء عليه، وهو الاشد عراقة والأعمق خبرة، والأكثر نجاعة في كثير من الحالات، حينئذ قد نكتشف أن علاقة الطب القديم بالسحر لم تكن عبثا، ولا هي محض شعوذة وتخريف. |
|
|
admin معلومات اضافية الجنس : العمل : الاقامة : العمر : 39 عدد المشاركات : 4284 تاريخ الانضمام : 14/05/2009 الدنيا ساعه فاجعلها طاعه | من موروثنا الشعبي "بلا قافية" 20/1/2014, 2:59 pm |
| من موروثنا الشعبي "بلا قافية"
حتي المرح في الثقافة الشعبية المصرية ليس محض عبث، ليس مجرد هزل فارغ من المحتوي، رغم أنه في بعض الحالات قد يبدو كذلك، إنما المرح المصري ــ حتي في صوره الهزلية الفاقعة ــ زبدة الوهج في الخيال الشعبي المنطلق علي التعليقة متحررا من القيود الأخلاقية التقليدية، ومن التحفظات الطبقية بل أحيانا يستهدفها بالسخرية الحادة ليفضح التناقض بين الحفاظ علي المظاهر الشكلية ونقيضها في الخفاء، إن الخيال الشعبي المصري يبدع في الفكاهة بصورة لا مثيل لها بين بقية الشعوب، ولو كان إبداعه في بقية المجالات بحجم إبداعه في الفكاهة لتغيرت أوضاعه، وحسنت أحواله .مع ذلك فإبداع الخيال الشعبي في الفكاهة له في الواقع تأثير إيجابي في المزاج المصري العام، في روح التسامح التي لم نفقدها كلها بعد، في تحقيق حدة الشعور بالفواجع والكوارث، في إزالة الرهبة أمام المواقف الصعبة، في استجلاب الفأل الحسن في التنفيس عن الغضب قبل أن يتحول إلي ضغائن وإحن . ونلاحظ أن العائلات أو التجمعات أو الأحياء السكنية التي يكثر فيها عدد الموهوبين في خفة الظل المسومين بروح الفكاهة تقل فيها الشحناء، ويحدث نوع من التواؤم والتواد والأريحية، ذلك أن روح الفكاهة سريعة العدوي، فتهدأ النفوس ويسود المرح، ويتم التفاهم بالراحة والتعقل، ينفثيء الغضب بكلمة عذبة أو بصورة فنية ساخرة، ففي الحال تنفض المعارك، ويكسب الجميع الصلاة علي النبي. وربما كان جيلنا ــ طفل الاربعينيات من القرن العشرين ــ هو آخر الأجيال التي شهدت السوامر قبل انتشار الراديو، وشهدت المطارحات الفكاهية التي كانت تقام في الأجران، وفي الساحات تحت ضوء القمر، وأحيانا علي مصاطب دور العائلات الكبيرة، أو داخل المنادر، وحينما يحدثنا التاريخ المعاصر أن الثائر الأكبر عبد الله نديم كان أحد فرسان أمثال هذه المطارحات في القرية المصرية أو القري التي كان مختبئا فيها من مطاردات البوليس السياسي، نعرف إلي أي حد كانت المطارحات الفكاهية في الريف والحضر علي السواء هي زاد الناس وقناعهم، يبدع المتطارحون صورا فنية شديدة الغرابة، والتفرد غير معقولة علي الإطلاق، لكن جمالها كله في غير معقوليتها هذه، السحر في غرابة تركيبها بما يخالف الحدس والتوقع، تضحك المستمع، بل تزلزله وترجه، وتفتح وعيه علي روابط خفية بينها وبين ما يحدث في واقعهم اليومي من مواقف وملابسات ومصادمات، فضلا عن أنها تحرك الأخيلة وتشعلها. وحين أعود بذاكرتي إلي تلك الأيام البعيدة من طفولتي المبكرة يتأكد لي أن الصور الفنية العبثية والسريالية الصرفة التي كانت تتدفق في المطارحات الفكاهية، قد لعبت دورا كبيرا جدا ومهما جدا في تنشيط خيالي، وتحريض علي المحاكاة ، لا يقل أهمية عن الدور الذي لعبته قراءاتي المبكرة للسير والملاحم الشعبية، وألف ليلة وليلة وعيون كتب التراث الأدبي العربي التي كانت متوافرة، وبشكل تحريضي أيضا في مكتبة ابن عمي الأزهري. كان للكبار مطارحاتهم المسائية في أماكن متعددة، وكان لنا نحن الصغار مطارحاتنا النهارية التي نقلد فيها ما سمعناه بالأمس وأول أمس وأول أول أمس من صور ذات تراكيب غريبة تبعث علي الضحك. أما مطارحات الكبار فأشهرها وأكثرها شيوعا مطارحة القافية، حيث يختار المتطارحان موضوعا أو ظاهرة يتقافيان حولها، ومن فرط شيوع هذه القافية بين جميع أهالي البلاد شاعت في الحديث اليومي عبارة : بلا قافية، أحيانا تتخلل حديث الشخص الواحد بين كل عبارة وأخري، وكأنه يعتذر لمن يحدثه ــ مقدما ــ عما قد يبدو في كلامه من شبهة المزاح أو التنكيت .شاعت كذلك عبارة : إنت حتخش لي قافية؟ يقولها الشخص في استنكار ليقمع بها شخصا صفيقا أراد هدم الحواجز بينهما، وجعل البساط أحمديا، ولكن، يجمل بنا أن نقرأ تعريفا للقافية في الموسوعة الشعبية لأحمد أمين أحد أهم كبار علماء عصره جمع بين العلم والثقافة، كما جمع بين الثقافة الرسمية والثقافة الشعبية، فتجذر بذلك في أعماق الشخصية المصرية. يقول : "القافية في لسان عوام المصريين نوع من المزاح، يقول أحدهم كلمة، فيرد عليه الآخر بكلمة تثير الضحك، ولكل حرفة من الحرف قافية، فقافية للمزينين، وللجزارين، ولكل شيء، ولذلك يحترسون عند الكلام الجد فيقولون بلا قافية، يريد أنه لا يمزح بل يجد، فمثلا يقولون : رحت له فوجدته واقف بلا قافية، وأعد بلا قافية، ونام بلا قافية، ومن أمثلة ذلك قول أحدهم في قافية النحو : ــ كيسك ــ إشمعني؟ ــ ممنوع من الصرف. ومن أمثلة قافية الحلاقين : ــ إنت في النصب.. ــ إشمعني؟ ــ أسطي. ومن قافية البلدان : ــ لما يصحوك من النوم يقولولك.. ــ إشمعني؟ ــ أبوطور أبوطور ــ إيدك في الخطف.. ــ إشمعني؟ ــ منصورة.. إلخ". ويجب أن ننتبه إلي أن الأستاذ أحمد أمين قد انتقي نماذج مهذبة متحفظة، وفقيرة في الخيال، وفي روح المرح لاعتمادها الذهنية دون التلقائية الخلاقة التي تجعل من التركيب الذهني خادما لسرعة البديهة الصادرة عن حس فكاهي موهوب، بحيث تتدفق الصور الفكاهية وليدة اللحظة لم تخضع لترتيب أو تأليف. ولو تذكرنا مطارحات سلطان الجزار وحسين الفار في برنامج ساعة لقلبك فسنجد فيها النموذج الأمثل للمطارحات المبهجة، بما فيها من ذكاء في التلاعب بالألفاظ لنحت مفردات ذات دلالات ساخرة، وفي بروزة المفارقات والتمهيد للمفاجآت اللاسعة علي أن مطارحات أبولمعة ــ محمد أحمد المصري ــ والخواجة بيجو في البرنامج نفسه كانت خيالا متقدا، كانت صور الفشر المسبوك والمغالي فيه مع الثقة والبساطة في الأداء إبداعا خالصا، وكان أبو لمعة هو أصدق من كذب، لأنه بهذا الفشر الخصيب الخيال قد عبر ــ كاريكا توريا ــ عن هذه الخصيصة في نسبة كبيرة جدا من الشخصية المصرية علي جميع أصعدتها الطبقية والثقافية : خصيصة الفشخرة الكذابة، والنخع، والادعاء لرسم صورة غير حقيقية للنفس في مجتمع ذكي يأكل الأونطة بمزاجه، لقد نجح أبو لمعة بصوره السريالية العبثية التي يفترض أنها مواقف مرت به، وأحداث عاشها بنفسه، وهي المستحيلة تماما، في الزراية بالفشر والفشارين، أأضحكهم علي أنفسهم بتضخيمه لمزاعمه، وضعهم في المرآة في مواجهة مع أنفسهم، وأذكر أيام رواج برنامج ساعة لقلبك أن صار أبو لمعة سلاحا لقمع الفشارين والمدعين والنصابين، إن استمر أحدهم في "النخع" جيء بسيرة أبو لمعة، فسرعان ما يبوخ الدعي، ويشعر أنه مكشوف فيلم نفسه.أما مطارحاتنا نحن أطفال ذلك الزمان، فكانت مسخرة تشعل أخيلتنا تلهمه صورا غريبة علي غرار ما نسمعه من الكبار الأذكياء الملهمين. كان الدخول في قافية علامة علي الذكاء، ودليلا علي الطلاقة واللباقة وصحوة البديهة، بل كان تدريبا علي تنشيط وتنمية البديهة، وتدريبا علي ركوب متنه الخيال، فالولد الذي يتقافاك سيتفنن في رسم صورة لك أو لأهلك... تضحك العيال كلهم حتي لو كانوا أصدقاءك، فلابد إذن أن تكون صورك أنقح منه. كان ذلك يتم بين الفسح، خاصة فسحة الغواء في المدرسة يغتاظ الواحد منا إذا أدركه جرس الحصص قبل أن يرد علي ما ناله من سخرية. حدث لي هذا ذات يوم، فمن فرط غيظي وانشغالي في تأليف صور ساخرة وضعت الكراسة فوق ركبتي تحت درج التختة، ورحت أدون كل ما يخطر علي بالي من صور، فيما المدرس مندمج في الشرح رايح جاي بين صفوف التخت، فاستراب فيما أفعل، فتمهل خلف ظهري ناظرا من فوق كتفي، وقرأ ما كتبت، فما دريت إلا ويده الغليظة تطبق علي قفاي، فترفعني واقفا، ثم تجرجرني إلي جوار السبورة... وأمرني أن أدير وجهي للحائط، وأنتظر ثم خرج مسرعا، ثم عاد بعد قليل مصطحبا حضرة الناظر، ثم شخط فيّ وأمرني بأن أقرأ علي حضرة الناظر ما كنت أكتبه، وهو ينبح في شرحه، ركبني الذعر، فتسمرت، فلسعني بالخيزرانة، فحزمتني الضربة فصرخته، فصرخ هو الآخر : إقرأ يا حيوان، فصرت أتوجع، وأتألم وأبكي : ــ إهيء...!.. ــ إقرأ... ــ إ... أبوك نزل بلاص المش ابتلعته دوده. ــ إقرا... كمان.. ــ إهيء.. !... أبوك وقع في لمبة الجاز طلع متعلق في الشريط. ــ حلو! إقرأ... إقرأ ! ــ إهيء... أبوك بياكل حاف والفسيخة متعلقة في شنبه. ــ إ... ــ كفاية! .. امشي يا واد هات ولي أمرك وتعاي. هكذا صرخ الناظر في غضب، موجها إلي المدرس نظرة كبرياء جريح، ثم صفعني علي مؤخرة رأسي بأطراف أصابعه، وخرج، فخرجت مهرولا وراءه أحتمي به من غدر المدرس الواضح في عينيه .أغرب ما في الأمر أنني انتظرت الولد خارج المدرسة لاستئناف المطارحة!. |
|
|
admin معلومات اضافية الجنس : العمل : الاقامة : العمر : 39 عدد المشاركات : 4284 تاريخ الانضمام : 14/05/2009 الدنيا ساعه فاجعلها طاعه | عاشـــق الربــاب 20/1/2014, 3:01 pm |
| عاشـــق الربــاب
كان صادق ابن عمي الأكبر محمد عكاشة من ألمع شخصيات طفولتي المبكرة طوال عقد الأربعينيات من القرن العشرين، ورث أبوه عن جدي ثلاثة أفدنة، وبعد موته عقب جدي بأشهر قليلة تم توزيع الأفدنة الثلاثة علي إخوة وأخوات من زيجات متعددة، فنال صادق منها نصف فدان. لكنه لم يكن له في الفلاحة فترك نصف الفدان لأخيه الشقيق طاهر يزرعه ويفلحه لقاء النصف من كل محصول. غير أنه طوال عمره لم يحدث علي الاطلاق أن تقاضي مليما واحدا أو أي شيء من محصول نصف الفدان. وذلك بسبب ارتحالاته التي لا تنتهي الا لتبدأ بعد وقت يقصر أو يطول. وفي كل عودة من كل رحلة تشهد مندرتنا حوارا غاية في الطرافة بينه وبين أخيه طاهر في حضور علية القوم، اعتمادا علي أن أبي ـ وهو أصغر إخوته الذين رحلوا جميعا فأصبح كبير الدار مع أن أولاد إخوته فيهم من هو أكبر منه سنا ـ سوف ينتصف له من أخيه طاهر، في حين أن أبي ـ والحضور جميعا ومن بينهم صادق وأخوه طاهر ـ يعلمون بادئ وذي بدء وعن يقين أن المشكلة غير قابلة للحل، بل لعلها في أنظارهم ليست بمشكلة من الأساس. مع ذلك لا تمر ليلة الا ويعاد طرح المشكلة ـ واسمعوا ياناس ـ من صادق أو من طاهر، أو ربما من أحد الحضور العابثين دائمي البحث عن نكتة جديدة أو حدث عارض يصنعونها منه، ولكن فيما كانت رحلات صادق التي تطول أحيانا إلي ثلاثة أشهر؟.. رحلاته كانت ارتحالات عاشق مدنف. لقد وقع في هوي محبوب اسمه السيرة الهلالية. قصة الحب تلك بدأت وهو صبي في الخامسة عشرة من عمره في منتصف ثلاثينيات القرن العشرين، حينما كانت مندرتنا في أوج تألقها والعائلة مكتملة في رغد من العيش، تستضيف مشاهير الصييتة وقارئي القرآن. وكان من ضيوفها الدائمين واحد من شعراء الرباب اسمه حامد ندا، كان حسن الصوت قوي الحنجرة كصالح عبد الحي ومحمد عبد المطلب، وكان متخصصا في السيرة الهلالية بالرواية الشفاهية السردية يتخللها نظم شعري متدفق. يصفه أبي بأنه كان موهوبا في التمثيل كيوسف وهبي ونجيب الريحاني وعلي الكسار، ليس يحكي فحسب بل يتكلم بلهجات الشخصيات ويتقمص حالاتها الانفعالية والسلوكية، فالفارس فارس والبربري بربري والخادم خادم . كل ذلك دون أن تتوقف الرباب عن نثر لمرطشات نغمية بهيجة ومخيفة أحيانا كموسيقي تصويرية لما يرويه سردا تمثيليا، تجاوبه من خلفه بطانة من ثلاثة عازفين علي الرباب إضافة إلي طبلة (دربكة) ورق وناي، وهم في نفس الوقت ذوو أصوات حسنة يرددون خلفه الترجيعات، وعندما يسخن وتنشد الأوتار تعتري الكون كله حالة رقص بهيج، وتتحول كل النفوس ـ يقول أبي ـ إلي حالة من الشفافية كأنهم جميعا أسراب حمام يتأهب للطيران بين لحظة وأخري، وعلي يد حامد ندا تتلمذ الكثيرون ومنهم سيد حواس وسيد فرج السيد وغيرهما، وهذان فقط حظيا بالشهرة لأن حظهما المحدود وضعهما أمام الراديو في بداية بثه الرسمي وهما بعد في ريعان الشباب. صادق ابن عمي ـ كما دون في ذاكرة العائلة وأدبياتها ـ لبد في قفا الريس حامد ندا. كان سريع الحفظ والترديد لما يحفظ. وذات ليلة كان منوطا به أن يصب الماء من الإبريق النحاس علي يدي الريس ندا بعد تناوله العشاء. فضبط له الطشت وقدم له الصابونة وأقعي أمامه يصب الماء في بطء وروية فيما أخذ صوته يترنم بما حفظه من ألحان الهلالية. دهش الرجل من حساسة أذنه الموسيقية ومن جمال صوته لدرجة أنه انتهي من غسل يديه وبقي مقعيا يتمايل برأسه في نشوة مع غناء صادق. ثم هب واقفا يسحب الفوطة من يد صادق هاتفا: الولد ده موهوب! الولد خسارة... باسم الله ما شاء الله! تشتغل معايا يا ولد؟. الواقع أنه لم ينطق بحرف، إنما الذي أجاب في الحال هو جموع الحاضرين في المندرة حيث هتفوا جميعا في نفس واحد: يشتغل! كأنهم كانوا علي اتفاق، وكأنه عروس بائرة جاءها عريس الغفلة، حيث أضاف بعضهم: خده معاك من الليلة. اعتبرها صادق مزحة، لكن الرجل سحبه من يده وأجلسه بين بطانته قائلا في حسم: غدا تتعلم العزف علي الرباب. فإذا به يفاجأ بصادق يقول: أنا تعلمته بالفعل! كيف؟ ومتي وأين؟ علي يد من؟ كل ذلك رد عليه صادق بجملة واحدة: كنت أصنع من نسائر البوص ربابا بوتر واحد، وقوسا، وللرباب صندوق من ورق علب السجاير السميك ألعب فيه بالتقصير واللصق حتي يصير محكما لا يدخله الهواء، وأعزف عليه هكذا.. عن إذن الريس.. وأخذ منه الرباب وصار يعزف كأي محترف لا ينقصه إلا المران وتنعيم الأصابع، عزف ألحانا شائعة، آنذاك مثل: طلعت يا محلا نورها شمس الشموسة. عندئذ هتف الرجل: وديني وما أعبد ما أنا سايبك! أنت لقطة نادرة. وهذا ما قد حدث بالفعل.. تكفل الرجل بإيوائه في منزله في مدينة دسوق، وبأكله وشربه وكسوته ضمن عياله، وربنا يرزقنا برزقه. في العادة يمكث مثل هذا الضيف من ثلاثة إلي أربعة أيام قد تمتد أحيانا إلي أسبوع. فالمشوار سفر بالركايب إلي بلدة شباس الشهداء مسيرة عشرة كيلو مترات من بلدتنا. ومنها يركب الضيف القطار إلي مدينة دسوق.بعد حوالي شهر جاء صادق ليقضي عيد الفطر في وسطنا فإذا هو رجل محترم مرفه نظيف علي الدوام وفي جيبه نقود يوزع منها علي عيال أخيه وعيال الدار كلهم، ويشتري البط والدجاج والحمام لتطبخ زوج أخيه ويأكل العيال. وحين أتي الريس حامد ندا في العام التالي في زيارة لمندرتنا بمناسبة عودة عمي محمود من الحجاز كان صادق هو المساعد الأول للريس حامد، يبدأ هو الحفل بغناء بعض المواويل الحمراء، فيهييء المستمعين من ناحية ويسخن الفرقة من ناحية ثانية ليبدأ الريس حامد وصلته والجميع في حالة انسجام كامل. وعلمنا أنه ينال نسبة محترمة من الإكراميات والنقوط الذي ينهال علي الفرقة طوال السهرة لتحميسها وبث الحيوية فيها. عشر سنوات كاملة وصادق ابن عمي يرافق الريس حامد ندا في جميع سهراته في جميع أنحاء بلاد الدلتا. أصبحت زياراته لبلدتنا أشبه بعيد تظهر آثاره في دارنا وفي شارع العكايشة كله ممثلة في أكياس "حب العزيز" اللطيفة المصنوعة من الخوص الملون معبأة بذلك الحب البناتي اللذيذ الطعم تقرشه الأسنان بسهولة وشهية. ويتم توزيع أحفنة من الحمص وقبضات من الحلوي الصلبة علي جميع بيوت العائلة. لكن ذلك العيد لم يدم طويلا. فقد صحونا ذات يوم ـ وعمري آنذاك تسع سنوات ـ علي تليغراف جاء به مخصوص من مكتب شباس الشهداء يبلغ أبي ـ الذي لم يبق سواه من أبناء جدي ـ أن الريس حامد ندا "تعيش أنت". فسافر وفد من أبناء عمومتي يتقدمهم أبي حيث قدموا واجب العزاء ثم إنهم عادوا ومعهم صادق الذي جاء مصطحبا ربابته الخاصة التي كان يعتز بها ويدللها ويزينها بزخارف وينيمها في علبة خشبية مبطنة بالقطيفة صنعها النجار تحت إشرافه وكتب عليها اسمه وإسمها، لقد أخفاها: الجازية. ويبدو أنه كان مغرما بشخصية الجازية دون شخصيات الهلالية لسبب لا يعرفه إلا هو. وفي ذكري الأربعين كانت مدخراته قد نفدت إلا قروشا قليلة سجنها في محفظته ليستعين بها علي السفر. وبالفعل سافر إلي دسوق واتفق مع فرقة الريس حامد ندا علي أن تعمل معه، وأن تظل تحمل اسم فرقة الريس حامد ندا خادم السيرة الهلالية. ولقيت الفرقة نجاحا لمدة عام وبعض عام كان صادق خلالها يبيت في لوكاندة يني ليلا، وفي النهار يقلب رزقه كبائع في محل عطارة كبير شهير، لأن الحفلات لم تكن تأتي إلا كل حين إن طال أو قصر يبقي محصولها قليلا لا يقيم الأود. أما لماذا اختار محل العطارة بالذات ليشتغل فيه بائعا فالسبب يرجع إلي زمن كان فيه يروح المدرسة الأولية حيث خلبته مكتبة أخيه غير الشقيق علي ابن عمي محمد عكاشة حامل عالمية الأزهر الشريف وكانت مكتبة حافلة أنيقة تحتل غرفة بأكملها في دواليب ذات أبواب زجاجية، فكان أسبق مني في الانبهار بها والتقليب في كتبها والتطوع بمساعدة الشيخ علي في الإتيان بالكتاب الفلاني من الرف الفلاني. وقد عثر في قاع أحد الدواليب علي ملازم مطبوعة طبعة بدائية علي ورقة أصغر من كتاب لعله [الحاوي في الطب المداوي] لأبي بكر الرازي أو شيء من هذا القبيل، المهم أنه منذ ذلك الوقت بدأ يهتم بالأعشاب والنباتات العطرية باعتبارها تتضمن في تكوينها الإلهي سر الحياة والموت. حسنا فعل بانتمائه لمهنة العطارة. ذلك أن عقد الخمسينيات من القرن العشرين كان بداية استقرار جهاز الراديو في بيوت أعيان القري ومقاهي المدن ومحلاتها، فأصبح الراديو مصدر التسلية والثقافة معا، فبدأ الكساد يغزو مهنة الحكواتي وشاعر الرباب، وكلاهما كان له مقعد ثابت في كبريات المقاهي فضلا عن السهرات الخاصة التي يقيمها الأهالي في بيوت وسرادقات. شيئا فشيئا بدأ كل ذلك ينقرض، ولكنه قبل أن ينقرض تماما كان صادق بن عمي قد أصبح عطارا مستقلا، يحمل خرجا ملآنا بأصنافها علي كتفيه يجول به بائعا سريحا في القري والكفور البعيدة. |
|
|
admin معلومات اضافية الجنس : العمل : الاقامة : العمر : 39 عدد المشاركات : 4284 تاريخ الانضمام : 14/05/2009 الدنيا ساعه فاجعلها طاعه | وهج خيال سريح 20/1/2014, 3:02 pm |
| وهج خيال سريح
إنه هو الذي ساعدني علي اكتشاف الخيال منذ تلك اللحظة التي بدأت فيها فك الخط والانفتاح علي القراءة رحلات صادق ابن عمي كان لها أعمق الأثر في طفولتي وصباي. فقبل أن أقرأ السير الشعبية كان وجداني مزدحما بالغناء، أيامي كلها غناء في غناء، وذلك بفضل جهاز الجرامفون الذي ورثه أبي ومعه ما يقرب من أربعة آلاف اسطوانة مرفقة في أربعة صناديق كرتونية سميكة صلبة، وكل اسطوانة مدسوسة في جراب من الورق المقوي في وسطه دائرة فراغية تكشف دائرة ملونة مطبوعة فوق الاسطوانة ذاتها مكتوبا عليها بيانات باسم المؤلف والملحن والمطرب والشركة المنتجة، وصحيح أن أبي كان معتكر المزاج علي الدوام نتيجة للهزة الطبقية التي تعرض لها انتقل بتأثيرها من اليسر الكامل إلي العوز الكامل، ولم يكن يدير الجرامفون إلا في أوقات متباعدة تحت ضغوط من أصدقائه رفاق السهرة اليومية في المندرة حول منقد النار وزردة الشاي المطاطة بغير نهاية كلما احلو الكلام وتفتحت المواضيع، سيما وكل المواضيع حميمة مؤنسه بزاد من الذكريات الدافئة بما فيها من زخم فكاهي يقطر عبرة وحكمة وأمثالا، إلا أنني كنت أنتهز فرصة غيابه خارج الدار وأدير ما أشاء من الاسطوانات تحت إشراف ورقابة أمي أو عمتي رقية التي كنت أشعر بأنها تتواطأ معي لإشباع شغفها بالطرب والموسيقي، وكانت تخلع النفير حتي يظل الصوت خافتا، وفوق ذلك تغلق باب المندرة لأن الصوت بمجرد ظهوره سيلم العيال حول المندرة، وكل مار من الشارع سوف يتوقف لاصقا وجهه بحديد الشبابيك ليعزز الإستماع بالفرجة علي هذه الأعجوبة التي أثبتت أن الحديد قد نطق وهذا في انظار أهل بلدتنا نذير باقتراب يوم القيامة. ولئن كان الجرامفون ــ أو الحاكي ــ أعجوبة في أنظار أهل بلدتنا قادمة من خيالات ألف ليلة وليلة المليئة بأزرار يدعها المرء فتقلب الدنيا كلها رأسا علي عقب وتقام الأعراس والقصور والأفراح في لمح البصر فإن صادق بن عمي كان في نظري هو الأعجوبة الأكبر. ذلك أنه منذ أشتغل عطارا سريحا يجوب العزب والكفور والبلدان حاملا علي كتفه خرج ملآنا علي الجانبين بمئات من علب وقوارير وقينات وقراطيس وبكرات من الدوبارة، تفوح منه مدينة شرقية بأكملها من روائح نفاذة بعضها شرس وبعضها لطيف، بعضها منفر وبعضها جاذب، أصناف ذات أسماء معقدة، ناهيك عن الشطة والكمون والفلفل الأسود والشيح والينسون والقرفة وحلفاء البر، وورق العنب والجميز والكافور وقشر الرمان لعلاج الصدفية. يدهشني كيف اتسعت ذاكرته لاحتواء مالا يقل عن خمسمائة صنف مرتبة في خرجه ترتيبها في ذاكرته، يمد يده في جوب الخرج ليمسك بما يطلبه دون عكرشة أو قلقلة. هذه هي السلمكة المطحونة، بكم تريدين ياحاجة، بمليم، إتنين مليم، ببيضة، بحفنة قمح، ببضعة كيزان من الذرة، برغفين وقطعة جبن، كله ماشي. إن العملة التي يتعامل بها واسعة. معه جوال احتياطي فارغ يعبيء فيه محصول البيع، إن امتلأ يحمله علي الكتف الأخري، وإن جبره الله فوق ذلك بملاليم وقروش استأجر ركوبة توصله إلي أقرب محطة قطار يوصله الي مدينة دسوق أو طنطا أو كفر الشيخ أو الزقازيق ليتزود بالبضائع التي أوشكت علي النفاد. شهران ثلاثة علي الأكثر ونفاجأ به ليلا ــ دائما ليلا ــ يدلف من باب المندرة، يسبق خياله تعكسه اللمبة الكبيرة المعلقة في السقف بجنزير وثقالة كالنجفة، يفاجأ الجالسون بشبح من الظل يزحف علي الأرض محني القامة تحت خرج منطرح علي كتفه الأيسر من الجانبين، ويتأبط بذراعه اليمني جوالا مزموم الشفة تحت رباط معقود. ثم يدخل هو نفسه في أعقاب الظل فلا يكاد يظهر ثمة فرق بينهما. السلام عليكم!.. أو هوووووه.. هكذا يهتفون في نفس واحد له زئير حميم علي نغمة ترحيب تغني عن كثرة الكلام بأن تصر الشوق الحقيقي في صرة صوتية تشف عنه. علي هدهدتها يميل علي يد أبي فيطبع علي ظهرها قبلة، ثم يعتدل هاتفا: إزيك يا أبا أحمد. ودون أن يستمع إلي رد أبي يروح يسلم علي الجالسين واحدا واحدا في اشتياق وحرارة لو كانت أمي نائمة فلا بد أن تصحو علي ضجة الترحيب، ولابد أن تدرك أن صادقا هو الذي جاء وليس ضيفا آخر ــ عندئذ تنهض قاعدة، تبدأ التفكير في بيضتين مقليتين أو بقايا طبق خبيزة يسند به الرجل قلبه المسكين العائد من سفر يهد حيل الجبال. عندئذ كذلك تعلمت أن أكون أسبق منها في الصحو وفي الاندفاع خارجا من القاعة إلي المندرة لأتقرفص بجوار أبي علي الكنبة. يطير النوم من عيني في الحال، عيناي المفنجلتان مصوبتان علي وجه صادق الذي أنزوي في ركنه المعتاد ساندا الخرج والجوال بين الكنبتين المتقاطعتين. قلبي يخفق ودماغي متحفزة لكل حرف سينطق به صادق. لسوف يحكي عن رحلته كل طريف وغريب ومثير وباعث علي القهقهة الصافية لوجه الضحك النادر المشتهي، الضحك علي ما يضحك بالفعل ويهز النفس هزا. مدن وقري وعزب وكفور ترن أسماؤها في فخامة ككائنات حيه، نساء عجوزات هتماوات شريرات وأخريات العكبانيات يلعبن بالبيض والحجر، رجال تعساء وبكوات بخلاء وعمد هزأة، حمير وبغال وجمال وقطارات وعربات كارو واتومبيلات، سينما، موالد، المشهد الزينبي والمشهد الحسيني والمشهد النفيسي.. الخ الخ. كان بالنسبة لي موازيا لكتاب ألف ليلة وليلة. هكذا اكتشفت بعد أن تعلمت القراءة مبكرا في كتاب القرية وقرأت ألف ليلة وليلة فخيل إلي أنها تقلد حكايات صادق ابن عمي. إنه هو الذي ساعدني علي اكتشاف الخيال منذ تلك اللحظة التي بدأت فيها فك الخط والانفتاح علي القراءة بشغف شبه مسعور. أردت أن أكون صاحب تجارب وحواديت لاتنتهي مثل صادق ابن عمي. وقد اكتشفت الخيال من حواديته لا من القراءة ذلك أنه كان يروي الحكاية الواحدة عشرات المرات في عديد من السهرات بين أنواع متجددة ومختلفة من المستمعين الشغوفين. وكنت ألاحظ كيف أن التفاصيل الدقيقة تنضج وتتضح في الحكي من مرة إلي أخري حسب إشعاع الجمهور المستمع إذ يكاد يشاركه بالإيحاء في إنضاج التفاصيل، يكاد يوجهه إلي الخطوط التطورية لهذه التفصيلة أو تلك: كيف اشتعلت النار في تلفيعتك؟ ماذا حدث لك عندما طب عليك زوج الهانم التي استدرجتك للدخول وهي شبه عارية؟ عد بنا إلي أول الحكاية عندما صحوت من النوم فجأة فوجدت نفسك عاريا كما ولدتك أمك مرميا في العراء علي قارعة الطريق دون خرجك وجوالك؟.. إلخ.. ليلة بعد ليلة كان الجمهور هو الذي يطلب منه حكاية موقف بعينه من الحكاية الفلانية. عندئذ يصل إلي ذروة عالية من التوهج والتركيز فيعطي الموقف حفنة من الأثارة والتشويق، لا لمجرد الإثارة والتشويق بل تبعا لمغزي أخلاقي أو إنساني إرتآه عبر مرات الحكي وتشبع به فجعل من حكايته تلك إطاراً فنياً له. كنت أرتب حكاياته في ذهني وأصنفها تبعاً للبلدان التي وقعت أحداثها فيها، وأحيانا تبعا لعدد البطلات النساء ما بين عجائز شريرات وأرامل تعيسات وزوجات شهوانيات فارغات العين، وأحيانا ثالثة تبعاً للرجال المتعنترين شكلا كالفتوات وكيف يلجأون إليه في السر لكي يدبر لهم وصفه من العطارة تقوي الباه عندهم، وأحيانا رابعة بعدد لصوص الأسواق والشوارع والحواري وجميعهم بلا قلب يسرقون شقيانا مثله، ناهيك عن النصابين والمحتالين وأبناء الليل الذين كانوا يتسترون به ــ تحت تهديد المطاوي ــ للقيام بعمليات سطو ونهب لولا ستر الله لراح هو ضحيتها. ولما وجدت حكاياته عصيبة علي التصنيف اكتفيت بدرس عميق تعلمته من حكاياته وهو أن الخيال لا يعني تأليف شيء من العدم، أو تخيل عالم بأكمله من الفراغ، إنما الخيال هو عمق الإحساس بالتجربة المعاشة سواء عاشها المرء بنفسه أو عايشها عن كثب. إن الخيال عن الخبرة بالتفاصيل وبكيفية استخدامها ضمن نسيج كلي. وقد كانت حكايات صادق ابن عمي تبدو في أول حكي لها أشبه بالخساية العريضة النافشة. ومرة بعد مرة في ليلة بعد ليلة يتم نزع الأوراق الخارجية الشائخة الشائطة، وتأكل الليالي الأوراق الطرية، حتي لايبقي من الخساية سوي قلبها الندي الأبيض بأوراقه البرعمية الجنينية كأنه شفرة الحياة وسرها .. وكانت براعة صادق تتجلي هاهنا، بوعي فطري عبقري يمسك بقلب الخساية ويركز عليه باعتباره المغزي الأهم من الحكاية نفسها، ثم يبدأ به حكاية جديدة تعزف علي وتر نفس المغزي.. وهذا هو الخيال كما علميه. |
|
|
admin معلومات اضافية الجنس : العمل : الاقامة : العمر : 39 عدد المشاركات : 4284 تاريخ الانضمام : 14/05/2009 الدنيا ساعه فاجعلها طاعه | شهيد الحنظلة 20/1/2014, 3:02 pm |
| شهيد الحنظلة
كل افراد عائلة العكايشة ـ ناهيك عن أهل بلدتنا جميعا ـ يحبون صادق ابن عمي ويأنسون إليه. وإذا مر علي جماعة فوق مصطبة وقال : سلام عليكم، قوبل بحفاوة لا تقل عن الحفاوة التي يحظي بها أي واحد من علية القوم، ليس فحسب لأنه يحمل اسم عائلة كبيرة ذات تاريخ طويل من العزة والجدعنة، بل لأنه هو نفسه شخصية جاذبة حتي وإن كان رث الثياب غير حليق. ولسوف يقدمون له واجب الضيافة من زردة الشاي التي لا تتوقف عادة في مثل هذه القعدات العائلية. ولسوف يستدرجونه في الحديث بصنعة لطافة ليتوهج ويحكي، يحكي أي شيء، فأي شيء يحكيه سيكون مسليا ومفيدا، قد يتضمن وصفات من أصناف العطارة لعلاج الكحة ووجع الظهر وآلام المفاصل والبول المتعثر ولتقوية المياه وطرد السم من الجسد.. إلخ.. إلا الحاجة فاطمة زوجة عمه محمود لم تكن تأنس إليه وإن أظهرت خلاف ذلك. وأصغر أبناء العكايشة ـ بل كبارهم ـ يعرفون أنها تخفي امتعاضا من وجوده في الداروربما في البلدة كلها. ذلك أنه قد بات ينافسها عن جدارة في تقديم وصفات العلاج بالأعشاب والنباتات، دون أن يطلب أجرا، بل دون أن يرغمك علي شراء العطارة منه. فإن شربتها منه أعطاك القدر المطلوب للعلاج فحسب، وقد يتردد في طلب ثمن البضاعة، فإن اعطيته له دسه في جيبه دون أن ينظر فيه. وفي معظم الأحيان يرد يدك عن جيبك قائلا إن الشيء الذي أعطاه لك لا يساوي ثمنا. والحاجة فاطمة لم تكن تقدم وصفات بل تقوم بتصنيع الوصفة بنفسها إن كانت خلط أشياء بأشياء أو تذويب أشياء في كوب ماء أو غلي شيء علي النار حتي يحدث له كذا وكيت.. إلخ ثم إنها لا تأتي بسيرة أصناف العطارة التي تصنع منها الدواء، يكفيها أن تقول للمريض: هذا دواؤك فخذ منه رشفة علي ريق النوم أو بعد الأكل أو قبله، أو تدعك الجزء الموجوع من جسدك بمرهم أو زيت ومثلما يستسلم الرضيع لأمه كي تعطيه اللحوس في سقف حنكه أو اللبوس في فتحة شرجه، يستسلم لها المريض فتعطيه الحقنة الشرجية دون أن يعرف إن كانت محلول صابون أو زيت خروع. أما صادق فيعطي الوصفة بمكوناتها ويشرح لك ـ باستفاضة ـ كيف تحولها إلي دواء وكيف ومتي تتناوله. وصفاته كانت دائما غريبة ولا تخطر علي بال أحد . بواحدة من هذه الوصفات الغريبة العجيبة استطاع أن يكسر أنف الحاجة فاطمة فشهد لصالحه علي مرأي ومسمع من الدار كلها. فقد أصيب ابنها عبداللطيف ـ وهو الأثير عندها دون إخوته مع أنهم جميعا رجال أشداء وشجعان ـ بوعكة صحية أرقدته الفراش ثلاثة أيام حتي انزعج جميع من في الدار لأن عبداللطيف هو محور دولاب العمل في فلاحة الأرض. كان قد صار عاجزا عن التقاط النفس إلا بصعوبة، وصدره يزيق مثل مفصلات باب صدئه، ويكح كحة خشنة تكلفة عناء شديدا. عندئذ توترت الدار بسبب عناد الحاجة فاطمة التي قدمت كل مالديها من خبرات في دعك صدر ابنها بالزيت ووضع جرنان تحت الفانلة وكلفتته بالحزام الصوف، فضلا عن أخذ كاسات الهواء، وكان صادق يراقب كل ذلك ويبتسم في شعور بالمرارة تارة وبالاستهانة تارة أخري. كان من الواضح أنه يقمع رغبته في الكلام وفي التدخل في الأمر من أساسه تحسبا لعناد الحاجة فاطمة التي رفضت رفضا قاطعا استدعاء حلاق الصحة الذي تعتبره تلميذا بالنسبة لها. إلا أن أبي حفزه علي التدخل وقال له بما يشبه الأمر الحاسم : سيبك من مرات عمك يا صادق وشوف تقدر تعمل إيه لابن عمك عشان يقوم. وكأنه كان في انتظار هذا الأمر، قام في الحال يشرح الأمر لأبيه قائلا إن الجوزة التي يشربها عبداللطيف ليل نهار قد رصفت صدره بالقطران فصارت رئته مثل أسفلت الطريق، وقد تعرض لنزلة برد شديدة جعلت القطران يجف ويتصلب، وأن أول شئ نفعله الآن هو تزويده بأكواب من الليمون المغلي، والينسون والكراوية والتليو. ولما كان أبي هو الوحيد الذي لا تراجعه الحاجة فاطمة باعتباره كبير الدار حتي وإن كان أصغر منها سنا، فقد انتقل إلي قاعة عبداللطيف وأشعل وابور الجاز وراح يجهز كل هذه المشروبات تباعا وأخذ يسقيها لعبداللطيف حتي بدأت صفائح القطران تتشقق وكان صوتها أشبه بصوت من الكريك وهو يغوص في أرض صلبة ثم جيء بصفيحة سمن فارغة قديمة وضعت أسفل السرير لتتلقي بصاقا أسود علي أزرق مثل فتافيت من جبال من البلغم لاتنتهي عندئذ راق صدره بعض الشيء ورجع لون الدم إلي خديه. قال أبي: ليتنا فعلنا ذلك من الأول. وقال صادق: لكأننا الأن قمنا بتطهير مصرف ! وفي الليل سأعطيه العلاج الناجع. قال أبي : ما العلاج؟ قال : سوف تري وحينما جاء الليل كانوا جميعا في شغف لرؤية هذا العلاج. فإذا بصادق يعطي عبد اللطيف حفنة صغيرة من الحلبة الحصي قال له: سفها! ابلعها دون مضغ. وأعطاه ملء ملعقة من الماء يستعين بها علي الإبتلاع قال عبد اللطيف : لقد انحشرت الحلبة في حلقي. قال صادق : هذا هو المطلوب، لا نريد أن تنزل الحلبة إلي أمعائك ! نريدها أن تبقي في الحلق وفوق الرئة! قال عبد اللطيف : وما الحكمة؟ قال صادق : ستنام أنت بعمق: وفي صباح الغد ستكون الحلبة الحصي قد استقرت مكانها وزرعت ومددت خيوطها فتمتص الرطوبة وكافة السموم وتفتك بها! ويتحلل القطران شوحت الحاجة فاطمة بيدها ساخرة في استهجان، وتبسم أبي كأنه يتواطأ مع استهجان الحاجة فاطمة وانزوت بسمة عبد اللطيف في ركن فمه ساخرا من نفسه علي استسلامه لهذه الجنونيات لكنهم جميعا في ضحي اليوم التالي صفقوا كفا علي كف من الدهشة المذهلة حينما رأوا عبد اللطيف ينهض ليشحم ويرتدي ثيابه ثم يجلس علي المصطبة أمام الدار يتعجل تسوية الغذاء وقد أصر علي أن يقاسمه صادق دكر البط الذي قدمته إليه زوجه عند الغذاء. العطارون في ذلك الزمان هم ورثة الحكماء القدامي وكان لايزال هناك بعض شيوخ من العطارين في مختلف المدن صامدين أمام تحدي الطب العلمي الحديث لهم كان الواحد منهم بمثابة طبيب وصيدلي معا، يستمع إلي شكوي المريض ويسأله عن مصادر الألم فيه، ثم يسأله بعض أسئلة استفهامية: هل تشعر بكذا عند النوم؟ عند الأكل؟ عند التبول؟ هل تقوم من النوم شاعرا بكذا؟ وهل تشعر بمغص؟ بغثيان؟ بنشر في المفاصل والساقين. وبناء علي ما يتلقاه من إجابات وبشيء من النظر في العينين وفي الوجه يصنع له تركيبة دوائية من أصناف العطارة المتوافرة في محله الكبير. العطار الذي عمل معه صادق في شبابه كان واحدا من أولئك الحكماء بالوراثة ومنه تعلم صادق معظم الأوصاف والتركيبات الدوائية مرتبطة بالكثير من الأمراض الشائعة بين عموم الشعب المصري. ومن بين الحالات التي احتفظت بها ذاكرته حالة فلاح كان هزيل البدن شاحب الوجه مع أنه لايكف عن الأكل ليل نهار لدرجة أنه يصحو من عز النوم ليأكل لقمة يستأنف بعدها النوم. ولكن جسده لايستفيد مطلقا من هذا الطعام المتواصل وبعد الفحص والاستفهام أخبرت الحكيم أن في بطنه ديدانا متوحشة تلتهم طعامه أولا بأول فكأنه لايأكل . وقدم له الدواء الذي شارك صادق في إعداده، كان عبارة عن حنظلة في حجم برتقالة والحنظل شديد المرارة، تم عصرها وغلي العصير علي السبرتاية وتعبأته في زجاجة بعد تصفيته بقماشة من الشاش الأبيض تحتجز التفل والشوائب والبذور، ويتعين علي المريض أن يشرب منها جرعات علي ريق النوم، وأن يتبرز في قصرية ليري ما إذا كان البراز طبيعيا أم فيه اختلاف ! في اليوم الثاني جاء الرجل حاملا علبة من الصفيح ملآنة عن آخرها بديدان طويلة كبيرة من خيوط تخينة ؟ وتداخلت رءوسها في أذيالها. وذات يوم ..وكان قد جاوز الخمسين من عمره ـ شعر صادق بنفس الأعراض التي عاني منها ذلك الرجل. كان يأكل في اليوم عشرين مرة ولكن جسده مع ذلك يزداد هزالا ويفقد العزم والحيوية فلم يتردد، اشتري الحنظلة، سلمها لواحدة من فتيات الدار وشرح لها كيفية عصرها وغليها وتصفيتها و.. هل كانت الحنظلة معطوبة؟ هل الوعاء الذي عصرت وغليت فيه كان ملوثا؟ هل القماشة المصفاة لم تكن نظيفة؟ الله أعلم، ولكن صادق ما إن تجرعها علي ريق النوم حتي كركبت بطنه وانتفخت وصارت كالطبلة المشدودة الجلد، وراحت تصبح بصخب هائل من الأصوات القبيحة ارتمي علي الأرض يتلوي من الألم زوجة عمه الحاجة فاطمة هرولت إلي دولا بها تعكرش فيه بحثنا عن شيء تسعفه به. وأخوه جري ليستدعي حلاق الصحة. وأمر عبد اللطيف أن يأخذه علي الركوبة إلي مستشفي المركز، لكنه كان أسبق من الجميع في المغادرة، سرعان ما سكتت الحركة في جسده وترهلت أطرافه وتجمدت النظرة في عينيه . كنا في الضحي، وبعد صلاة العصر كانت بلدتنا بأكملها تنتحب وهي تودعه في موكب مهيب إلي مثواه الأخير. |
|
|
admin معلومات اضافية الجنس : العمل : الاقامة : العمر : 39 عدد المشاركات : 4284 تاريخ الانضمام : 14/05/2009 الدنيا ساعه فاجعلها طاعه | نبــــع مبــــذول 20/1/2014, 3:03 pm |
| نبــــع مبــــذول
كان هذا هو منهج الشيخ محمد في الحياة: الإفضاء بالعلم حتي لمن لا يطلبهما كان لي أن أصير كاتبا لو لم يكن الشيخ محمد زيدان عسر أحد أهم الشخصيات التي عمرت بها أيام طفولتي وصباي، من منتصف أربعينيات القرن العشرين إلي منتصف خمسينياته، وفي بلدتنا "شباس عمير" التابعة لمركز قلين بمحافظة كفر الشيخ ينطقون حرف السين في "عسر" مغلظة فتتحول إلي صاد "عصر"، أما عائلة عسر فإنها من أقدم العائلات في بلدتنا، من أعيان الطبقة المتوسطة الزراعية. إلا أن أراضيها موزعة علي عدد كبير جدا من أفرادها الذين شكلت بيوتهم حارة بأكملها ممتدة في الطول وفي العمق علي مساحات كبيرة، ولهم جامع في حيهم اسمه "جامع العصاروة"، عمره يرجع إلي أوائل القرن العشرين تقريبا، ويقال إنهم تبرعوا بالأرض وأسهموا في البناء، من الواضح أن هذا صحيح لأن الجامع في حضن دورهم الملتصقة به والملتقة حوله. يقال كذلك إنهم من أصول تنتمي إلي قبائل عربية مهاجرة من الجزيرة العربية، أو ربما من اليمن، جمعت بطونها بين اللونين الأسود القاطع والأبيض الشاهق، وما بينهما من درجات متباينة متفاوتة بين اللونين، والواقع أن بلدتنا كلها يرجع معظم أهاليها إلي أصول عربية: سعودية ـ يمنية ـ سورية ـ مغاربية ـ بدوية ـ سودانية ـ أمازيغية، فيما عدا الأقباط سكانها الأصليون وكانوا عددا يعتد به بين سكان البلدة. وشأن عموم الطبقة المتوسطة الزراعية اتجهت عائلة عسر إلي طلب العلم لتستكمل العزة والفضائل، فألحقت الكثيرين من أبنائها بالمدارس والمعاهد الدينية حينما كانت المدارس والمعاهد لاتوجد إلا في المدن البعيدة يتكلف الذهاب إليها والإقامة فيها أموالا طائلة، ناهيك عن أن التعليم كان آنذاك بمصروفات كبيرة يدفعها ولي أمر الطالب كرسوم التحاق إلي وزارة المعارف العمومية، وفي جيل ثلاثينيات القرن العشرين كان منهم المهندس الزراعي، والمأذون حامل عالمية الأزهر، إلي عدد كبير ممن حصلوا علي دبلومات فنية، وممن درسوا في المعاهد حتي حصلوا علي ابتدائية أو ثانوية الأزهر، وبقوا مع ذلك في البلدة يباشرون الزراعة في هيئة رجال فضلاء يتميزون بالدماثة والورع، ويحملون لقب "الشيخ" وإن لم يلبسوا العمامة والجبة. من هؤلاء كان الشيخ محمد زيدان عسر.. حصل علي ابتدائية الأزهر من معهد دسوق الديني، لم تكن تؤهله لوظيفة ذات شأن، ففضل أن يعيش بلا وظيفة علي ريع قطعة أرض زراعية ورثها عن أبيه ويفلحها أحد أقاربه، وكان أبوه الشيخ زيدان عسر قد تزوج علي أم الشيخ محمد ذات البشرة السمراء في لون الشعير، من سيدة طيبة القلب جدا ذات بشرة سودانية غامقة جدا، أنجبت له ولدا علي بشرتها اسمه سيد زيدان كان زميلا لي في الدراسة عاما بعام، والتحقنا معا بمعهد المعلمين العام في مدينة دمنهور، فتمردت أنا وسلكت سبيلا آخر، أما هو فقد تخرج وعمل مدرسا في البلدة وتزوج لكن قدره المقدور لم يمهله حتي يفرح، فجعنا فيه فجيعة مدوية، ذلك أنه (يرحمه الله) كان دليلا علي أن هذه العائلة فيها بذرة نقية سليمة القلب حقا. الشيخ محمد زيدان عسر كان ضريرا، كُفّ بصره قبل أن يدب علي الأرض، فبقيت في مخيلته ذاكرة الألوان، إذ هو بالكاد يعرف بعض أسمائها، ولكن ستار الظلام حين هبط علي عينيه في زمن طفولته المبكرة انحسر ظله عن مخيلته التي بقيت فضاء من الضوء السماوي المخضوضر، وبقي فيها ما عرف فيما بعد أنه القمر وأنها الشمس، ثم إنها باتت مخيلة شديدة الخصوبة، وبقيت له ذاكرة تتماهي في قوتها مع ذاكرة الكون. يحفظ القرآن الكريم بتجويد، والأحاديث النبوية كلها عن ظهر قلب وأحيانا بإسنادها، يحفظ معظم كتب التفسير من الزمخشري إلي الجلالين إلي الطبري إلي ابن كثير، ناهيك عن حفظه لكتب مهمة بمتونها وهوامشها وأذيالها أحيانا، من طراز كتاب "الموطأ" و"نهج البلاغة" و"الفقه علي المذاهب الأربعة"، ولا بأس من "المستطرف من كل فن مستظرف"، إلي "ألف ليلة وليلة" و"سيرة عنترة" و"الهلالية" و"حمزة البهلوان" و"ذات الهمة" و"سيف بن ذي يزن"، و"فيروزشاه"، و"الظاهر بيبرس" وغير ذلك، ولئن كانت الدراسة في الأزهر الشريف آنذاك، ومن ثم في معاهده، تعتمد هذا المنهج فإن ذاكرة الشيخ محمد قد قويت به، وصحيح أنه لم يدرس في المعهد إلا شيئا يسيرا من علوم القرآن والحديث، إلا أنه قرأ المصادر باجتهاده الخاص طلبا للمعرفة والعلم في ذاته. كان حنبليا متشددا في قواعد الوضوء، وفي أداء الصلاة حيث الأدب مطلوب، وبالأحري عند الوقوف أمام الله، إذ يقتضي التأني والتمعن في قراءة الآيات وفي السجود وفي الركوع وفي ترديد الأدعية، وكان شافعيا وسطيا في غير ذلك من أمور العبادة، وحنفيا في مرونة الموقف من الحياة وأمور المعيشة والثقافة. في أثناء الوضوء يقف علي رصيف الميضأة مشمرا ذراعيه وساقيه، يتعوذ ويردد: "أ.. أعو.. أعوذ باللـ.. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"، وذلك أنه لا ينطق اسم الله إلا بعد أن يصفو ذهنه ويتأكد أن شيئا غير جلال الله ليس يشغل ذهنه، قد يوقف الوضوء في منتصفه ليستأنفه من جديد إذا سمع من حوله لفظا قبيحا أو ساوره الشك بأن خاطرا من الخواطر قد مر بذهنه فشوشر علي جلال الجلالة، فإذا أخذ عليه أحد المشايخ هذه الإطالة أفحمه بلطف بأن السيدة نفيسة رضي الله عنها حينما أبلغوها نبأ وفاة الإمام الشافعي قالت: "رحمه الله كان يحسن الوضوء"، أي أن الوضوء ياسيدي الفاضل ليس مجرد غسل أطراف الجسد بالماء، إنما هو صلاة أخري قائمة بذاتها، إنه عملية التطهر للجسد وللنفس قبل الوقوف أمام الله لأداء الصلاة. وكان المصلون من الأجيال الشابة يتوضأون كيفما اتفق، يستقبلون المياه من الصنبور في أكفهم عند المضمضة والاستنشاق وغسل الوجه والرأس، ويضعون أذرعهم تحت مياه الصنبور مباشرة، ولا أحد يدري كيف كان الشيخ محمد زيدان يكتشف هذا الخطأ في أثناء وقوفه في انتظار أن ينتهي أحدهم ليفرغ له مكانا، عندئذ يظهر الاستياء علي وجهه فينعقد ما بين حاجبيه تحت قنطرة النظارة السوداء الغامقة العريضة العدستين كنظارة طه حسين، وفي لطف مشوب بالأسي والأسف يقول: "علي فكرة ياجماعة.. الوضوء الشرعي يقتضي أن تغرف الماء بكفيك من الحوض وتتوضأ! وإلا فلماذا وضعنا هذه الأحواض تحت الصنابير؟!". فإن تجاسر أحدهم وطلب تفسيرا لحكم "قراقوش" هذا أنبري هو في تهكم: "يا فلان يجب أن تعرف أن اختراع الصنبور حينما دخل بلادنا في مصر مع المياه النقية اعترض عليه الفقهاء واعتبروه بدعة، وقالوا: إن السنّة في الوضوء أن نغترف بأيدينا من إناء! فقامت معركة طويلة حامية بين الفقهاء ممثلي المذاهب الأربعة وبين الدولة التي تريد أن تتقدم الأمة وتشرب مياها نقية تسكن مع الناس في أعقار دورهم! ومن رحمة الله بنا أن تعددت آراء الفقهاء وتباينت! إذ خرج علينا الحنفية، أتباع الإمام أبي حنيفة، وعارضوا المالكية والحنبلية والشافعية! قدموا حلا جميلا ذكيا ينهي المشكلة دون تفريط في السنّة! قالوا لا بأس من تركيب الصنبور، ولكن بشرط أن نضع تحته حوضا أو إناء! ونترك الصنبور يصب الماء في الحوض، ثم نغترف من الحوض بأيدينا ونتوضأ! ومن يومها سمي الصنبور بالحنفية نسبة إلي أتباع أبي حنيفة الذين أقروا الصنبور". فإن كان المتوضئ ولدا مستهترا عجولا وشوح في استهانة قائلا: "ياعم خليها علي الله ربك رب قلوب"، يرد عليه بكل لطف: "أعرف أنك ستقول هذا، ولك أن تفعل أو لا تفعل فأنت حر طبعا، ولكن الله سيعاقبني إن حجبت عنك معرفة قد تفيدك بصواب فيه ثواب!". وكان هذا هو منهج الشيخ محمد في الحياة: الإفضاء بالعلم حتي لمن لا يطلبه. |
|
|
admin معلومات اضافية الجنس : العمل : الاقامة : العمر : 39 عدد المشاركات : 4284 تاريخ الانضمام : 14/05/2009 الدنيا ساعه فاجعلها طاعه | في بيتنا طه حسين 20/1/2014, 3:04 pm |
| في بيتنا طه حسين
كل صوت يطرق أذنيه يمكن أن يكون مصدرا للمعرفة وللثقافة، سيما وسمعه يختلف عن سمعنا نحن المبصرينفيما عدا هذه التشددات الخاصة بالوضوء والصلاة فإن الشيخ محمد زيدان عسر كان رجلا عصريا الي حد المرونة المستنيرة، كان بكل تأكيد ـ كما تبين لي فيما بعد ـ قبسا من إشعاع طه حسين الذي غمر البلاد والعباد بسحر إلهي تجلي في بيانه الساطع، السابغ عبر ميكروفون الاذاعة في حديث التاسعة والربع مساء كل أسبوع، لعله كان يوم الأربعاء، حيث ينتظره المستمعون انتظارهم لحفلات أم كلثوم: نفس التأثير ونفس الجماهيرية
وهذا مالم يبلغه أي مثقف آخر في تاريخ مصر الحديث، ناهيك عن تأثير نشاطه الصحفي الواسع، الذي جمعته مؤخرا دار الكتب والوثائق في ستة مجلدات ضخام فإذا هو شيء مذهل حقا، نشاط صحفي بحت، يختلف عن دراساته الأدبية ومقالاته النقدية التي امتلأت بفيضها الصحافة الأدبية والدوريات الثقافية، كما يختلف عن محاضراته الأكاديمية في الجامعة، وعن كتبه الغزيرة المتنوعة مابين القصة والرواية الواقعية والرواية التاريخية الاسلامية من علي هامش السيرة الي مرآة الإسلام فالفتنة الكبري فياله من معلم بحجم أمة مترامية الأطراف أرسل ضوء علمه الي كل ناطق بالضاد. مثل طه حسين كان الشيخ محمد زيدان عسر مجبولا علي العطاء حتي لمن لا يطلب عونه، وفي شخصية طه حسين ذابت الفروق بين الشيخ طه الأزهري وطه افندي أوطه بك خريج السوربون، الفرانكفوني الثقافة الي تفقهه في ثقافته العربية الأم، الي حد الامساك بالجذور الغائرة في أعماق الأرض العربية، وكذلك ـ بدون مقارنة طبعا ـ كان الشيخ محمد زيدان عسر، ذابت في شخصيته الفروق بين الأزهري والأفندي المدني والفلاح القراري والحكواتي الفولكلوري. لقد بقي لغزا محيرا في نظري، ولا أزال الي اليوم أدهشني كيف ـ وهو الكفيف الذي لم يخرج من بلدتنا بعد خروجه من المعهد الديني، بل ويتحرك في نطاق جغرافي محدود جدا، استطاع تحصيل هذه الثقافة العامة، التي يفتقر اليها ناس من المفترض أنهم معبرون مسافرون متعلمون قارئون للصحف يعملون في وظائف الدولة. حتي معلمينا في المدرسة لم يكونوا علي شيء من ثقافته الواسعة، إنه فقيه في السياسة كأنه أحد الفاعلين المشاركين في صنعها، تتسع دائرة معارفه لاعلام قدامي ومحدثين، ومواقف لهم، وطرائف وملح ونوادر لا حصر لها، لا أدري كيف تأتي له أن يعرف الكثير عن شكسبير وبرنارد شو وفيكتورهوجو وسقراط وأفلاطون وهوميروس وأماجد الاغريق واليونان، ومن أين استمد الثقة في حديثه حينما قال ببساطة إن الاغريق واليونان عيال علي الثقافة المصرية برغم عظمتهم حيث تعلم فلاسفتهم في جامعات مصر القديمة في عين شمس؟! من الذي أطلعه علي جماليات أشهر المساجد والكنائس والأديرة والكاتدرائيات في العالم؟! وهل كان لصيقا بشارل ديجول حينما جاء الي مصر ليدبر لمقاومة الألمان الذين احتلوا بلاده ليعرف انه فكر في كذا أو خطط لكذا أو قال لنفسه كذا؟! وكيف توصل الي فهم دقيق لشخصية هتلر من أنه تمثيل لهوس التعصب العرقي حين يختلط بغرور القوة؟ وهل حدثه هتلر شخصيا عن علاقته بعشيقته هيلينا فيجل؟.. ثم، من أي مصدر موثوق عرف ان أبطال مصر الحقيقيين قتلة السردار الانجليزي الليبرلي ستاك وهم محمود إسماعيل وعبدالفتاح عنايت وفلان الفلاني؟ إنها خصوبة المخيلة المتحررة من المشاغل البصرية، إنها كذلك قدرته الفائقة علي الاستقبال والتفاعل، وقدرته الفائقة أيضا علي الربط، علي استكشاف الوشائج الخفية بين كل شاردة وواردة، حيث كل شاردة تصير واردة بتعديل بسيط في السياقات المتناثرة، كل صوت يطرق أذنيه يمكن أن يكون مصدرا للمعرفة وللثقافة، سيما وسمعه يختلف عن سمعنا نحن المبصرين، إنما هو سمع حاضن لما يسمع، فما يسمعه ـ ثمينا كان أو غثا ـ قد يفرخ في ذهنه أفكارا وأخبارا وأسرارا وصورا. من حسن حظي أنه كان من جلاس مندرتنا أثناء الحرب العالمية الثانية ومابعدها. كان أكثرهم لفتا لنظري وجذبا لانتباهي بنبرة صوته المؤنسة، المحسوسة بشئ خفيف من النزق الشباني المتولد عن الافراط في الحماسة. ولقد سرني منذ الطفولة انه كان ينصت الي باهتمام شديد رغم اتهام أمي لي بأنني ولد مخرف، ذلك أنني ـ وعمري أربع سنوات ـ كنت أحكي لجارنا عبدالرشيد جعفر صانع الحصائر أشياء غير معقولة، أقول له مثلا إن ضيوفا من أقاربنا في بلدة الشقة جاءوا بالركائب، وأننا ربطنا حميرهم في المقاعد ـ أي في الطابق الثاني للبيت، وقدمنا للحمير أناجر الفتة باللحم المحمر فإذا بعبد الرشيد جعفر يدخر كل ما خرفت به حتي يحضر في المساء جلسة المندرة فيحكيها، فأراني صرت مضحكة فأنظر اليهم في بلاهة لأني أكون قد نسيت ماقلته في الصباح حتي ليبدو لي عبدالرشيد جعفر كأنه يؤلف عني مثل هذه النكت ليسخر مني الجميع بها. إلا الشيخ محمد، تروح أصابعه تعبث بشحمة أذني تهم بالضغط والقرص ان شرعت أخرف في الكلام باشياء يستحيل حدوثها، غير اني كنت أشعر من طرف خفي بأن أمي إذ تصفني بالمخطرف إنما هي في الواقع تريد أن تدرأ عني عين الحسود، كثيرا ما كان أحدهم يتأملني حين أتكلم فيقول بإعجاب: ماشاء الله دماغه حلو ولسانه سالك!.. فيبدو التوجس علي وجه أمي في الحال، وبدلا من ان تشهر في وجهه اصابعها الخمسة لكي تطفئ لهب النظرة الحاسدة، إذا بها تقول في تحسر مصطنع: ده دماغه حلو ولسان سالك؟ دا أهطل بيقول كلام مالوش أصل من فصل. عندئذ يرفع الشيخ محمد يده عن كتفي ملوحا بها صائحا: بالعكس! لا تقولي هذا أمامه أو أمام أي أحد! فهذا الولد عنده خيال! وما تعتبرينه تخريفا ليس له أصل من فصل هو في الواقع له أصل وفصل في خياله! إنه يتخيل ما يقول! هذا الولد سيكون في الغالب بإذن الله وكما أتوقع شاعرا أو أديبا أو شيئا من هذا القبيل.. فيقول أبي ساخرا: فال الله ولا فالك يا شيخ محمد! إن أدركته حرفة الأدب سيتشرد ويموت جوعا، فيبتسم الشيخ محمد في دماثة ويقول: صحتها حرفة يا أحمد أفندي! بضم الحاء لا كسرها! علي أساس أن الممسوس بموهبة الأدب يستولي عليه الأدب فيقوده الي الانحراف عن طريق أكل العيش يبعده عن كسب المال وعن اتقان حرفة يتعيش منها! ولهذا فقائل هذه العبارة المأثورة يدرك بادئ ذي بدء أن الأدب رسالة أخلاقية يعني لا يصلح أن يكون مهنة لكسب العيش! وإذا لم يكن للأديب من أمير أو سلطان أو ثري من الأعيان المستثمرين يحتضنه ويغدق عليه ضاع وخمل ذكره!.. ولكن الأمر اختلف الآن في العصور الحديثة فأصبح للأديب مكانة محترمة تخطب وده الصحف والمجلات ودور النشر! أنظر الي طه حسين والعقاد والمازني وتوفيق الحكيم ومحمود تيمور وعلي الجارم وسلامة موسي!.. من تدركه حرفة الأدب اليوم لن ينحرف عن جادة الصواب إلا إذا كان دعيا بلا موهبة ولا ثقافة وحيئذ يستاهل مايجري له! أنا شخصيا أشمت في أمثاله برغم اشفاقي عليه!.. أما هذا الولد ـ وتنزل ذراعه مرة أخري علي كتفي تربت عليه برفق ـ فإنني معجب بخطرفته وأشجعه عليها. ترمقني أمي باعجاب خفي تقاوم إعلانه، فتشوشر علي نفسها مشوحة في احتجاج لطيف: ما تخنش ودانه ياشيخ محمد أحسن يصدق ويهرب من كتب المدرسة لكتب الكلام الفارغ المرصوصة وراءك في الشباك! ليته يقرأ البخاري ويكمل حفظ القرآن، ثم تهتف بعد هنيهة: والله إن اشتكي منك واحد من أفندية المدرسة لأكسرن عصا الغلية فوق أجنابك. فيغمزني الشيخ محمد في شحمة أذني أشعر أنها غمزة تشجيع إلا أنه يغطيها بقوله: إسمع الكلام لتكون صديقي. |
|
|
admin معلومات اضافية الجنس : العمل : الاقامة : العمر : 39 عدد المشاركات : 4284 تاريخ الانضمام : 14/05/2009 الدنيا ساعه فاجعلها طاعه | ليلة اكتشاف "القرع السلطاني"! 20/1/2014, 3:05 pm |
| ليلة اكتشاف "القرع السلطاني"!
بعد حصولي علي الشهادة الابتدائية بأشهر معدودة قامت ثورة يوليو في العام الثاني والخمسين بعد التسعمائة والألف وقبل ذلك بوقت قليل كانت جلسات ثورتنا المحتدمة علي الدوام بمناقشات في أوضاع الحياة والسياسة، قد وضعتني علي درجة لا بأس بها من الوعي بما يدور في البلاد وفي الدنيا : الحرب العالمية الثانية؛ ضرب اليابان بالقنبلة النووية؛ اختفاء هتلر؛ حرب فلسطين؛ الأسلحة الفاسدة؛ أبطال الفالوجا؛ مقتل أمين عثمان؛ اغتيال أحمد ماهر؛ اغتيال النقراشي باشا؛ اغتيال حسن البنا زعيم الإخوان المسلمين؛ الملكة اللعوب نازلي. مجرد علمي بهذه الأمور أعطاني بعض التمير بين أقراني. وفي أثناء تلك الفترة كان ميلي لنظم الشعر قد تجسد في محاولات ساذجة اعتنيت بها بأن دونتها في كاسة صنعتها بيدي من بقايا ورق الكراريس. ولم أجرؤ علي إلقائها أمام أحد خارج دائرة بعض زملائي في المدرسة. ولكنني فتنت بفن الزجل يوم سمعت الشيخ محمد يلقي زجلا علي جُلاًّس المندر ة في شكل مثير، حيث مالوا جميعا برءوسهم تجاهه في شغف وتلهف؛ وهو من فرط الحياء والحرج يلقي بصوت هامس مرتعش، وهم يستحثونه في عصبية: ارفع صوتك شوية وماتاكلش الكلام. فيلتفت حوله قائلا: أخاف أن يسمعني العيال؛ فإذا بأبي يقول له: كلهم نايمين جوه بعيد! متعليش صوتك بس فسر الكلام! في الأمر سر خطير إذن. وكان ضوء المصباح الغازي المتدلي من السقف وسط دائرة من الجنازير بثقِّيلة أشبه بالنجفة، يحصر الضوء في وسط المندرة وفوق الكنب القريب منه؛ فانزويت أنا في البقعة المغورة بالظل المتاخمة للركن المنفصل لجلسة الشيخ محمد. كتمت أنفاسي حتي أسمع. فإذا بالشيخ محمد يلقي عليهم قصيدة زجلية كتبها زجال اسمه بيرم التونسي بعنوان: "القرع السلطاني". وعرفت من تعليقاتهم أنها قصيدة قديمة شهيرة كتبها بيرم "يلقح" فيها علي الملكة نازلي ، يقول مطلعها: مرمر زماني يا زماني مرمر. يقول بيرم في مطلع قصيدته: البنت ماشية من زمان تتمخطر والغفلة زارع في الديوان قرع أخضر الغريب أنني بعد تلك الليلة بأسابيع قليلة احتلت علي الشيخ كي يمليها عليّ لأكتبها وأحفظها فامتنع عن قولها؛ لكنه مد ذراعه وتحسس شحمة أذني ليشدها ثم قال: مادمت أحببت الزجل فإني أسمعك قصيدة لبيرم التونسي أيضا ولا مانع عندي أن أمليها عليك إن أحببت. ثم ألقي قصيدة المجلس البلدي: قد أوقع القلب في الأشجان والكمد هوي حبيب يسمي المجلس البلدي.. إلخ بهاتين القصيدتين أسرني بيرم التونسي وأصبحت أترقبه في كل صحيفة تقع في يدي، وأسمع أغنياته بتمعن، وأقتني الطبعة الأولي من ديوانه، وأكتب إلي جانب القصائد الفصحي أزجالا وأغنيات بغزارة محمومة؛ أترقب المناسبات الخاصة والعامة لأكتب فيها زجلا وأجد لذة فائقة في التقدم بجرأة لإلقائه علي مجموعة من المحتفلين. ثم قادني ذلك إلي اكتشاف صلاح جاهين وفؤاد حداد في بواكيرهما؛ ويقدر لي أن أخالطهما وأن يغدقا عليّ من كرم الأخلاق والمحبة ما يفوق قدرتي علي الوصف والتعبير وعلي رد الجميل بمثله أو أقل منه. أقول حينما قامت ثورة يوليو وطردت الملك فاروق طرأت علي الشيخ محمد حالة من البهجة والاغتباط الطفولي والزهو كأنه قائدها ومشعلها. وكان في مروره المعتاد علي المصاطب والدكاكين يهتف بحماسة للرئيس محمد نجيب ويردد شعاره كأنه يوصي القوم بضرورة الالتزام به: الاتحاد، النظام، العمل. وكانت عصاه هي عينه التي يري بها موضع قدميه فلا تخطئ النظر مطلقا؛ كل ما عليه أن يتجنب نهر الشارع ويمشي علي جند مشية سالكة وإن بدت متأنية رصينة الخطوات. وحينما ظهر جمال عبدالناصر كان هو أول من استوعبه وفهمه بسرعة فائقة فقال إن هذا الرجل هو الثورة وتنبأ بأنه سوف يسوي الهوايل ويرفع هامة مصر بين كبار الدول؛ ولكن، قالوا: لكن ماذا؟ قال بشيء من الغموض: ربنا يستر عليه من .. فقاطعوه؛ تقصد أمريكا وإسرائيل؟ فضحك ثم قال: اللهم احمني من أصدقائي أما أعدائي فأنا كفيل بهم. ولم يزد علي ذلك حرفا واحدا؛ إلا أنه ما لبث حتي غضب علي جمال غضبا شديدا بسبب حل الأحزاب، حزنا علي حزب الوفد حيث كانت بلدتنا كلها ـ إلا قليل جدا ـ وفدية يصعب عليها الاعتراف بزعيم شعبي بعد سعد زغلول رغم احترامها لمصطفي النحاس باشا. وقد جهر الشيخ محمد بأنه كان علي استعداد للاعتراف بزعامة عبدالناصر إذا هو ترك الأحزاب قائمة واتخذ من حزب الوفد نصيرا شعبيا يدعمه ويفيده بخبراته السياسية والجماهيرية، غير أنه عدل موقفه من عبدالناصر بعد الإصلاح الزراعي والقوانين الاشتراكية. لم يكن الشيخ محمد زيدان عسر مصدر وعي فحسب؛ بل إنني مدين له بالفضل في تأسيس ذائقتي الأدبية وتنشيط خيالي وإثرائه. فمنذ أن تعلمت القراءة والكتابة اتسعت علاقتي به وتعمقت فصرت أقضي معه الكثير من ساعات النهار في دار ابن عمتي أنور السنهوري التي تبعد عن دارنا بأمتار قليلة إذا اختصرنا المسافة وقفزنا إليها عبر جدار قصير قميء. بعد صلاة العصر كل يوم يلتقيان في قاعة ابن عمتي، يتربعان فوق حصير فوق مصطبة عالية تحتل فراغ القاعة كله. يتوسطهما منقد النار بالقوالح المشتعلة وسخان الشاي مدفوس فيها يغلي علي مهله ويملأ القاعة برائحة الشاي الشهية. لديهما دائما مشروع للقراءة. ابن عمتي هو الذي يقرأ بصوت رخيم يقلد به صوت المذيع حسني الحديدي. كانا قد انتهيا منذ وقت طويل من قراءة السير الشعبية كلها، وألف ليلة وليلة، ومروج الذهب للمسعودي، والمستظرف من كل فن متطرف. وعندما سُمح لي بالانضمام إليهما كانا في بداية مشروع جديد: قراءة سلسلة روايات تاريخ الإسلام لجورجي زيدان التي نشرتها دار الهلال في طباعة أنيقة جاذبة كان ابن عمتي يشتريها من مكتبة في مدينة دسوق شهرا بعد شهر إلي أن اكتملت وشرعا في القراءة. تخضرني الآن عناوين روايات بقيت في ذاكرتي إلي اليوم وإن بغير ترتيب الصدور: "الأمين والمأمون، فتاة غسان، عروس فرغانة، أرمانوسة المصرية، المملوك الشارد، فتاة القيروان، نكبة البرامكة، عبدالرحمن الناصر".. إلخ. المهم أن جورجي زيدان بعبقريته الفذة حوّل التاريخ الإسلامي كله منذ قيام الإسلام إلي الزمن العثماني ودولة مصر محمد علي إلي روايات فائقة ولعل رواية "الممولك الشارد" هي آخر السلسلة وقد صور فيها مذبحة القلعة الشهيرة التي نجا منها ذلك المملوك الشارد الذي قفز بحصانه من فوق سور القلعة فتهشما معا. يقشعر بدني الآن إذأتذكر تلك الأيام التي يكمن فيها، فيها وحدها، سحر طفولتي المبكرة بفضل هذا الرجل، فلو أنني درست وقائع التاريخ الإسلامي في المدارس والجامعات فما أظنني كنت سأستوعب التاريخ الإسلامي كما فهمته من هذه الروايات. وحينما التحقت بمعهد المعلمين العام في مدينة دمنهور وأصبحت علي اتصال ببائعي الصحف والمكتبات التي تبيع الكتب القديمة والحديثة المستعملة، صرت أرفد قعدة ابن عمتي بكتب من الأدب المعاصر لتوفيق الحكيم ومحمود تيمور ومحمود كامل وعبدالرحمن الخميسي وأمين يوسف غراب ويحيي حقي وإحسان عبدالقدوس، فكانا يقبلان علي قراءتها بشغف واغتباط. ولقد أفادتني جدا هذه القعدات المتقطعة التي كانت تتم خلال الإجازات الأسبوعية ونصف العام الدراسي ثم الإجازة الصيفية. ذلك أنني وقد قرأت هذه الكتب التي أعرتها لهم صرت شغوفا بمعرفة مدي تأثيرها عليهما لكي أختبر فهمي لها: هل يفهمانها أعمق من فهمي؟. والواقع أنهما كانا كذلك. فمن خلال تعليقاتهما علي هذه الكتب تبينت المشتركات الجوهرية بين هذه الكتب الحديثة جدا وكتب السير الشعبية وألف ليلة وليلة التي بناء عليها يقيم القراء علاقتهم الحميمة لهذا الكتاب أو ذاك. إنه الجوهر الإنساني، قيمة الصدق الفني في الكشف عن المكنون داخل النفس البشرية، أو المقموع فيها لسبب من الأسباب، تشخيص لحظات الألم والشوق والقهر والمواقف الصعبة التي يتجلي فيها نبل الإنسان. |
|
|
admin معلومات اضافية الجنس : العمل : الاقامة : العمر : 39 عدد المشاركات : 4284 تاريخ الانضمام : 14/05/2009 الدنيا ساعه فاجعلها طاعه | مشروع مقاومة الحفاء 20/1/2014, 3:05 pm |
| مشروع مقاومة الحفاء
التحقت بمدرسة عبدالله نديم في العام الرابع والأربعين بعد التسعمائة والألف. وكانت مدرسة بلدتنا هذه قد أنشئت في العام الثالث والعشرين أي عقب ثورة التاسع عشر بأربع سنوات، ولم تكن تحمل اسم عبدالله نديم آنذاك. أما متي حملته ولماذا؟ فذلك ما لم أشأ بحثه ترحيبا باسم عبدالله النديم الذي لم يكن خطيبا للثورة العرابية فحسب، بل كان إلي ذلك أحد أهم بناة الروح الوطنية المصرية، كمفكر ثوري شخص في عدة شخصيات إيجابية فعالة: الصحفي والأدباتي والمناضل السياسي، كما أنه رائد فن الزجل بل لعله مؤسس مدرسة الزجل المقاوم المهيج للجماهير المعبر عن الضمير الوطني وعن قاع الحياة في المجتمع المصري الذي لا يعرفه حكامه ولم يعرفوه علي طول الزمان. وهي المدرسة الزجلية التي تخرج فيها أكبر عملاقين عظيمين كان لهما أكبر الأثر في المجتمع المصري المعاصر هما بيرم التونسي وبديع خيري، ناهيك عن أبي السعود الابياري وأبي بثينة ومحمود رمزي نظيم وحسين شفيق المصري وغيرهم. - ناظر مدرستنا آنذاك رجل فاضل من حملة شهادة عالمية الأزهر الشريف، ظل علي ولائه لزيه الرسمي: الجبة والقفطان والعمامة فكان هو المعمم الوحيد بين لفيف من الأفندية المطربشين، كنا نصطبح بوجهه كل يوم في طابور الصباح للتفتيش علي نظافة التلاميذ من فرط ندرتها بين عيال من أبناء الفلاحين والأجرية بل والمعدمين لا يملكون سوي الجلباب الذي يستر أجسادهم وبعضهم لا يخلعه عند النوم، عذرهم ليس الفقر وحده، إنما العذر الأكبر أن المدارس لم تكن في حسبان أهاليهم من الأساس بل هم غير مرحبين بها نظرا لاحتياجهم إلي العيال يساعدونهم في شغل الغيط أو باليومية في أرض الوسية، غير ان دعوة طه حسين إلي التعليم "الإلزامي" باعتباره من حق كل مواطن كالماء والهواء قد تم تنفيذها وأصبح خفراء البلدة يجلبون العيال بقوة القانون إلي المدرسة برضاء أو عدم رضاء أهاليهم. عدد قليل من أبناء المياسير الذين ألحقوا عيالهم بالمدرسة الإلزامية تمهيدا للصرف عليهم في مدارس البندر الابتدائية كانوا يملكون أكثر من جلباب نظيف علي الدوام، وينتعلون صنادل ماركة باتا كانت شهيرة وأنيقة وثمن الواحد منها تسعة وتسعون قرشا وذاك مبلغ يشتري ثلاث كيلات من القمح تقيم أود عائلة بأكملها لمدة عشرين يوما علي الأقل، ويشتغل به أجير رشيد لمدة عشرة أيام في عزيق أو حرث أو تطهير مصارف أو شتل أرز أو جمع قطن في أرض وسية محمد علي باشا الصغير أو أراضي الأعيان. أما بقية العيال فحفاة يتراكم علي وجوههم صدأ البؤس وتنضح جلابيبهم بعرق الشقاء الكالح المزمن. في عهد الناظر الشيخ حسن الزيات أبلغونا ذات يوم في طابور الصباح عن مشروع تبنته وزارة المعارف العمومية اسمه مشروع مقاومة الحفاء، وطلبوا من كل تلميذ قرشا صاغا ـ عشرة مليمات ـ كرسم اشتراك في هذا المشروع، من سيدفعه سيحصل علي حذاء. رحب الأهالي بفكرة المشروع، لكن عدم ثقتهم الأزلية في الحكومة جعلتهم يزمزقون. إنهم دائما يزمزقون متي كان في الأمر فلوس مطلوب منهم دفعها. ومع ذلك نشط في البلدة رأي عام يؤيد المشروع ويدعو إليه، دفع الذين في أيديهم فلوس طوال العام، واقترض الذين يفلحون علي ذمة أقرب محصول قادم، وباعت بعض النساء تحويشاتهن من بيض الدجاج، وباعت أمي بطة كانت مرشحة للذبح في موسم عاشوراء. وبرغم حزني الشخصي علي البطة فإنني صرت مزهوا بأني دفعت القرش قبل كثيرين غيري لم يقتنع أهاليهم بعد بأن الحكومة يمكن أن يأتي من ورائها رجاء! سافرت قروشنا إلي حيث لا نعلم. وبعد ما يقرب من شهر، لاحظنا ذات ضحي حركة غير عادية، فثمة أفندية محترمون دخلوا المدرسة وتوجهوا إلي حجرة الناظر، وبعد قليل خرج الناظر يتقدمهم إلي حجرة المعلمين الواسعة. ثم بدأ محمود المهدي الفراش الأوحد للمدرسة يتحرك في اتجاه الفصول، يخرج من فصل إلي فصل يمكث فيه برهة، إلي أن رأيناه في مدخل باب فصلنا ينقر بظاهر أصابعه علي الباب. وكان المعلم ساعتئذ هو قمر أفندي الشرنوبي الذي كان يحكي لنا قصة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام وكيف فعل به الكفار ما فعلوا، فتوقف عن الحكي وأذن للمهدي بالدخول. فاقترب المهدي منه وهمس في أذنه بكلام لم نسمعه، لكننا تفائلنا باحمرار وجه قمر أفندي تحت ضغط ابتسامة عريضة فيما يهز رأسه بالموافقة قائلا: وهو كذلك. عقب انصراف محمود المهدي مباشرة اتسعت الابتسامة المخملية علي شفتي قمر افندي كاشفة عن اسنانه الدقيقة الناصعة البياض كأنها أسنان للزينة فحسب. وبصوته الرخيم الودود قال: "مفيش مرواح النهاردة بعد الجرس؟". وبعد أن استمتع قليلا بمنظر التوجس الذي لاشك تلبكت منه ملامح وجوهنا استمتع مرة أخري بإلقاء المفاجأة التي يعرف أنها ستفرحنا، حيث قال وهو يشير بذراعه اليسري نحو الحوش: "الوزارة باعتاهم ياخدوا مقاسات رجليكم واحد واحد عشان يفصلوا الجزم علي مقاسكم بالمظبوط!" عندئذ نسينا أننا في فصل دراسي، نسينا حقدنا المشبوب علي الكفار الذين آذوا النبي، صرنا نلكز بعضنا بعضا بخشونة ونطلق صيحات الفرح وندبدب علي الأرض بأرجلنا ونخبط فوق الأدراج. صرخ فينا قمر افندي، ذلك الرجل الرقيق الأنيق، الأشد أناقة من جميع المعلمين في حلله الصوفية الإنجليزية الثمينة وقمصانه الحريرية وأربطة عنقه ونظارته الطبية ذات الإطار الذهبي المستدير العدستين، صار فجأة كلسان لهب طالع من حريق، هوي بالخيزرانه فوق سطح مكتبه عدة مرات متتالية كجرس الإنذار يعطينا عينة مما قد ينالنا فوق الأقفية من هذه الخيزرانة، إنكتمنا علي الفور، صرنا كالخشب المسندة وقد قفزت أجنابنا لنلقي لسعة غادرت من هذه الخيزرانة التي لا تؤتمن علي الإطلاق. ظل قمر أفندي واقفا في صمت غاضبا لبرهة طويلة، ثم، وبلهجة تشي بنبرة المصالحة قال: ـ "أنا سبق وقلت لكم إيه؟!" فبقينا صامتين شاخصين نحاول التذكر فيما سبق أن قاله لنا وقد التبس علينا الأمر، هل يقصد ما سبق أن قاله في هذه الحصة؟ أم في حصص سابقة؟ ـ "إيه القول المأثور اللي دايما أقوله لكم؟" ـ العبد يقرع بالعصا. والحُر تكفيه المقالة!" ـ "العبد إيه؟. يُقرع. يعني ينضرب!. يعني لازم تضربه بالخرزانة علي جنابه عشان ينفذ الأوامر! عشان يشتغل!. تعرفوا ليه؟ لأنه عبد! أسياده عودوه علي الضرب بقسوة لحد ما أدمن الضرب وأصبح الضرب هو البنزين اللي بيحركه زيه زي الحمار محتاج عصاية تلسوعه!. لكن بقي الحُر. الراجل الحُر يعني المتعلم المتربي في بيتهم عنده دماغ بيشغله! تقول له اسكت يسكت اعمل كذا يعمل أو يعترض إذا كان عنده رد مقنع! حافضل طول عمري أقول لكم الكلام ده! لأ طبعا مقداميش غير الخرزانة دي أتفاهم بيها مع أي واحد عاوز يبقي عبد!. نرجع للي كنا فيه؟ وصلنا لحد فين في قصة الرسول؟" ولكن ماكان قد تبقي من قصة الرسول لم تثبت منه كلمة واحدة في رءوسنا التي انجذبت بكاملها إلي ما بدأ يدور في الحوش: بعض الفصول اصطفت في طابور، واقعي بين أقدامهم أفندية يقيسون أحجام الأرجل بالمازورة ويدونون. إلي أن جاء دور فصلنا فتقدمنا "كأحرار" في صمت واحترام، والغبطة تكاد تنفضنا من فرط الفرحة كأننا قد تسلمنا الأحذية بالفعل. ولقد بقي هذا الحدث حيا في ذاكرة البلدة لأشهر طويلة، ولكن الأحذية لم تأت علي الإطلاق. وفي نهاية العام الدراسي التالي ألحف أهالينا في السؤال، فقيل لهم إن المقاسات لم تكن مضبوطة وأنهم صرفوا النظر عن المشروع فيما يبدو. قالوا: والقروش التي دفعناها كيف نستردها؟ فقيل لهم: ومنذ متي كانت الحكومة ترد ما أخذت من الناس؟! إنها مثل المقبرة لا ترد ميتا أبدا! |
|
|
admin معلومات اضافية الجنس : العمل : الاقامة : العمر : 39 عدد المشاركات : 4284 تاريخ الانضمام : 14/05/2009 الدنيا ساعه فاجعلها طاعه | يوم استلام الكتب 20/1/2014, 3:06 pm |
| يوم استلام الكتب
الشيخ حسن الزيات كان يسكن أدمغتنا، فالخشية كلها منه. لقد علمنا واجبا مهما إلتزمنا به ونحن جد سعداء: إذا كان الواحد منا سائرا في أي شارع يقف علي جنب رافعا يده بالتحية تعظيم سلام. مصدر السعادة أن المعلمين كانوا يردون علي تحيتنا بمثلها مع ابتسامه ودودة، كما أن المنظر في ذاته كان يعجب عموم الناس فينظرون إلينا باستحسان، وبعض الكهول يهمهمون في إعجابك أهو كده! ونعم التربية. إلا الشيخ حسن الزيات كان يرد علي تحيتنا بغير ود علي الإطلاق، يكتفي بهز رأسه هزة خاطفة لاتكاد تري، دون أن يتخلي وجهه عن الجدية المتصلبه والملامح المكتنزة بالصرامة وعيناه الضيقتان يشع منهما وعيد رهيب، فتبدو تقاطيع وجهه المتكور كأنها حائط صد غير قابل لنفاذ أي استعطاف أو استرحام في طلب العفو. صوته من فصيلة صوت المزمار البلدي، إلا أنه يبعث فينا الرعدة والخوف بدلاً من الطرب. عند الانفعال يشعرك كأنك تسمع صوت تمزيع ثوب جديد من نسيج متين. حجرة الناظر حسن الزيات كانت في مدخل المدرسة بمجرد الدخول من بوابة المدرسة يكون باب حجرته أول باب علي اليسار. ومن خلفها مباشرة حجرة المعلمين، مستطيلة حافلة بمقاعد تلتف حول ترابيزة اجتماعات مستطيلة وذات أدراج فلكل معلم درج خاص به. بابي يفتح علي فناء المدرسة، حيث تقوم في نهايته دورة مياه كبيرة إقتطعت منها مساحة لدورة أخري صغيرة ونظيفة علي الدوام خاصة بالناظر والمعلمين وذات قفل بمفتاح يحتفظ به محمود المهدي في سيالته حتي إذا ناداه أحدهم وطلب منه تجهيز الدورة هرول مسرعا إليها فيفتحها ويملأ الإبريق الفخاري بالماء لزوم الاستنجاء والتطهر بعد قضاء الحاجة. أما باب حجرة الناظر فيفتح علي جناح الفصول إذ هي مجموعة حجرات متجاورة ذات أبواب وشبابيك تفتح علي الفناء، وشبابيك مقابلة تفتح علي الخلاء الممتد الي الحقول وتلة المقابر، والمحاط ببيوت عتيقة من الطوب المخلوط بالتبن. من مكمنه خلف المكتب العريض الكبير وما يجاوره من دواليب وشانوهات تحتفظ فيها أوراق ومستندات وملفات التلاميذ ومكاتبات المنطقة التعليمية ونشراتها وتعاليم الوزارة وبعض الكتب، يستطيع الناظر حسن الزيات أن يرقب الحركة داخل الفصول ليعرف من الذي بدأ حصته ومن تلكأ في بدئها؟ وأي فصل نشب فيه شغب وفوضي؟ وذلك أنه لم يكن ليتسامح مطلقا في الإهمال في شيئين كلاهما خطير: النظافة، والضبط والربط. لهذا فالفناء دائما مرشوش بالمياه، الابواب والشبابيك دائما ممسوحة بالفوطة الزفرة المبللة، والمراحيض ـ وكانت تصرف في طرنشات يتم كسحها كل عام في الأجازة الصيفية ـ يتم تنظيفها يوميا، وتزويدها بحبات النفتالين ذات الرائحة النفاذة، أو ترش بمحلول الفينيك. محمود المهدي هو فراش المدرسة الوحيد، القائم بكل هذه الأعباء دون ضجر أو تذمر، بل وبلذة وأريحية، كان في الثلاثينات من عمره، فارع الطول، مبروم الجسد في امتلاء إلي حد ما، نظيف الثياب باستمرار حتي وهو يكنس الفصول بالمقشة ذات اليد الطويلة كالعصا، والجاروف. تربطنا جميعا به حميمية مدهشة. كلنا نحبه، نطيع نصائحه بإخلاص أكثر من إطاعتنا لنصائح المعلمين، لأن نصائحة تبلغنا في صيغة من الود والأبوة الحانية التي نستشعر فيها الصدق كأنه أبونا أو أخونا الكبير. في المواعيد المحددة يضرب الجرس، عند الدخول صباحا إيذانا بالدخول، وفي الفسحة إيذانا ببدئها وإعلانا لإنتهائها، وعند الغداء، وعند انتهاء اليوم الدراسي. الجرس نهاسي كبير ثقيل كجرس الكنيسة، معلق في أعلي جدار حجرة المعلمين يتدلي منه جنزير ينتهي بحلقة تتسع لقبضة اليد، يد محمود المهدي الكبيرة، التي تشد الجنزير الثقيل بقوة عدة مرات فيدوي الجرس ويبقي صوته في الآذان طويلا بعد أن يكف عن الدق. قبل منتصف النهار بربع ساعة يتبدد نصف انتباهنا علي الأقل وإن بدونا مفنجلي الأعين منتبهين للدرس الذي تتلقاه من المعلم. ويبدو أننا جميعا، التلاميذ والمعلمون والناظر قد جري بيننا اتفاق سري علي أن هذه الحصة التي تسبق موعد الغداء شبه ضائعة وغير مجدية حتي وإن استشاط المعلمون غضبا وكشروا وشخطوا وضربوا سطح القمطر بالخيزرانة في صيحة متوعدة: "وبعدين!". وذلك أننا لحظة ذاك تصير أعيننا لائذة بفناء المدرسة ومنه إلي الباحة الواسعة أمام بابها، نترقب صوت شخللة المعادن الجرسية المعلقة في رقبة الحصان الذي ما يلبث حتي يظهر، يجر عربة كارو تحمل صندوق الغداء الذي سيوزع علينا فور وصوله. ورغم علمنا بان العربجي يجعل بلدتنا في نهاية خط سيره، إذ هو يحمل من مخزن المتعهد صناديق عدة مدارس في عدة بلدان متجاورة علي خط سير واحد في طريق موصول، فإننا كنا دائمي السخط عليه لشعورنا في كثير من الأيام أنه تأخر طويلا عن موعده في حين أنه يكون قد طب في ميعاده بالدقيقة والثانية حسب تعليمات المنطقة التعليمية. كل تلميذ مكلف باستحضار طبق صغير وكوب لشرب الماء يستحسن أن يكونا من الألمنيوم حتي لا ينكسرا. معظمنا لم يكن يقتني حقيبة للكتب والكراريس إلا أن يكون من أسرة ميسورة تكلف النجار ويصنع حقيبة من الخشب الابلكاش مدهونة بالأويمة وذات قفل يطرقع عند الفتح والإغلاق. فكان البعض يتأبط الكتب والكراريس المطلوبة لليوم الدراسي حسب جدول الحصص. والبعض الآخر يضع له الخياط مخلاة من بقايا أقمشة. أما المعدمون فيضعون المخلاة من بقايا ثوب قديم. وبالنسبة لي كان النجار صديق أبي ومن جلاسي مندرتنا ويعمل علي إغرائي بالإلتحاق بورشته لأتعلم النجارة في أوقات الاجازة بدلا من الخياطة التي تمقق العين، ولكي يستقطبني تماما صنع لي حقيبة غاية في الأناقة بقفلين علي الجانبين كانت أكبر مصدر للزهو في حياتي وكنت أحب السير بها منفوخ الصدر في جدية الرجال كأنني صرت موظفا مرموقا في الحكومة. وكان اشد ما يغيظني هو اضطراري لدس الطبق والكوب فيها بين الكتب، فما أن أبدأ السير بها حتي يتحكك الكوب في الطبق ويتحككا معا بغطاء الحقيبة فينتج عن ذلك نقرزات يصاحبني طوال الطريق، تماما كشخللة المعادن المعلقة في رقبة الحصان الذي يجر العربة الكارو حاملة صندوق الغداء. وكان زملائي الذين تحرص علي الذهاب إلي المدرسة معا يسمعون صوت قدومي من علي بعد فينتظروني علي ناصية الحارة. فور وصول الكارو تبدأ في الفصل قرقعة احتكاك الأكواب بالأطباق بسطوح الادراج. سرعان ما تختفي الكتب والكراريس داخل الأدراج. يدخل محمود المهدي حاملا تلا من الأرغفة، يضع أمام كل واحد رغيفا شهي المنظر لتورده وطرارته. إنه خبز الطابونة كما نسميه وكأنه الفاكهة بالنسبة لنا. معلم الفصل وراء المهدي يضع أمام كل تلميذ بيضتين مسلوقتين مع قطعة كبيرة من الجبنة الصفراء الملونة ذات الطعم الحريف اللذيذ، ومغرفة من الفول المدمس المغمور بالزيت الفرنساوي، مع قطعة حلاوة طحنية، وأحيانا أصبع موز وبرتقالة. وفي كثير من الأحيان كانوا يسلموننا كتلا كبيرة من هذه الجبنة مع أكياس من اللبن المجفف ـ قيل إنها من المعونة الأمريكية فكان أهالينا يفرحون جدا بهذه الهدية الفخمة. من أسباب حبنا لمحمود المهدي أنه إذا لاحظ أن تلميذا ظلم في برتقالة فاسدة أو قطعة جبن صغيرة ذهب وأتي له ببرتقالة جيدة أو قطعة جبن تملأ العين. غير أن حبنا له يتألق في أعيينا يوم استلام الكتب. ياله من يوم عيد بحق. إن فرحتي بالكتاب الجديد الي اليوم ترجع الي يوم استلام الكتب في المدرسة في الأسبوع الأول من بدء العام الدراسي. يدخل محمود المهدس حاملا علي صدره تلا من الكتب، يسندها فوق مكتب المعلم، يقتبس منها ويمشي بين صفوف التخت يرمي بكتاب أمام كل تلميذ. نروح نقلب في صفحات الكتاب بشغف مبهورين بالرسوم الملونة لأنوع الحيوانات والأشجار والغابات. ثم تنهمر علينا الكتب: المطالعة، التاريخ، الانشاء، الدين، الحساب، اللغة العريبة، الخط. بعدها تأتي الكراريس ذات الجلود الصفراء والورق الزهري المصقول ذو هوامش بالخط الأحمر علي الجانبين، والنصائح المعهودة مطبوعة علي ظهر الغلاف الأخير، من مثيل: إغسل يديك قبل الأكل وبعده، لا تؤجل عمل اليوم الي الغد، إذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها او ردوها. إلخ. مع كراسة الخط يسلموننا كل تلميذ قصبتين من البسط، وهي نوع خاص من البوص المجوف، يعلمنا محمود المهدي كيف نبريها لنصنع لها سنا لسن الريشة نشقه بالموس من المنتصف ليتجمع الحبر بين الشقين. ولأن معظمنا لا يحمل موسا ولا مطواة فكان محمود المهدي يأخذها من قصيره ويبري لنا أقلام البسط بحرفنة ودربة وسرعة. سطوح التخت مائلة ميلا قليلا، يبدأ الميل من إفريز عبارة عن شريحة من سطح التختة ـ او القمطر ـ مرتفعة قليلا وفي وسطها تجويف يبيت فيه القلم الرصاص أو الريشة التي كنا نكتب بها، وهي عبارة عن سن من المعدن ذي يد طويلة كالقلم. وفي منتصف هذه الشريحة من كل تختة دائرة مفرغة تبيت فيها دواة حبر مصنوعة من الخزف الصيني الابيض. ويوما بعد يوم يمر محمود المهدي ممسكا بزجاجة كبيرة ملآنة بالحبر الأزرق القاتم، لها بزبوز كالإبريق. يتوقف أمام كل دواة، يصب فيها الحبر من البزبوز حتي تمتليء. كل ذلك في دقائق معدودة حتي يبدو لنا محمود المهدي وكأنه ـ وهو خادم كل هاتيك الفصول ـ مخصص لخدمة فصلنا وحده. |
|
|
admin معلومات اضافية الجنس : العمل : الاقامة : العمر : 39 عدد المشاركات : 4284 تاريخ الانضمام : 14/05/2009 الدنيا ساعه فاجعلها طاعه | فعله العفريت كان الأولي به أن ينصحكم بوجوب الاعتذار عند الغلط وبعدم الاندفاع والمبادرة بالضرب 20/1/2014, 3:06 pm |
| فعله العفريت كان الأولي به أن ينصحكم بوجوب الاعتذار عند الغلط وبعدم الاندفاع والمبادرة بالضرب
ما أعجب تصاريف ذاك الحظ الغبي! لقد كان محمود المهدي مثالا علي النظافة لا تفلت من مقشته أو فوطته الزفرة غبارة واحدة. مع ذلك زج به في موقف حرج ومهين بسبب النظافة! كان ذلك في يوم لا أنساه مطلقا من العام السابع والأربعين بعد التسعمائة والألف. في ضحي ذلك اليوم بدأ حضرة الناظر الشيخ حسن الزيات يمر علي الفصول ليطمئن علي سلامة النظافة والانضباط ويجري مراجعة علي التلاميذ أشبه بالـ "بروفة" لما سوف يحدث أمام المفتش، يوجه بعض أسئلة في "المقرر" تشبه الأسئلة التي قد يسألها المفتش، وبمساعدة المعلم يقوم باختيار التلاميذ النجباء وتصحيح اجاباتهم وصولا الي الإجابة النموذجية التي يجب أن نستوعبها جميعا. ولكن، وقبل دقائق معدودة من دخول الناظر علينا كانت ريح خماسينية هوجاء قد أحدثت في تراب أرض الخلاء ما كنا نسميه بفسوة العفريت، ولما كانت شبابيك الفصل المطلة علي الخلاء مفتوحة الدرف قليلا علي شكل شمسية مقببة من الخارج فلقد نفذت هبات من التراب الناعم غمرت مكتب المعلم وصف التخت المتاخم للشبابيك ووصلت الي بعض التخت البعيدة. ومثلما يفعل المفتش دائما دخل الناظر متجها مباشرة الي مكتب المعلم للقبض علي دفتر التحضير الذي يدون فيه المعلم خطة درس الحصة وملخصه وعناصره المهمة وطريقة شرحه التي سيطبقها، ليتأكد المفتش بادئ ذي بدء من جدية المعلمين وسلامة منهجيتهم لهذا يريد الناظر اكتشاف الحوار قبل أن يكتشفه المفتش ليكون أمام المعلم بعض الوقت لتدارك أي إهمال ولو بسيط غير جوهري. غير أنه صدم باكتشاف التراب ألد أعدائه في الحياة. أخرج منديله وجعل يمسح وجهه ويديه وشفتيه في اشمئزاز. بكل هدوء مشي نحو باب الفصل ثم وقف علي العتبة مصفقا بيديه كأنه يدق جرس إنذار مرعبا، جرت العادة أن المعلم حين يطلب الفراش لأمر من الأمور يقف بالباب صائحا بمزيج من الغطرسة والعجرفة : يا محمود، أما الناظر الشيخ حسن الزيات فإنه يصفق فحسب، ومحمود المهدي يعرف تصفيقته هذه بإيقاعاتها المختلفة إن كانت هامسة يعني أن يذهب اليه في تؤدة علي مهل، أو زاعقة فيسرع في خطوه أو صارخة الصوت غاضبة فيترك ما في يده ويهرول اليه قبل أن يتراوح صوت التصفيقة في فضاء الفناء. في لمح بالبصر صار محمود المهدي واقفا أمام الناظر مرتجفا محمر الوجه منتفخ الخدين من فرط التوجس، وقد انزاحت طاقيته الصوف الهرمية الشكل الي الوراء عن جبهة مدورة كالبرتقالة وقف متجمدا مرفوع الجبين، فبدا كأحد نبلاء الفراعنة الذين نري صورهم منقوشة علي الجدران في كتاب التاريخ، نظراته الواجفة اصطدمت بوجه الناظر فهاله منظره قال الناظر بهدوء مفتعل : "الفصل ده اتكنس!" انسخط وجه محمود المهدي صادقا في اللون بدلا ملامح كحبة الطماطم، هز رأسه كمن يقرر بديهة: "طبعا يا حضرة الناظر اتكنس!" قال الناظر في تبكيت وتهكم : "متأكد!" بصوته الخفيض ؟ الحيسيّ ردد محمود المهدي : "ويمين المصحف كنسته ومسحت التخت بالفوطة الزفرة هي والشبابيك" بلهجة ممطوطة ساخرة قال الناظر : "وكمان الشبابيك" طب بص كده شوف الشبابيك وشوف التخت!" ومد أصابعه بعصبية ومسح بها علي أقرب تختة ثم قربها من وجه محمود المهدي يكاد يخزق بها عينيه : "لسة مصر علي إنك كنسته؟!" ـ "وطربة أبويا كنسته!""الفصل ده ما اتكنسش!" "كنسته ياحضرة الناظر!" كصرخة قط شرس في وجه قط غريب جاء يتطفل علي منطقة نفوذه صرخ الناظر صرخة ذات مخالب : "أنا باقول إنه ما اتكنسشي!" مغلوب علي أمره همهم محمود المهدي : "خلاص ياحضرة الناظر ما اتكنسش ما تكنسش!" المؤكد أنه خانه التعبير لعله كان يقصد التعبير عن امتثاله لرأي الناظر إرضاء له. توقعت أنا أن الناظر لابد سيستوعب قصد محمود المهدي من وراء هذه العبارة التي اقتيد إليها رغما عنه فيما بدا لي، غير أننا فوجئنا بذراع حضرة الناظر ترتفع ثم تهوي علي وجه محمود المهدي بصفعة مدوية مفاجئة، أشعرتني بألم حاد في أذني كأنها هوت علي صدغي أنا. حط علي الفصل ذهول ورعب. ـ "إزاي ما اتكنسش ما اتكنسش؟! يعني إيه ما اتكنسش ما اتكنسش؟!" وقبل أن يطفر الدمع من عيني محمود المهدي عاجله الناظر بصفعة ثانية علي الخد الآخر. مكررا : "يعني ايه ما اتكنسش ما اتكنسش" كانت هذه أول مرة في حياتي أري فيها رجلا مهيبا يضرب رجلا محترما ويهينه جراء تقصير لم يكن من صفاته علي الإطلاق، وبسبب ذنب أرتكبته ريح هوجاء، من فرط الرعب الذي اعتراني وجدتني أبكي ثم أرفع أصبعي، فصاح بي المعلم السيد افندي جابر ـ ملوحا بالخيزرانة: "عايز إيه ياولد؟" وقفت مرتبكا، خفت من الخيزرانة إن لم أنطق، فقلت في وجل : "أصل يا أفندي اللي جاب التراب ده فسية العفريت!" فنهرني بخشونة : "طب اترزع اقعد!" ووضع الناظر يده تحت أذنه مستفهما : "فسية إيه؟!" فوقفت نصف وقفة قائلا: "العفريت!". ضحك التلاميذ برغمهم. وإذ تفككت الرهبة بالضحك، قال زميلي عطية ابراهيم شرف : "مظبوط ياحضرة الناظر! هي والله فسية العفريت!" حملق الناظر في وجه السيد افندي جابر وكلاهما واضح عليه الحرج : "وليه يا افندي ما قلتليش من الأول؟!" وكان السيد افندي جابر ضخم الجسد عالي الصوت قوي الحنجرة عنيفا عند اللزوم، لكنه غير مندفع، وفي نفس الوقت غير دبلوماسي، فاغتصب ابتسامة ملطفة، إذ يقول بصوته الرنان : "ماهو ياحضرة الناظر حضرتك ما.. ما تفاهمتش.. ما اديتش فرصة! أصل الموضوع تطور بسرعة علي كل حال ثم إن دماغي كان في دفتر التحضير اللي حضرتك مسكته عشان تراجعه، خفت أكون نسيت حاجة!" فأطرق الناظر وجعل يزوم، كأنه يزن كلمات السيد افندي جابر الذي بدا علي وجهه أنه ـ مثلنا ـ مستاء مما حدث لمحمود المهدي. في تلك اللحظة اعتراني شغف لمعرفة ما سوف يفعله حضرة الناظر بعد أن عرف الحقيقة، واتضح له أن المهدي مظلوم، هل سيعتذر له ويصالحه، وكيف؟ ويبدو أن محمود المهدي كان هو الآخر يترقب ما سوف يحدث وقد ظهرت براءته يبدو كذلك أنه اكتفي بذلك، إلا أن دموعه الحبيسة منذ تلقيه الصفعتين قد تفجرت وتطاير منها رذاذ لامس أنفي إذ إنني ـ بحكم ضعف البصر منذ الصغر ـ كنت أجلس دائما في أول تختة متاخمة لباب الفصل ثم إنه استدار بهدوء والصرف تاركا في اعيننا بوارق من عدوي دموعه الهاطلة. أما حضرة الناطر فقد شملنا بنظرة حادة، ثم قال بلهجة وعظية : "اسمعوا يا أولاد! كويس إنكم شهدتم بالحقيقة! ده واجب علي كل إنسان بيعرف ربنا ويتقيه!.. لكن مع الأسف.. وده درس يجب تفهموه. شهادتكم أصبحت بلا قيمة لأنها جاءت متأخرة.. يبقي الدرس اللي نتعلمه مع بعض: إنه كان واجب عليكم تنطقوا بالشهادة من أول ما شفتوني بانده لمحمود المهدي عشان أوبخه " قال زميلنا حنا إبراهيم صليب بخفة ظله وصوته الفوضوي الصريح : "خفنا أحسن تضربنا يا حضرة الناظر!" فهتف الناظر : "حتي لو كنت عارف اني حاضربك تقول شهادتك برضه! الشهامة يا أولاد إنك تقول شهادة الحق ومتخافش غير من ربنا سبحانه وتعالي!" ثم شوح في وجوهنا في قرف وعصبية : "جاتكم داهية في صباحكم اللي زي وشكم!" وخرج يتبختر كالمحمل وقد ملأ الهواء المواجه له ما بين طرفي الجبة فانتفخت وضاعفت من حجمه. وعلي الرغم من أن كلامه بهرني فإن شيئا ما ـ فيه أو فيّ أنا.. جعلني لا أصدقه حتي مع اقتناعي بما قال الي اليوم. وحينما حكيت لأبي في سهرة المندرة ما حدث قال : "كان الأولي به أن ينصحكم بوجوب الاعتذار عند الغلط وبعدم الاندفاع والمبادرة بالضرب!" وقال الشيخ محمد زيدان عسر في سخرية غامضة : "ألم يتخل لكم إن القاضي الذي يحكم بالإعدام قبل سماع الشهود يجب إعدامه؟!" قلت ببراءة كأنني أدلي بشهادة حق كالتي نصحنا بها حضرة الناظر : "لا! وكتاب الله لم يقل شيئا من هذا" فضحكوا جميعا ضحكة صاعقة زلزلتني، فاندفعت أجري الي الخلاء الفسيح. |
|
|
admin معلومات اضافية الجنس : العمل : الاقامة : العمر : 39 عدد المشاركات : 4284 تاريخ الانضمام : 14/05/2009 الدنيا ساعه فاجعلها طاعه | مصر في بعث جديد 20/1/2014, 3:07 pm |
| مصر في بعث جديد
ما كنت أتصور مطلقا أن يتم اللقاء بهذا الدفء وهذه الحميمية بين رئيس الجمهورية ولفيف من المثقفين. كنا متأهبين للدخول علي سيادته في حجرة الصالون بالطابق الأرضي لقصر العروبة، وقد هيمنت علينا رهبة أشاعها الجو الرسمي وما يفرضه اللقاء الرئاسي من بروتوكول. ولكن هذه الرهبة ما لبثت حتي تبددت بمجرد رؤيتنا لوجه الرئيس. خريطة مصر المرسومة علي جدار في الصدارة تلخصت في وجه الرئيس وهو يصافحنا واحدا بعد الآخر بحرارة فلاح مصري يستقبل في بيته بعض أبناء عمومته. كان يصافح كل واحد مرددا اسمه بحميمية فما أن جلسنا حتي انتفت الرسميات وزالت الحواجز الوهمية فإذا نحن مجموعة من الأصدقاء في ضيافة أخيهم الأكبر. هذا الشعور أخذ يتأكد ويتعمق من لحظة إلي لحظة في ظني هذه الأريحية التي أغدقها علينا الرئيس بكرم لم أشهد له من قبل نظيرا، لدرجة أن الجلسة استمرت أربع ساعات لم نشعر بمرورها علي الاطلاق. أول شعور مبهج تناقلته نظراتنا كان مبعثه الاطمئنان علي صحة الرئيس. كانت الشائعات ـ قاتلها الله ـ قد ألقت في روعنا أن الرئيس في وعكة صحية حرجة قد تضطرنا إلي التخفيف من ثقلنا اشفاقا علي صحته.. فإذا بالرئيس باسم الله ما شاء الله في كامل لياقته البدنية والنفسية والذهنية، وإذا هو الذي يبدي الرغبة الكريمة في بقائنا إلي ما نشاء من الوقت، ويطيل هو الحديث في محاولة لتشجيعنا علي الإفضاء بما لدينا من هموم وآراء ومقترحات. انساب الحديث علي السجية، طوف بنا في ذكريات حرب أكتوبر المجيدة، وفي التطرف الديني، وفي أسعار الطماطم والخضراوات، وتوشكي وشرق العوينات، ومياه النيل، وعلاقتنا بافريقيا، وفي القضية الفلسطينية، واستراتيجية الثقافة والاقتصاد، وفي البطالة، وفي الفتنة الطائفية، وفي التعليم العام، وأوضاع الجامعات المصرية. تحدثنا كذلك في الفنون والآداب، وفي اعادة بناء دار الأوبرا في نفس موقعها القديم بميدان الأوبرا وإزالة هذا الجراج الذي شوه منطقة وسط المدينة. وفي كل هذه الأحاديث كان الرئيس يتدفق في نوع من البوح الدافيء الصريح بما يشي بأن مصر بأكملها داخل رأسه، ككل شيء حاضر في ذاكرته. وفي حضرة الرئيس يشعر الواحد منا بالاطمئنان علي مستقبل عيالنا، وأن الأيام القادمة حبلي بمفاجآت سارة تتعلق بمستقبل الزراعة والصناعة والثقافة والتعليم والديمقراطية والحرية السياسية والاعلامية. إن أكبر وأهم محصول خرجنا به من لقاء الرئيس هو الرئيس نفسه. لقد خيل إليّ شخصيا أنه كان علي سفر ثم عاد إلينا قويا فتيا ليقود أحلام مصر وطموحاتها في بعث جديد. |
|
|
admin معلومات اضافية الجنس : العمل : الاقامة : العمر : 39 عدد المشاركات : 4284 تاريخ الانضمام : 14/05/2009 الدنيا ساعه فاجعلها طاعه | مصابيح تحت العمائم 20/1/2014, 3:10 pm |
| مصابيح تحت العمائم
في العام الدراسي 1949 ـ 1950 كنت في السنة السادسة بمدرسة بلدتنا الإلزامية، وكان عاما دراسيا حافلا بالمفاجآت. فلقد أحيل الناظر الشيخ حسن الزيات إلي المعاش لبلوغه السن القانونية، وجاءنا بدلا منه ناظر جديد من بلدتنا هو الشيخ عبدالباري عبادة. وأضيف إلي معلمينا كل من محمد افندي العسلي ـ الذي قيل إنه راسب في امتحان كفاءة المعلمين ولكن الوزارة اضطرت إلي تعيينه نظرا لازدياد الحاجة إلي معلمين ـ ومحمد افندي حسن ريشة الذي كان معلما في بلدة أخري لسنوات عديدة قبل أن تنقله الوزارة إلي بلدتنا، وبعد شهر أو أكثر قليلا انضم إلي المدرسة عبدالفتاح افندي مَهيا وهو أيضا من نفس البلدة وكان يعمل هو الآخر في بلدة أخري مجاورة، وهكذا أصبح جميع معلمينا من أبناء بلدتنا نعرف أهاليهم ويعرفون أهالينا : محمد افندي راضي حامد، عبدالمجيد افندي حامد، قمر افندي الشرنوبي، سيد افندي جابر، محمد افندي العسلي، محمد افندي ريشة، عبدالفتاح مهيا، إضافة إلي الناظر الشيخ عبدالباري عبادة وجميعهم من عائلات كبيرة ذات شأن في الزراعة أو تجارة المحاصيل الزراعية، كذلك أضيف إلي المدرسة فراش جديد لمساعدة محمود المهدي اسمه هو الآخر محمود ولقبه حمامو. كان الشيخ عبدالباري عبادة رجلا في غاية اللطف والدماثة وخفة الظل. في داخله طاقة مرح مقموعة بإرادته لكنها تغلبه في مواقف كثيرة فإذا بك أمام رجل فيه انسانية مبذولة، شديد الاقناع والمؤانسة بحلو الحديث وطلاوته وامتلائه بالحكمة والموعظة الحسنة، في صياغات بليغة لامعة جاذبة. كان معلما بالسليقة، خلقه الله علي هذا التصميم ليكون معلما، فزوده بموهبة الوضوح في الشرح الجلي، في القدرة علي التبسيط دونما ابتذال أو ترخص في الألفاظ. العبارات الوجيزة ذات الكلمات المعدودة التي تقرؤها في قصيدة من المحفوظات أو في موضوع في كتاب المطالعة تتحول علي لسانه إلي معان كبيرة جدا ومشرقة، نشعر ونحن نستمع إليها كأنها تتمدد في أدمغتنا فتوسعها، فتشعر لذلك بمتعة فائقة، تعلو الابتسامات ثغورنا طوال حصة الشيخ عبدالباري، ولعله أحد أهم معلميّ، حيث أشعرني في سن مبكرة بجمال وجلال اللغة العربية عند نطقه لها بإيقاع طه حسين حينما يقرأ علينا نصا. ولعله كذلك أول من لفت نظري إلي المسرحيات الشعرية لأمير الشعراء أحمد شوقي بك وبخاصة مجنون ليلي ومصرع كليوباترا، وكنت أشعر بالغيرة من ابنه الأصغر، زميلنا عبدالفتاح ـ توحه ـ الذي كان يحفظ مسرحية كليوباترا عن ظهر قلب. أما الشرح عند الشيخ عبدالباري، فبالبلدي، بالعامية الأليفة رغم امتلائها بشحنات ثقافية ومعان عميقة نشعر بلذة كبيرة إذ يوصلنا هو بالايحاء وباستخدام حركة اليدين وتعبيرات وجهه إلي إدراكها. إنه يشرح في لهجة ودود تشعرنا بشيء من الندية، كأننا صرنا رجالا مثله يجالسنا علي مصطبة داره ويتحدث إلينا في حديث ذي شجون. تنتفي الرهبة من الدروس الثقيلة المعقدة، يتحول الدرس ـ مهما ثقلت مادته ـ إلي موضوع للدردشة الحميمة، وحين يندمج في الشرح يمثل بأسمائنا في بعض المواقف كأن يقول : علي سبيل المثال أنا مَيَّلت علي جاري عطية شرف ـ الذي هو تلميذ معنا في الفصل ـ وقلت له: يا عطية يا اخويه أنا في وضع كيت وكيت، ألاقيش معاك قرشين لحد ما يخش محصول القطن؟ فعطية شرف ـ ويرد بلسان عطية شرف متقمصا شخصيته ـ رد عليّ وقال لي كذا كذا كذا، ويكون الرد فيه شهامة وحسن تصرف وإيثار. مما يجعل عطية شرف يرفع رأسه والزهو الجميل علي ملامحه بل علي ملامحنا جميعا إذ إننا لحظنا إن لم نكن كلنا قد صرنا عطية شرف فعلي الأقل صار عندنا استعداد للرد هكذا علي من يطلب منا طلبا كهذا. صوته كان خشنا وغير موسيقي. إلا أنه كان معبأ بالمشاعر الحية المؤثرة فيمن بسمعه تأثيرا قويا بقدرة صوته ـ رغم خشونته ـ علي تلوين العبارات تبعا لما تتضمنه من مشاعر ـ إنه وريث فن الخطابة وهو أحد أهم أبواب البلاغة العربية. وكنت كثيرا ما أحضر له خطبة في الجامع الكبير في ميدان الرحَبَة القريب من داره المتميزة بكونها مبنية بالطوب الأحمر وذات قراندات عريضة مطلة علي الحارة ومن خلفها زريبة للماشية إذ إنه في نفس الوقت يمارس الفلاحة بالإشراف علي زراعة أرض له يزرعها نفر من عياله وعيال عائلته. فإذا بخطبته علي المنبر غير تقليدية مثله تماما. ذلك أن مظهره نفسه غير تقليدي من الأساس، فبرغم حصوله علي عالمية الأزهر الشريف كان نادرا، بل نادرا جدا، ما يلبس الجبة والقفطان مع أن لقب الشيخ ملازم لاسمه وألصق به من لقب حضرة الناظر، الذي لم يكن يتحمس له علي كل حال.. لم يكن يتورع عن الذهاب إلي المدرسة بالجلباب والعمامة وبنفس الجلباب والعمامة يصعد إلي المنبر، يظلع في مشيته قليلا، يبدأ الخطبة بالحاشية المحفوظة ولكن باختصار شديد، بلا سجع بلا تكرار بلا إطناب، ينهيها مصليا علي النبي الكريم أشرف الخلق وخاتم المرسلين، ما يلبث حتي يقرن هذه الصلاة بعدم رضائه صلي الله عليه وسلم عن كذا وكيت من الأمور التي تكون قد حدثت خلال الأسبوع المنصرم، في بلدتنا أو في بلدة مجاورة أو حتي في مصر العاصمة أو ربما في فلسطين أو كوريا أواليابان أو في دولة لم يسمع بها عامة المصلين لكنهم سوف يعرفون منه الكثير عنها بعد قليل. يستعرض مافي الحياة من مظالم، وما في سلوك الناس من شين وعار، لا يستشهد بآية قرآنية أو حديث نبوي شريف إلا أن يكون الاستشهاد في المكان الملائم تماما حتي ليبدو وكأن الآية الكريمة أو الحديث الشريف قد قصدا إلي هذا المعني علي وجه التحديد، فكأن المصلين قد رأوا تشخيصا واقعيا حيا لمعني الآية أو الحديث لم يكن ليخطر لهم علي بال، فتمصمص الشفاه وتبتسم، تخرج من بينها همهات الاستحسان والاستغفار وطلب العفو والستر من الله. الواقع أن الشيخ عبدالباري عبادة لم يكن متفردا في هذه الظاهرة، بل لعله كان جيلا بأكمله من الأزهريين الخلص، الذين يحق لهم أن نصفهم بالمنارات دون تزيد أو مبالغة أو بقششة في الأوصاف، الكثيرون منهم حصلوا علي عالمية الأزهر الشريف وعادوا إلي قراهم علماء بغير وظيفة رسمية حكومية، اللهم إلا تفليح أرض ورثوها عن آبائهم، أو يباشر بعضهم عملا تجاريا موسميا، أو يعمل مأذونا شرعيا، أو يبقي رأسا لعائلة تفخر به وتكتسب بفضله عزة فوق عزة. إلا أن مجرد وجودهم في البلدة ـ أي بلدة ـ يكون مصدر إشعاع، ليس دينيا فحسب بل ثقافيا وعلي درجة عالية من الاستشارة والشعور بالمسئولية الانسانية أولا ثم الوطنية ثم القومية الإسلامية، يقدمهم الناس إلي منابر المساجد، والإمامة. ويلجأ إليهم الناس في طلب الفتاوي إذا استعصي عليهم أمر من الأمور. فإن أفتوا كانوا بشرا ومواطنين بالدرجة الأولي، يستخدمون عقولهم وما وهبوا فيها من علم، ليس لاخافة الناس وإرعابهم من عذاب القبر ونار جهنم، ليس بإظهار الله سبحانه وتعالي كمنتقم جبار فحسب، وإنما لتيسير الأمور وإرشاد العقول الجامحة وهدهدة النفوس الحائرة وتطمينها وزرع الأمل فيها اعتمادا علي الرحمن الرحيم القابل للتوبة غافر الذنوب متي استقام المذنب عن حق وصدق. في كل عائلة، كبرت أو صغرت، شيخ علي مستوي أو آخر من التعليم، ربما كان حاصلا علي ابتدائية أو ثانونية الأزهر، ربما عجزت أسرته عن إكمال نفقاته فعاد قبل الحصول علي العالمية، وربما أكمل العلم بعد العالمية وهو مقيم في بلدته يقرأ ويدرس ويعظ ويتقدم للإسهام في حل ما ينجم بين الناس من مشكلات قبل أن تتفاقم إلي عركة يعلم الله نهايتها. والواحد منهم متي لبس الجبة والعمامة جاهد حتي يكون جديرا بهما سواء أكمل تعليمه أو لم يكمل. ولقد شغلتني هذه الظاهرة الطيبة منذ الصغر، ظاهرة أن كل عائلة في البلدة فيها شيخ : ومن حسن الحظ أن إشعاع الإمام الشيخ محمد عبده كان في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين لايزال حاضرا بقوة. كان علمه الحداثي تطويرا عظيما للخطاب الديني، متماهيا مع سماحة الإسلام واتساع أفقه حيث العبادة تعني العمل، والصلاة تعني يقظة الضمير والتقوي، والتقوي تعني الإخلاص في تنوير العباد وإرشادهم إلي السلوك القويم. فكان طبيعيا أن يكون للإمام الأكبر أحفاد كالشيخ عبدالباري عباده وأبناء جيله العظماء الذين كان من حسن حظ جيلنا أن تربينا علي أيديهم المباركة. |
|
|
admin معلومات اضافية الجنس : العمل : الاقامة : العمر : 39 عدد المشاركات : 4284 تاريخ الانضمام : 14/05/2009 الدنيا ساعه فاجعلها طاعه | شــمندورة في بحر الحياة 20/1/2014, 3:11 pm |
| شــمندورة في بحر الحياة
المفاجأة كانت مزدوجة، وجهها الأول أن وزارة المعارف العمومية أباحت لنا ـ نحن تلاميذ الفرقة السادسة في مدرسة بلدتنا الإلزامية ـ أن نتقدم مباشرة لامتحان الشهادة الابتدائية جنبا إلي جنب التلاميذ أبناء المياسير الذين دخلوا المدارس الابتدائية في البندر بمصروفات باهظة، حيث يدرسون فيها دراسة أرقي تتضمن دراسة اللغة الانجليزية. الوجه الثاني للمفاجأة هو أن المعلم الذي سيتولانا حتي نحصل علي الشهادة الابتدائية بالفعل هو محمد افندي حسن ريشة. ..كان عمري خمس سنوات عندما ألحقني أبي بكتاب الشيخ حسن ريشة، مقره في دار متاخمة لمبني المدرسة هي دار بقوش. فيه تعلمت الأبجدية وأجدت كتابة حروفها بالاردواز علي لوح أسود في حجم الكراسة مؤطر بإطار من الخشب. وحفظت من القرآن الكريم جزئي : "عم"، و"قد سمع". وتدربت علي الصحو مبكرا والارتباط بواجب لابد من عمله. ومن يد الشيخ حسن ريشة، الذي كان قصير القامة نحيلا باسم الوجه حتي وهو يعاقب ويشخط ويضرب، تلقيت أول وآخر علقة في حياتي لا أنساها ما حييت، ليست لأنها بقيت في ذاكرتي مصدرا للألم يوجع نفسيتي ويلهب بدني بقشعريرة ورعدة إلي اليوم كلما تذكرتها، وإنما لأنها كانت درسا حاسما في تربيتي ظللت علي وعي به طوال عمري.. ذلك أنه كان في دارنا "جرامفون"، أو ما أسماه المجمع اللغوي بالحاكي. كانت ماكينته تعتمد علي ترسين في حجم كعكة كبيرة، إلا أن الترس مبطط ومثقوب من الوسط، مصنوع من معدن صلب مصقول ولامع كالذهب، وكان أبي يحتفظ بقطع غيار كثيرة وبعدة الفك والتركيب في درج ترابيزة أثرية كانت عندنا تتكوم فوقها علب الأسطوانات. وكنت كثيرا ما أعبث في هذا الدرج بدافع من الفضول. أعجبني ترسان لامعان شكلهما جميل كقرص الحلاوة السمسية. وخطر ببالي أن أجعل منهما لعبة أتيه بها علي العيال في الكتاب، أو علي الأقل يرونهما معي فلابد أنهم سينبهرون، وسأبدو لا شك ولدا مهما يقتني أشياء ثمينة! وهكذا وضعتهما في سيالتي قبل ذهابي الي الكتاب. بكرت في الذهاب فوجدت الكتاب لم يفتح بابه بعد. تجمعنا في باحة أمام دار الكتاب. كنا حوالي خمسة، أكبرنا سنا صلاح البيقي، الذي ملأ سيالته بالبلح الزغلول الأحمر من نخيل كثير في دارهم تجنباً لحقدنا عليه وزع علينا كل واحد بلحتين. تذكرت أن في سيالتي شيئا يتفوق علي بلح صلاح، فأخرجت الترسين. منظرهما بهر العيال. قال صلاح إنني أستطيع أن أصنع منهما عجلة تفر علي الأرض ذات يد كالعصا أرفعها بها وأجري وراءها. قلت : كيف؟ قال : هاتهما وأنا أضعها لك جدعنة وأمسك بهما ليشرح لي كيف ستكون. لحظتئذ فوجئنا بالشيخ حسن يخترق تجمعنا إلي الباب ومن ورائه العريف الذي تقدم مسرعا ففتح الباب ثم الشبابيك، ودخلنا، جلس الشيخ حسن فوق دكته وتربعنا نحن أمامه علي الحصير في دائرة مكونة من حوالي عشرين ولدا يري الشيخ وجوههم جميعا بكل وضوح. مرت لحظة صمت قصيرة. سلط الشيخ عينيه اللوزتين البارزتين علي وجهي، ثم فرد نظرته علي صلاح البيقي. ثم رفع الخيرزانة القصيرة وأشار بها نحو صلاح : "تعال هنا ياولد!" ثم أشار لي "تعال أنت كمان!". صرنا واقفين أمامه نرتجف قال لصلاح وهو ينقز بالخيرزانة علي كتفي : "إيه اللي انت أخذته من الولد ده؟ وريني!". فتردد صلاح قليلا ثم أخرج الترسين من سيالته وقدمهما للشيخ حسن الذي أمسك بهما في حرص خوفا من كسرهما: فلما فوجيء بصلابتهما ولمعانهما قال لي في دهشة : "إيه دول يا ولد؟!". تلعثمت : "دول.. حاجات أبويا راميها في الدرج وأنا خدتهم ألعب بيهم!". فزام زومة كزئير الأسد، لمع الشر الأحمر في عينيه إذ راح ينقل نظراته النارية بين وبين صلاح. أخيرا هز رأسه في توعد غامض، ودس الترسين تحت الشلتة التي يجلس عليها، شوح في وجهينا بالعصا آمرا : "إرجع مكانك أنت وهو!". رجعنا نلتقط أنفاسنا وقد توهمنا أن الأمر قد انتهي عند هذا الحد ثم توزعنا في مجموعات صغيرة متجاورة : مساعد العريف انفرد بالمبتدئين وانفرد العريف بمن أجادوا القراءة والكتابة وحفظوا أجزاء من القرآن، وانفرد الشيخ بمن تقدموا في الحفظ ليراجع معهم شروح معاني المفردات ومغازي الآيات وما إلي ذلك.. وهكذا انخرطنا جميعا في تسميع وإملاء واستهجاء إلي ما قبل أذان الظهر بقليل، حيث كان يتعين علينا أن نأخذ فسحة حتي يقوم الشيخ والعريف ومساعده والعيال الكبار بإقامة صلاة الظهر يؤمهم الشيخ، خلال تلك الفسحة لم أنتبه الي ان الشيخ قد أرسل في السر ولدا الي دارنا لينادي أبي، فما أن استؤنف الدرس بعد الفسحة إلا وأفاجأ بذاك الولد يدخل لاهثا من الجري، وفي أعقابه أبي الذي دخل مندفعا يبحث بنظراته عني، فشعرت انه يريد الاطمئنان علي أن مكروها لم يصيبني، وبالفعل بدا عليه الاطمئنان حينما لمحني جالسا بين فريق المبتدئين ممسكا بلوج الاردواز، صافح أبي الشيخ بحرارة "خير يا شيخ حسن": سحب الشيخ الترسين من تحت الشلتة وقدمهما لأبي، ايه دول يا احمد افندي؟ هتف ابي وهو يرميني بنظرة حائرة : الترسين بتوع الجرامفون! لسه جداد قوي ثمنهم يشتري شوار عروسة كانوا فين دول؟ صاح الشيخ بارتياح : الحمد الله ابنك العبيط ده ضحك عليه صلاح البيقي وخدهم منه! فاندفع صلاح يبكي مقدما ويصيح : "لا والله ياسيدنا! ده أنا شاريهم منه بشوية بلح" دارت بي الأرض من عنف الصدمة كأني تلقيت طعنة في قلبي بسكين، فاندفعت أجعر وأبكي واهرف بكلام عن لعبة الفريرة والسخي الحديد والعصا.. و.. وأبي يهز رأسه شاعرا بالفجيعة غير فاهم لما يسمع ويري، فصار يتلفت حواليه لا يدري ماذا يفعل، فأشار له الشيخ نحو الباب في احترام : "روح انت يا أحمد افندي وسيب لي انا الباقي!" فصافحه أبي وشد علي يده قائلا: "خلاص يا شيخ اتصرف انت سلام عليكم!". قام العريف وفتح دولاب الحائط وسحب الفلكة، جئ بصلاح أولا، وضعوا ساقيه بين الحبل والعصا، صار العريف يبرم العصا حتي خنق القدمين، ثم رفع العصا علي كتفه، ورفع مساعده طرفها الآخر علي كتفه، صار صلاح معلقا من قدميه، رفع الشيخ الخيرزانية وربربها في الهواء صائحا في صلاح : "اللي يضحك علي ولد أصغر منه وياخد منه حاجة يبقي ايه ياولد، يبقي نصاب ومحتال ومغتصب ما لا حق له فيه! يبقي ايه انطق". فيصيح صلاح: زي ما قلت يا سيدنا!، فيقول الشيخ : ولما هو كده بتعمله ليه؟!. فيرد من خالل البكاء : ماكنتش أعرف والله ياسيدنا، بكل هدوء قال الشيخ : طب اهي دي مناسبة عشان تعرف! خد!. الخيزرانة راحت ترتفع وتهوي علي قدمي صلاح. العجيب ان صرخاتي كانت أعلي من صرخات صلاح وكأن الضرب وقع علي قدمي أنا، عشرون خيزرانة بالتمام، فلما وضع ساقاي في الفلكة كانت قدرتي علي الصراخ قد تهالكت فصرت أصدر فحيحا من صوت مبحوح، شخط الشيخ ، آمرا بأن أقطع صوتي، ثم سألني : "اللي ياخد حاجة ابوه من وراه ويلعب بيها ويفرط فيها بشوية بلح يبقي ايه يا ولد؟ يبقي حرامي وطفس ودنيء: يبقي ايه ياولد" قلت مثلما قال صلاح:" زي ما قلت ياسيدنا" هتف الشيخ: "آدي جزاء الحرامي!" هوت الخيزرانة خمس مرات في سرعة ثم تملهت مع صوته: "وأدي جزاء الطفاسة!" خمس اخري الهبت قدمي، تلاها خمس جزاء الدناءة! ثم سأل العريف "حفظ كام سورة لحد النهاردة؟" قال العريف: "المفروض يختم جزء عم الاسبوع ده!" فارتفعت الخيزرانه وهوت علي قدمي بخمس ضربات صاح الشيخ معها: "عشان تعرف تختم جزء عم علي حق ربنا!" صرت كالحمل الذبيح زحفت علي ركبتي حتي ابتعدت عن محيط العصا، رقدت في البيت اسبوعا لا استطيع الوقوف علي قدمي، ولئن زال الوجع وعدت الي الكتاب حافظا جزء عم كما ينبغي، فإن العلقة بقيت محفورة في نفسي علي طول الزمان، الا انها باتت مثل الشمندورة المضيئة في بحر حياتي ترشدني الي شاطئ الأمان. ..كان عمري خمس سنوات عندما ألحقني أبي بكتاب الشيخ حسن ريشة، مقره في دار متاخمة لمبني المدرسة هي دار بقوش. فيه تعلمت الأبجدية وأجدت كتابة حروفها بالاردواز علي لوح أسود في حجم الكراسة مؤطر بإطار من الخشب. وحفظت من القرآن الكريم جزئي : "عم"، و"قد سمع". وتدربت علي الصحو مبكرا والارتباط بواجب لابد من عمله. ومن يد الشيخ حسن ريشة، الذي كان قصير القامة نحيلا باسم الوجه حتي وهو يعاقب ويشخط ويضرب، تلقيت أول وآخر علقة في حياتي لا أنساها ما حييت، ليست لأنها بقيت في ذاكرتي مصدرا للألم يوجع نفسيتي ويلهب بدني بقشعريرة ورعدة إلي اليوم كلما تذكرتها، وإنما لأنها كانت درسا حاسما في تربيتي ظللت علي وعي به طوال عمري.. ذلك أنه كان في دارنا "جرامفون"، أو ما أسماه المجمع اللغوي بالحاكي. كانت ماكينته تعتمد علي ترسين في حجم كعكة كبيرة، إلا أن الترس مبطط ومثقوب من الوسط، مصنوع من معدن صلب مصقول ولامع كالذهب، وكان أبي يحتفظ بقطع غيار كثيرة وبعدة الفك والتركيب في درج ترابيزة أثرية كانت عندنا تتكوم فوقها علب الأسطوانات. وكنت كثيرا ما أعبث في هذا الدرج بدافع من الفضول. أعجبني ترسان لامعان شكلهما جميل كقرص الحلاوة السمسية. وخطر ببالي أن أجعل منهما لعبة أتيه بها علي العيال في الكتاب، أو علي الأقل يرونهما معي فلابد أنهم سينبهرون، وسأبدو لا شك ولدا مهما يقتني أشياء ثمينة! وهكذا وضعتهما في سيالتي قبل ذهابي الي الكتاب. بكرت في الذهاب فوجدت الكتاب لم يفتح بابه بعد. تجمعنا في باحة أمام دار الكتاب. كنا حوالي خمسة، أكبرنا سنا صلاح البيقي، الذي ملأ سيالته بالبلح الزغلول الأحمر من نخيل كثير في دارهم تجنباً لحقدنا عليه وزع علينا كل واحد بلحتين. تذكرت أن في سيالتي شيئا يتفوق علي بلح صلاح، فأخرجت الترسين. منظرهما بهر العيال. قال صلاح إنني أستطيع أن أصنع منهما عجلة تفر علي الأرض ذات يد كالعصا أرفعها بها وأجري وراءها. قلت : كيف؟ قال : هاتهما وأنا أضعها لك جدعنة وأمسك بهما ليشرح لي كيف ستكون. لحظتئذ فوجئنا بالشيخ حسن يخترق تجمعنا إلي الباب ومن ورائه العريف الذي تقدم مسرعا ففتح الباب ثم الشبابيك، ودخلنا، جلس الشيخ حسن فوق دكته وتربعنا نحن أمامه علي الحصير في دائرة مكونة من حوالي عشرين ولدا يري الشيخ وجوههم جميعا بكل وضوح. مرت لحظة صمت قصيرة. سلط الشيخ عينيه اللوزتين البارزتين علي وجهي، ثم فرد نظرته علي صلاح البيقي. ثم رفع الخيرزانة القصيرة وأشار بها نحو صلاح : "تعال هنا ياولد!" ثم أشار لي "تعال أنت كمان!". صرنا واقفين أمامه نرتجف قال لصلاح وهو ينقز بالخيرزانة علي كتفي : "إيه اللي انت أخذته من الولد ده؟ وريني!". فتردد صلاح قليلا ثم أخرج الترسين من سيالته وقدمهما للشيخ حسن الذي أمسك بهما في حرص خوفا من كسرهما: فلما فوجيء بصلابتهما ولمعانهما قال لي في دهشة : "إيه دول يا ولد؟!". تلعثمت : "دول.. حاجات أبويا راميها في الدرج وأنا خدتهم ألعب بيهم!". فزام زومة كزئير الأسد، لمع الشر الأحمر في عينيه إذ راح ينقل نظراته النارية بين وبين صلاح. أخيرا هز رأسه في توعد غامض، ودس الترسين تحت الشلتة التي يجلس عليها، شوح في وجهينا بالعصا آمرا : "إرجع مكانك أنت وهو!". رجعنا نلتقط أنفاسنا وقد توهمنا أن الأمر قد انتهي عند هذا الحد ثم توزعنا في مجموعات صغيرة متجاورة : مساعد العريف انفرد بالمبتدئين وانفرد العريف بمن أجادوا القراءة والكتابة وحفظوا أجزاء من القرآن، وانفرد الشيخ بمن تقدموا في الحفظ ليراجع معهم شروح معاني المفردات ومغازي الآيات وما إلي ذلك.. وهكذا انخرطنا جميعا في تسميع وإملاء واستهجاء إلي ما قبل أذان الظهر بقليل، حيث كان يتعين علينا أن نأخذ فسحة حتي يقوم الشيخ والعريف ومساعده والعيال الكبار بإقامة صلاة الظهر يؤمهم الشيخ، خلال تلك الفسحة لم أنتبه الي ان الشيخ قد أرسل في السر ولدا الي دارنا لينادي أبي، فما أن استؤنف الدرس بعد الفسحة إلا وأفاجأ بذاك الولد يدخل لاهثا من الجري، وفي أعقابه أبي الذي دخل مندفعا يبحث بنظراته عني، فشعرت انه يريد الاطمئنان علي أن مكروها لم يصيبني، وبالفعل بدا عليه الاطمئنان حينما لمحني جالسا بين فريق المبتدئين ممسكا بلوج الاردواز، صافح أبي الشيخ بحرارة "خير يا شيخ حسن": سحب الشيخ الترسين من تحت الشلتة وقدمهما لأبي، ايه دول يا احمد افندي؟ هتف ابي وهو يرميني بنظرة حائرة : الترسين بتوع الجرامفون! لسه جداد قوي ثمنهم يشتري شوار عروسة كانوا فين دول؟ صاح الشيخ بارتياح : الحمد الله ابنك العبيط ده ضحك عليه صلاح البيقي وخدهم منه! فاندفع صلاح يبكي مقدما ويصيح : "لا والله ياسيدنا! ده أنا شاريهم منه بشوية بلح" دارت بي الأرض من عنف الصدمة كأني تلقيت طعنة في قلبي بسكين، فاندفعت أجعر وأبكي واهرف بكلام عن لعبة الفريرة والسخي الحديد والعصا.. و.. وأبي يهز رأسه شاعرا بالفجيعة غير فاهم لما يسمع ويري، فصار يتلفت حواليه لا يدري ماذا يفعل، فأشار له الشيخ نحو الباب في احترام : "روح انت يا أحمد افندي وسيب لي انا الباقي!" فصافحه أبي وشد علي يده قائلا: "خلاص يا شيخ اتصرف انت سلام عليكم!". قام العريف وفتح دولاب الحائط وسحب الفلكة، جئ بصلاح أولا، وضعوا ساقيه بين الحبل والعصا، صار العريف يبرم العصا حتي خنق القدمين، ثم رفع العصا علي كتفه، ورفع مساعده طرفها الآخر علي كتفه، صار صلاح معلقا من قدميه، رفع الشيخ الخيرزانية وربربها في الهواء صائحا في صلاح : "اللي يضحك علي ولد أصغر منه وياخد منه حاجة يبقي ايه ياولد، يبقي نصاب ومحتال ومغتصب ما لا حق له فيه! يبقي ايه انطق". فيصيح صلاح: زي ما قلت يا سيدنا!، فيقول الشيخ : ولما هو كده بتعمله ليه؟!. فيرد من خالل البكاء : ماكنتش أعرف والله ياسيدنا، بكل هدوء قال الشيخ : طب اهي دي مناسبة عشان تعرف! خد!. الخيزرانة راحت ترتفع وتهوي علي قدمي صلاح. العجيب ان صرخاتي كانت أعلي من صرخات صلاح وكأن الضرب وقع علي قدمي أنا، عشرون خيزرانة بالتمام، فلما وضع ساقاي في الفلكة كانت قدرتي علي الصراخ قد تهالكت فصرت أصدر فحيحا من صوت مبحوح، شخط الشيخ ، آمرا بأن أقطع صوتي، ثم سألني : "اللي ياخد حاجة ابوه من وراه ويلعب بيها ويفرط فيها بشوية بلح يبقي ايه يا ولد؟ يبقي حرامي وطفس ودنيء: يبقي ايه ياولد" قلت مثلما قال صلاح:" زي ما قلت ياسيدنا" هتف الشيخ: "آدي جزاء الحرامي!" هوت الخيزرانة خمس مرات في سرعة ثم تملهت مع صوته: "وأدي جزاء الطفاسة!" خمس اخري الهبت قدمي، تلاها خمس جزاء الدناءة! ثم سأل العريف "حفظ كام سورة لحد النهاردة؟" قال العريف: "المفروض يختم جزء عم الاسبوع ده!" فارتفعت الخيزرانه وهوت علي قدمي بخمس ضربات صاح الشيخ معها: "عشان تعرف تختم جزء عم علي حق ربنا!" صرت كالحمل الذبيح زحفت علي ركبتي حتي ابتعدت عن محيط العصا، رقدت في البيت اسبوعا لا استطيع الوقوف علي قدمي، ولئن زال الوجع وعدت الي الكتاب حافظا جزء عم كما ينبغي، فإن العلقة بقيت محفورة في نفسي علي طول الزمان، الا انها باتت مثل الشمندورة المضيئة في بحر حياتي ترشدني الي شاطئ الأمان. |
|
|
admin معلومات اضافية الجنس : العمل : الاقامة : العمر : 39 عدد المشاركات : 4284 تاريخ الانضمام : 14/05/2009 الدنيا ساعه فاجعلها طاعه | باعث الحلم ورائده 20/1/2014, 3:11 pm |
| باعث الحلم ورائده
كان معلمنا محمد حسن ريشة، الشهير بريشة أفندى، هو المتحمس الأكبر لقرار وزارة المعارف العمومية بجواز حصولنا ـ نحن تلاميذ السنة السادسة بمدرسة تفاس عمير الأولية الإلزامية ـ على الشهادة الإبتدائية فى العام الدراسى 1949 ـ 1950. - كانت سعادته الشخصية تقطر من عينيه اللوزيتين كعينى أبيه الشيخ حسن، تأتلق فيهما نظرات طفولية تفيض بالغبطة والسرور والزهو كأن الوزارة قررت ما قررت لخدمته هو، واستجابة لمساعيه، وتقديرا لحلمه الشخصى بأن تتحول مدرستنا من إلزامية أولية إلى ابتدائية تمنح شهادة، ولا الحوجة لسفر العيال وشحططة أهاليهم فى البنادر مبهوظين بنفقات فوق احتمالهم، مما سيشجع لا شك أبناء بلدتنا والبلاد التابعة لها وكذلك أهاليهم على أخذ التعليم بجدية، فلربما أتيحت لهم فرصة مواصلة التعليم إلى الجامعة، أو حتى الاكتفاء بشهادة الثقافة من السنة الرابعة بالتعليم الثانوي، أو شهادة التوجيهية من السنة الخامسة الثانوية، أو على أسوأ الظروف يكتفى التلميذ بالشهادة الإبتدائية، فبها يستطيع الحصول على وظيفة فى الميرى تضمن له مرتبا شهريا يعيشه حياة كريمة. هكذا كان يفكر أمامنا فى الفصل بصوت عال متهدج كأنه فى مناجاة ورعة يشكر بها الله على أنه جعله يعيش ـ مع أنه لم يجاوز الأربعين من عمره إلا القليل ـ حتى يرى حلمه قد تحقق وارتقت بلدتنا وأصبح فيها مدرسة ابتدائية بدون مصروفات. العقبى لها أن تصير مدينة ليكتمل حلمه الشخصي. فمنذ أشهر قليلة أفتتح فى بلدنا نقطة للشرطة على مقربة من قصر المدرسة ومن سراية العمدة عبده حامد وسراية ابن عمه شيخ البلد الشيخ فريج حامد، وتحيط بها عائلة البكاروة الكبيرة. وغدا أو بعد غد تتحول هذه النقطة إلى مركز فتنتقل بلدتنا إلى مرتبة البندر، ومن يدري؟ فلعلنا نصبح ذات يوم فنرى شارع داير الناحية مرصوفا وتجرى فيه عربات الترام على قضبانها، ويصير فى بلدتنا «موقف» لأوتوبيسات «الكافوري» أو «القصراوي» تنقلنا بسهولة إلى دسوق وطنطا وكفر الشيخ ودمنهور ثم تعيدنا بمواعيد معلومة منتظمة شأن البنادر والمدن الكبيرة! كل هذه التداعيات لمجرد أننا قد أصبح لنا حق الحصول على الشهادة الإبتدائية من مدرستنا التى سيصبح اسمها من الآن مدرسة تفاس عمير الابتدائية. هكذا كنت أسائل نفسى مبهورا بريشه افندى إذ يمشى فى تؤدة المختال بين صفوف التخت، موزعا دفء صوته ووميض نظراته وبريق حلمه على كل شاغليها، عائدا إلى المساحة الفارغة بين تخوم التخت والسبورة المعلقة على الحائط أمامنا خلف ظهره، ملوحا بذراعيه.، ضاما قبضتيه يفركهما فى حبور وهو يقول فى ثقة كانت ترفعنا عن المقاعد محلقة بنا فى فضاء مبهج وحميم: ـ «غدا سيكون منكم المحامى والطبيب والمهندس وأستاذ الجامعة والوزير ووكيل النيابة والقاضي، ومن يدرس؟ ولماذا لا فعلا؟ ربما يطلع منكم سعد زغلول جديد ومصطفى النحاس جديد!. والآن لابد أن نتعاهد يا أولاد. أن نعض بالنواجز على هذه الفرصة! يعنى نجتهد ليل نهار حتى تطول رقبتنا أمام الوزارة ونرفع شأن مدرستنا وشأن بلدتنا!. سوف تؤدون الإمتحان فى مدينة دسوق حسب ترتيبات المنطقة التعليمية!. لابد. هل تفهمون معنى كلمة لابد؟! يعنى لا مفر من أن نتفوق على مدارس المنطقة التعليمية كلها بعون الله! يجب أن نثبت للجميع أن أبناء الفلاحين أذكياء على طول الزمان!. تأكدوا أن الذكاء والجد والإجتهاد والنجاح كل ذلك لا شأن له بالفقر أو بالغني!. هيه؟! إتفقنا؟» ـ «إتفقنا يا أستاذ!» انتبهنا إلى أننا ننطق بهذا اللقب لأول مرة، إذ قد جرت العادة أن نقول للمعلم: يا أفندي، ويبدو أنه قد عيشنا فى جو التعليم العالى والإرتقاء فيه فجرت كلمة الأستاذ على ألسنتنا تلقائيا كأننا لحظتها كنا نفكر بعقل واحد نابع من حلم واحد نابع بدوره من أستاذنا ريشه افندي. ـ «أقول لكم شيئا. من الآن لا شأن لنا بالمواعيد الرسمية للمدرسة! يعنى إذا طلبتكم فى السابعة صباحا أو حتى فى منتصف الليل فلا أحد يتملص بأى عذر لأنى لن أعترف بأى عذر إلا أن أرى الشخص ميتا بالفعل أمامى ففى هذه الحالة فقط أستطيع أن أسامحه!. موافقون طبعا!» ـ «نعم ياأستاذ!» ـ ـسنحتاج لبعض كتب خارجية غير كتب الوزارة. وإلى كراريس إضافية!. وأى واحد منكم يعانى من هذه المشكلة مع أبيه يخبرنى وأنا أذهب إليه لأفضحه وأجرمه وأريه شغله»! نعم هكذا كان يفعل، ولا أزال إلى اليوم أندهش من جرأته على أهالينا ومن احتمالهم لها بأريحية باسمة وبدون أدنى غضاضة. والواقع ان أهل بلدتنا جميعا كانوا يحترمون معلمى مدرستنا ويقدرونهم أجل التقدير، ليس فحسب لأنهم كلهم من عائلات مرموقة بين الأعيان سواء فى الزراعة أو التجارة أو الصناعة الوليدة فى القرى كالنسيج والسجاد اليدوى فى ظل المناخ الاقتصادى الذى أشاعه طلعت حرب ببنك مصر الذى استولد التصنيع فى مصر، فالمعلمون فى أنظار أهالينا هم الصفوة المتعلمة، وفى بلدتنا كل متعلم محترم لأنه أصبح يعرف، ومن يعرف يخاف الله حقا ويتقيه إذا هو بات يعرف عقاب الفسق ومغبة الضلال. إلا ان ريشة أفندى كان يحظى من أهل بلدتنا بتقدير خاص مبطن بكثير من الحميمية، ربما لأنه أقدم المعلمين فى بلدتنا، ربما لأنه كان دون جميع معلمينا ذا طبيعة شعبية تجعله قريبا جدا من الناس، عامة الناس قبل خاصتهم، يزورهم فى دورهم ويزورونه فى داره الجديدة التى بنيت مؤخرا فى عزبة صباح على قناة القطان وسط أرض زراعية، وربما أحبه الناس لأنه ابن الشيخ حسن ريشة صاحب الكتاب الذى لايوجد متعلم فى بلدتنا إلا وتلقى العلم الأولى فيه قبل أن توجد فى بلدتنا مدرسة. لم يكن غريبا إذن ان يفاجئ ريشة افندى بعضنا فى داره فى أوقات معينة يتجسس على تلميذه ليعرف إن كان ولى أمر الولد استغله فى شغل أو مشاوير تعطله عن القيام بحل الواجب، عندئذ فالويل كل الويل لولى الأمر، أو أن يكون الولد قد ترك المذاكرة وراح يتصرمح خارج الدار، حينئذ فالويل له، لسوف يتلقى ولى الأمر من اللوم والتقريع والتوبيخ مالم يتلقه من أبيه، ولسوف يتلقى الولد صفعة أو صفعتين مشحونتين بالغضب على أنه الى ذلك سوف يأمر الولد بالاتيان بكتبه وكراريسه ليقوم بحل الواجب أمامه، كله أو بعضه، فإن أظهر الولد بلادة فى الذهن فحركه بما يوحى بصفعة متأهبة سوف يشعل النشاط والحرارة فى مخ الولد، كما ان تكشيرة ريشة افندى ستحفز كل طاقة الولد على الانتباه، وفى كل الأحوال لن يسلم الولد من شتيمة تلعنه، هى ساعة أو اكثر يقضيها ريشة أفندى فى دار أحد تلاميذه، ينصرف بعدها الى دار تلميذ اخر، هذا على الرغم من انه سوف يرانا ونراه فى باكورة الصباح فى الفصل الدراسي، ذلك الفصل الوحيد فى المدرسة الذى لم يعد يعرف خميسا أو جمعة ولا اجازة نصف السنة. ترى ما هى المادة الدراسية التى تخصص فيها ريشة أفندى ودرسها لنا؟ اللغة العربية والحساب والتاريخ والجغرافيا والعلوم والصحة والاشياء والرسم والخط والتربية الوطنية والاشغال، لقد حاولت التذكر فلم يستقم فى ذهنى ريشة أفندى فى مادة بعينها. فهل تراه كان معلما كشكولا يدرس كل المواد؟ وهل كان متفوقا فى كل المواد؟ المؤكد ان هناك معلمين آخرين شاركوه التدريس لنا فى تلك السنة الدراسية، لكنهم جميعا قد اختفوا داخل بدلة ريشة افندى باعتباره صانع الحلم وقائدنا إليه، كما انه كان رمزا للنهوض بالتعليم فى بلدتنا. |
|
|
admin معلومات اضافية الجنس : العمل : الاقامة : العمر : 39 عدد المشاركات : 4284 تاريخ الانضمام : 14/05/2009 الدنيا ساعه فاجعلها طاعه | على نفقـــــة أهـــــل بلـــــــــدتى 20/1/2014, 3:12 pm |
| على نفقـــــة أهـــــل بلـــــــــدتى
إلى جانب الشيخ عبدالبارى عبادة يحضرنى محمد أفندى راضى حامد. كان هو الآخر كتلة من الذكاء الخارق. إنه من الفرع الفقير فى عائلته الكبيرة الموسرة صاحبة السلطة والانفراد بالعمدية لعهود طويلة؛ فمنهم كبار المحامين فى دسوق، والمهندسين والمشايخ والأعيان الزراع. - وكان قصير القامة إلى حد ما، ممتليء الجسد، غير مهتم بالأناقة، وإن كانت بدلته ثمينة محترمة إلا أنها على شيء من النزهة، ودائما مفتوحة غير مزرورة السترة تكشف الصديرى كله وكتينة الساعة متدلية من عروتة إلى جيبه الصغير المسمى بجيب الساعة، وياقة القميص الناصع البياض مفكوكة الزرار لبحبحة عقدة رباط العنق التى صارت تلمع مما تشربته من عرقه المنثال من لغده وذقنه. أبيض البشرة بحمرة وردية فى الجبهة والصدغين، جميل السمت جذاب التقاطيع محدد الملامح قوى العينين حتى لكأن طربوشه الأحمر القصير مسنود على إشعاعها الهاديء النفاذ. فيما عداه والشيخ عبدالبارى فإن شخصية ريشة أفندى هى الماثلة الشاخصة لناظرى طوال ذلك العام الدراسى 1949 ـ 1950 وسواء كان هو وحده الذى درس لنا جميع المواد أو شاركه معلمون آخرون كالشيخ عبدالبارى أو محمد أفندى راضى أو قمر أفندى الشرنوبى فإنه كان حاضرا فى كل المواد. ذلك أنه أرشدنا إلى كتاب من خارج كتب الوزارة اسمه «المرجع»، فاشتريناه من مكتبات دسوق. إنه كتابه يشمل جميع المقررات فى جميع المواد الدراسية بعد تلخيصها أو ربما تخليصها من ثرثرة الشروح التقليدية المعتمدة على مبدأ التكرار لتثبيت المعلومات والتواريخ والأرقام وعناصر الموضوع فى أذهان التلاميذ. يقوم كتاب المرجع بعرض المواد بصورة مبتكرة تساعد على التركيز وتستخدم أسلوب الجداول التى ترسم خرائط مرئية للموضوعات تحيلها إلى عناصر وأفكار بروابط يسهل استيعابها. وكل درس يطرح مجموعة أسئلة إختبارية فورية ليجيب عليها التلميذ، ويقدم له الإجابة النموذجية فى نهاية الدرس ليختبر التلميذ نفسه عليها. بالإضافة إلى ذلك هناك ملحق يضم امتحانات الشهادة الابتدائية فى جميع المناطق التعليمية فى مدارس القطر المصرى فى العام الماضى وربما الأعوام التى سبقته. وكل امتحان مذيل بالإجابات النموذجية. وكان ريشة أفندى قد تركنا نستوعب ما نستوعبه من شروح طوال العام اعتمادا على كتب الوزارة. ثم، وقبل موعد الإمتحان بشهرين تقريبا، جعل من كتاب المرجع ساحة تدريب عملى على امتحانات متواصلة. أمضينا بقية العام نحرث فيه حرث-ا، سطرا بسطر وصفحة بعد صفحة ودرسا وراء درس كأننا فى ورشة حقيقية، فينا من صار قادرا على توجيه أسئلة فنية لزملائه؛ وفينا من قويت بديهته ونشطت ذاكرته فيدلى بالإجابة الفورية دون تعثر؛ فإن تعثر أنبرى أكثر من صوت يصحح له الخطأ أو يكمل بقية الإجابة دون نظر فى الكتاب. بقدر توهج ريشة أفندى فى قيادة هذه الورشة أصبح يرتبط فى ذهنى بالضلوع فى اللغة العربية كأنه لا يفقه فى العلوم سواها. أنا شخصيا، وغيرى طبعا، مدين له بفهم واستيعاب قواعد اللغة العربية فى سلاسة ومرونة وعذوبة لم أعرفها فى أحد قبله أو بعده. عبقريته كانت تتجلى فى ضرب الأمثلة التى يقيس عليها عند تطبيق القواعد: النحو والصرف، المصدر الميمى والاشتقاقات والاستعارات فى فنون البلاغة، وأساليب التهكم والسخرية والتعريض والتبكيت وتأكيد الضد وما إلى ذلك. فنماذجه التطبيقية ذات طابع حداثى مختلف عن نماذج الشيخ عبدالبارى الذى يستقى نماذجه من القرآن الكريم وفن الخطابة العربية فى صدر الإسلام وأشعار المعلقات والمعرى والمتنبى ومأثورات على بن طالب.. إلخ. أما نماذج ريشة أفندى وأمثلته فمن قصائد تغنيها أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب لأمير الشعراء أحمد شوقى ولحافظ ابراهيم شاعر النيل ولعلى محمود طه صرنا جاهزين لأداء الامتحان أمام إحدى لجان مدينة دسوق. جمع من أهالينا تكاليف سفرنا وإقامتنا لمدة أسبوع تقريبا. حجز لنا فى لوكاندة محترمة. بعد أن تناولنا العشاء فى المطعم راجع معنا المواد التى سنمتحن فيها غدا صباحا من خلال أسئلة يتوقع مجيئها. ثم أخلدنا إلى النوم مبكرا. فى الصباح لبس بدلته الجبردين الانجليزى ذات اللون الطحيني، ثم رافقنا إلى لجنة الامتحان وقد حفظ كل منا رقم جلوسه. بقى حتى اطمأن إلى أننا استوينا جلوسا على مقاعدنا الصحيحة وتسلمنا أوراق الأسئلة عن المادة الأولي، فقفل عائدا الى استراحة اللوكاندة ينتظر عودتنا. وهكذا أصبح ينتظرنا كل يوم ليطمئن على مستوى إجاباتنا، ويراجع معنا بسرعة ما قد يجيء من أسئلة فى مواد اليوم التالي، إلى أن انتهى الامتحان وعدنا إلى البلدة. تلقينا خبر النجاح منه، هو الذى تابع أرقام جلوسنا فى كشوف النجاح متابعة من يريد الاطمئنان على مدى نجاحه هو حقا، لقد كان النجاح نجاحه بالدرجة الأولي، ولم يكن ليستريح ألا اذا حققه بنسبة مائة فى المائة، وهذا ما تحقق له بالفعل، نجح كل تلاميذه بدرجات متقدمة. ولهذا كانت معظم التهانى موجهة اليه، وكان ذلك يسعدنا أيما سعادة. غير أن الشعور بالزهو لم يمنع ريشة افندى من أن يطلب من الناس تأجيل التهانى بالنسبة له حتى ينتهى من رسالته التى لا تزال لها بقية ربما كانت أهم مما تحقق! عندئذ بدأت مندرتنا وبقية منادر أولياء أمورنا تشهد جلسات مطولة فى مناقشات حارة قادها ريشة افندى وشارك فيها كل ضيوف المنادر ونساء الدور من وراء حجاب أو سافرات، حول مصيرنا المنتظر. فبعض أهالينا كانوا قانعين بهذا الحد من التعليم نظرا لعدم قدرتهم المادية على الصرف على تعليم جامعي. والبعض الآخر يخطط لإدماج الابن فى عمله التجاري. عدد قليل جدا من الموسرين رحبوا بمواصلة التعليم إلى ما لا نهاية. إلا أن الحل الأمثل كان جاهزا عند ريشة افندي : إن معهد المعلمين العام هو الوجهة المثلى والمناسبة لأبناء الفقراء وأبناء الأغنياء معا، سيما وأنه بالمجان، يعنى لن يتكلف الأهل سوى مصاريف الأولاد وهى مهما تعظمت يمكن تدبيرها بغير عناء، خمس سنوات ويصبح الولد معلما محترما، وتلك هى الوظيفة الوحيدة المضمونة للخريجين. فاقتنع الأهل جميعا بهذا الحل وباركوه. جمع منهم قروشا لتجهيز أوراقنا، وتصويرنا. ثم سافر إلى مدينة دمنهور حيث لا يوجد معهد للمعلمين ألا بها. قدم أوراقنا. وبعدها بقليل تحدد لنا موعد للكشف الطبى وكشف الهيئة. وفى اليوم المحدد للكشف سافرنا فى صحبته. أجرينا الكشف المسمى بالهيئة ومعناه الاطمئنان على لياقة الشكل وطلاقة اللسان. ثم جاء الدور على الكشف على مدى سلامة البصر. كنا جميعا مقبولين، إلا أن استمارتى كتب عليها تأشيرة تقول: يقبل بعد عمل نظارة طبية. لكأن الفرحة كوب زجاجى إرتج فى يدى ثم سقط على الأرض فتهشم محدثا دويا مزعجا. خيل إلى أن الجميع قد سمع الطنين المدوى فى أعماقي. وكان التأثير أكثر وضوحا على وجه ريشة افندي، سرعان ما اكتأب، وآبت فرحته إلى صمت مقهور طوال رحلة عودتنا إلى البلدة كأن الزرعة التى زرعها سيصيبها البوار فى جزء منها حتى ولو كان صغيرا. كنت واثقا من أنه حزين من أجلي، إذ هو موقن من أن هذه النظارة الطبية المطلوبة لى كشرط لقبولى فى المعهد تشكل عقبة ثقيلة الحمل على أبى المثقل بدستة من العيال زغب الحواصل لا ماء ولا شجر، فمن أين له بمبلغ لن يقل عن خمسة عشر جنيها قيمة تصنيع هذه النظارة التى لابد أن تكون بروشتة من طبيب عيون وقياسا عليها يقوم النظاراتى بتجهيزها. ــ «اتركها على الله! إن شاء الله ربنا يسهل!» إنتزعنى الصوت من شرودي. رفعت رأسى فإذا هو ريشة افندى واقفا بجوارى ومن خلفه زملائى فى اتجاههم إلى باب عربة القطار، فأدركت أن محطة البكاتوش التى سننزل فيها قد بدأ رصيفها يزحف نحو القطار. من المحطة ركب ريشة افندى ركوبته، وركب الزملاء ركائبهم. لم يبق سواى وزميلى مصطفى الخطيب، يفصلنا عن البلدة سبعة كيلو مترات سوف نمشيها واحدة ـ واحدة. ما أن وصلت إلى البلدة، حتى فوجئت بالخبر مقروءاً على وجوه كل من قابلني. كما أننى فوجئت بمن يقول بصوت متهدج من الفرح : ولا يهمك يا جدع خلاص قربت تنحل!!. فى المساء اتضح أن ريشة افندى فى طريق عودته إلى البيت استوقف كل من أقبل يصافحه وحكى له الحكاية. اتضح لى كذلك أن جميع أهل بلدتنا يحبوننى أكثر مما كنت أتوقع، وأنهم قد أحزنهم جميعا هذا الخبر، واستنكروا أن سببا كهذا يحول بينى وبين الانتظام فى التعليم، إنه فى أنظارهم سبب تافه ومقدور عليه، لم يمض أكثر من أربعة أيام حتى جاءنا ريشة افندى هاتفا بفرحة وهو يلف من باب المندرة فى اتجاهى مباشرة. أفرغ فى يدى سبعة عشر جنيها وقال لي : من غد تسافر إلى ابنة عمك المقيمة فى دمنهور، يذهب معك واحد من أبنائها الكبار إلى الطبيب ثم إلى النظاراتي. ثم عافانا بالعافية ومشي، ذلك حدث لا أنساه مطلقا، ولقد ظللت طوال عمرى وإلى اليوم أفخر بأن أول نظارة طبية أضعها على عينى كانت على نفقة أهل بلدتنا. |
|
|
admin معلومات اضافية الجنس : العمل : الاقامة : العمر : 39 عدد المشاركات : 4284 تاريخ الانضمام : 14/05/2009 الدنيا ساعه فاجعلها طاعه | إسحاق إبراهيم قلادة 20/1/2014, 3:13 pm |
| إسحاق إبراهيم قلادة
كان اسحاق ابراهيم قلادة طالبا فى السنة الثانية أو ربما الثالثة فى مدرسة طنطا الثانوية، فى الوقت الذى صرت فيه أنا طالبا بالسنة الأولى بمعهد المعلمين العام فى مدينة دمنهور فى العام الثانى والخمسين بعد التسعمائة والألف. عمرى آنذاك أربعة عشر عاما وعمر اسحاق دون العشرين بقليل. كنا أبناء حى واحد تمركز فيه إخوتنا المسيحيون الذين كانوا نعم الجيران، يتمتعون باحترام الكافة، يتميزون بحسن المودة، ويشتهرون بالصدق والأمانة فى كل تعاملاتهم. إبراهيم أفندى قلادة كان واحدا من أعيانهم. لم أكن أعرف شغلته بالضبط، هل كان يملك أرضا زراعية يفلحها ناس آخرون بالإيجار أو بالأجر؟ وهل كان تاجرا للمحاصيل والأقطان؟ أو موظفا فى المديرية؟ كل هذا جائز، إنما هو على الدوام نظيف الملبس كواحد من أعيان البلدة: الجلباب الصوف فى الشتاء، والبوبلين صيفا، والطربوش فى جميع الفصول. كانت قامته إلى القصر أميل، نحيف البدن فى صلابة، جارم الأطراف والملامح، يتغضن وجهه بأخاديد لينة تمنح وجهه عراقة وغنى ومهابة. حكيما كان فى كلامه القليل الموجز، الصادر عن تأمل سابق على القول، فردوده وتعليقاته أو تعقيباته دائما مفحمة غير قابلة للجاجة إلا أنها لطيفة مهذبة اللفظ قاطعة العبارة سمحة اللهجة والاشارة. يجلس مقصيا على ناصية حارتهم الملتحمة بشارع داير الناحية أو على مصطبة دكان المعلم رزق الله الخياط يستمع إلى الراديو فى شغف، أو إلى المتحدثين من حوله، فلا يتدخل فى حديث إلا حديث السياسة باعتباره مشاعا وعاما، أو يدخن السجائر اللف سارحا فى ملكوت الله. قد رزقه الله ثلاثة أبناء ذكور، أكبرهم كان موظفا مرموقا فى إحدى المدن البعيدة لم أعد أذكر اسمها ولا اسمه. الابن الثانى قيما أذكر اسمه أنيس وكان آنئذ على وشك التخرج فى احدى كليات جامعة الاسكندرية لعلها الزراعة أو ربما التجارة. إسحاق هو ابنه الثالث والأخير. لم يكن طويلا كأخويه، كذلك لم يكن قصيرا قزعة، ممتلئ الجسد فى شكل نحافة خادعة، رأسه أقرب إلى صلع مبكر، أو هكذا تخدع جبهته الكبيرة المدورة. أبرز ما فى وجهه عينان صقريتان، فيهما اتساع غير عادى لكنه غير ملحوظ للوهلة الأولى إذ أن البريق المشع منهما بقوة البصر والذكاء يخطف عين الرائى فيتوه فى عمقهما متتبعا الحركة الناشطة لييلتين سوداوتين كأنهما ظل لزورقين بعيدين فى حيد من خليج، تعلو بهما الأمواج وتهبط، فيغرقان فى زبد البياض لوهلة خاطفة ثم تظهران، فى اقتراب وابتعاد. إذا حدق فى شخص أربكه وأشعره بأنه ربما يسخر منه أو ربما شاهد عريه الداخلي. هوايته التى اشتهر بها بيننا هى الصيد بالنبلة، حيث كان بارعا فى صيد العصافير من فوق الشجر أو على شواشى حطب الأسطح أو حتى وهى طائرة. دقته فى النشان مساوية لسرعته فى الإطلاق فلا تخيب أبدا، يثبت الحصاة أو الزلطة الصغيرة فى مرقدها الجلدي، ويشد الخيطين المطاطين المربوطين فى قبضة من سلك مبروم متين على شكل مضرب الكرة البنج بونج، يشد على آخر ما فى الخيطين من مرونة وتمدد، فيما يده اليسرى ممسكة بعرقد الحصاة، فى لمح بالبصر يفلت الحصاة، فيرتد الخيطان بسرعة ينتج عنها قوة دفع تحيل الحصاة إلى رصاصة تندك فى جناح اليمامة أو تحت إبط الهدهد أو فى رأس القبرة فتهوى إلى الأرض تفرفر، فيلحق بها قبل أن ترتطم بالأرض وتموت. فى ذلك الحين كانت المذاكرة على شواطئ القنوات ووسط الحقول وتحت الأشجار قد أصبحت عادة شائعة بين طلاب بلدتنا الذين كثروا فى عهد الثورة بصورة ملحوظة ومفرحة. وكنا نلتقى اسحاق وفى جيبيه شيئان : النبلة والكتاب، يصطاد أو يقرأ. ذات تمشية على إحدى القنوات المتاخمة كنت أمشى وعيناى مركزتان على كتاب مفتوح بين يدي. فإذا بى ألتقى اسحاق جالسا تحت جميزة وارفة فوق ساقيه عتيقة يسمونها «كباس المعلم عبده». والمعلم عبده هذا أحد المسيحيين الأثرياء وصاحب هذه الأرض المترامية الأطراف. النبلة كانت فى حجره، قد التهى عنها مستغرقا فى القراءة، منفعلا بما يقرأ، لدرجة أن وجهه قد ضوعف حجمه حيث نشطت كل عضلة فيه، فامتلأت تقاطيع وجهه بالدم وازداد بريق عينيه تألقا. عندئذ انتابنى شعور بالغبطة، تمنيت أن أعيش لحظة استغراق كتلك، بكل هذا التركيز، ثم تطورت الأمنية إلى رغبة ملحة فى قراءة هذا الكتاب على وجه التحديد لعلنى أكتشف فيه ما يتكشفه إسحاق واستمتع هكذا مثله. مساء الخير يا إسحاق. هو الذى شجعنى على اقتحامه إذ ما كاد ظلى يزحف نحوه حتى رفع رأسه وأضاءت وجهه ابتسامة عريضة شجعتنى على التقدم ومصافحته ثم الجلوس بجواره على مدار الساقية، وهو تلك المصطبة الدائريةالعريضة التى تدور فوقها البهيمة المعلقة فى شعبة الساقية، قلت له : اراك مستغرقا ومستمتعا، فالكتاب إذن ليس من الكتب المدرسية بالتأكيد، كان الكتاب مطويا على اصبعه السبابة المدسوسة بين الصفحات عند الصفحة التى كان يقرأ فيها، وكان غلافه ملفوفا بورق السوليفان الأحمر القاني، وهو كتاب من القطع الصغير الذى يمكن دسه فى الجيب بسهولة، قال اسحاق بنفس الاستمتاع الذى كان يقرأ به : هذا هو العدد الجديد من سلسلة جديدة اسمها «كتابي» يصدرها ويحررها أديب مشهور اسمه حلمى مراد، تصدر شهريا، وفى كل عدد ينشر تلخيصات وافية لأهم وأحدث الكتب العالمية الشهيرة فى الأدب فى الفن فى العلم فى التاريخ، وأشهر وأهم كتب التراث العربى النادرة، وقصص وروايات قصيرة، ومسرحيات ورحلات ودراسات ومقالات فى النقد وحوارات مع شخصيات ذات شأن وهكذا وهكذا، ثم أضاف : أنا مواظب على اقتنائه كل شهر وثمنه عشرة قروش، ولكى يشبع فضولى قدمه لى لأتفرج عليه، فأمسكته من حيث كان اصبعه الفاصل بين الصفحات، استأذنته فى فك طيات الورق السوليفان الأحمر القاتم، فإذا الغلاف الاصلى فى غاية الروعة والجمال، عليه لوحة بالألوان السخنة، عبارة عن جسد لامرأة فاتنة لرسام هولندى شهير، وتحتها تنويه عن وجود دراسة عنه داخل العدد، الطباعة فاخرة، جلد سميك وورق ناعم، ورسوم وصور فوتوغرافية، ما كل هذا الجمال؟ كتاب فى حجم كف اليد يحوى كل هذه المواد، مأدبة ثقافية مشبعة ليس يعيبها سوى ان العشرة القروش تكاد تكون نصف المصروف الذى أتقاضاه من أبى طوال شهر بأكمله فى مدينة تبيع كل شيء حتى الماء والهواء. فلما استطرد اسحاق متحدثا عن الكتب والمجلات الأدبية التى تصدر فى مصر ويواظب هو على شرائها أو استعارتها اتضح لى ان هناك عالما بأكمله ليس عندى اية فكرة عنه : «كتابي»، «الكتاب الذهبي»، «الغد»، «الرسالة الجديدة»، «كتب للجميع»، «اقرأ»، «مجلة الأدب»، مجلة قصتي».. الخ. وكان الأدباء الذين عرفتهم هم طه حسين وتوفيق الحكيم وعباس العقاد والمازنى ومحمود تيمور وعلى الجارم ومحمد فريد ابوحديد وعبدالرحمن الخميسي، وكنت قد تلقيت نصيحة مهمة من كل من الشيخ محمد زيدان عسر والشيخ عبد الفتاح جابر الذى لم يكمل هو الآخر تعليمه الأزهري، بأنى إذا أردت ان أكون كاتبا وأديبا بحق فلابد أن أقرأ مقدمة ابن خلدون وكتاب «الأمالي» لأبى على القالى وكتاب «البيان والتبيين» للجاحظ، وكتاب «أدب الكاتب» لابن قتيبة، ومن حسن الحظ ان وجدت هذه الكتب كلها فى مكتبة ابن عمى الشيخ على محمد عكاشة، فكان أبى يستعيرها منه على اسمه ثم يتركها فى متناول يدي، مبديا استعداده، لان يشرح لى ما يغمض على من المفردات والجمل المركبة، مقدما لى نصيحة لاأزال اشكره عليها الى اليوم اذ اننى لم اتوقف عن العمل بها حتى الآن، تلك هى ان احتفظ بكشكول ادون فيه ملخصات ما اقرؤه، وانقل بخط يدى ما يستهوينى من طرائف وملح وأبيات شعر تصلح للاستشهاد بها وتضمينها أى خطاب يعن لى فيما بعد. حدثت اسحاق عن هذا، وسألته إن كان هو الآخر يفعل ما أفعل، فقال : لا، ثم ابتسم ابتسامة شعرت انها ربما تسخر مني، أو ربما أوهمنى بريق عينيه النفاذ بهذا، لكنه سرعان ما استدرك قائلا ان الطريقة التى اتبعها فى القراءة مهمة أى نعم بل هى مهمة جدا جدا ولكن الأهم منها هو التحاور مع الأدب المعاصر ابن اليوم والساعة!.. وحدثنى عن كتاب محدثين لم أكن سمعت عنهم أو قرأت لهم شيئا، لم يعلق بذهنى منهم سوى اسم الدكتور مصطفى محمود الذى أطنب فى الحديث عنه بفخر باعتباره من مدينة طنطا، وكان يبدو كأنه على علم بتفاصيل حياته من كونه متخصصا فى طب الأمراض الصدرية ويفهم فى الفلسفة والى ذلك يعزف على آلة القانون أو ربما آلة العود ولا مانع لديه من المشاركة مع فرقة موسيقية فى إحياء أحد الأفراح. من يومذاك أصبح اسحاق من أقرب الناس الى بين طلاب بلدتنا أصبحت أحب مجالسته والتمشية معه، والاستماع اليه، والإفضاء له بكل ما يدور فى ذهنى من أفكار. |
|
|
admin معلومات اضافية الجنس : العمل : الاقامة : العمر : 39 عدد المشاركات : 4284 تاريخ الانضمام : 14/05/2009 الدنيا ساعه فاجعلها طاعه | عدلنى على السكة واختفى! 20/1/2014, 3:13 pm |
| عدلنى على السكة واختفى!
.. فى إجازة صيفية تالية كنت قد هجرت قول الشعر والزجل إلا فى بعض مناسبات تقتضى المجاملة أو الانتقاد والسخرية. وبدأت أكتب ما تصورت أنه قصة رومانسية؛ بأسلوب مستعار حاكيت فيه أصحاب الأساليب الرصينة كالمنفلوطى وطه حسين، مع أساليب مستحدثة ذات رشاقة وأناقة كيوسف السباعى وإحسان عبد القدوس وإبراهيم الوردانى وقد ندمت أشد الندم على تهورى مرتين، الأولى حينما جرؤت وقدمتها لمطبعة التوفيق بدمنهور وطبعت إيصالات بثمنها وقمت بتوزيع أغلبها على زملائى وأساتذتى فى المعهد، كل من يعطينى خمسة قروش أعطيه إيصالا مطبوعا يتسلم بموجبه نسخة حينما تنتهى طباعتها، وقد شجعنى الأساتذة بحفاوة فاقتدى بهم الزملاء فاستطعت جمع مبلغ يغطى تكاليف الطباعة سلمته للمطبعة ولم يبق إلا القليل جدا من التكاليف سأدفعها عند الاستلام الذى سيتم بعد أسابيع قليلة، المرة الثانية حينما جرؤت وأعطيت المخطوطة الأصلية لإسحاق طالبا منه أن يقرأها ويفيدنى برأيه فيها. ولقد رحب هو بذلك كل الترحيب وأخذ الكراسة بحفاوة ثم طواها فى جيبه واعدا بالسهر عليها والتلاقى غدا فى مثل هذا الوقت ليبلغنى رأيه فيها بالتفصيل. وقد كان. خرمنا من عزبة المعلمين المواجهة لدارهم، إلى نخيل المعلم عبده. تمشينا على إحدى القنوات خارج النخيل. الأرض من حوالينا مترامية الأطراف قد فرشت ببساط من البرسيم الأخضر أو لعله الأرز؛ والشمس من فوقنا رمانة تتأرجح فوق ملاءة من البنفسج الفاتح الحزين المبهج معا. وقد لاذ إسحاق بالصمت المريب، كأنه ينصت فى إمعان إلى سيمفونية رعوية أليفة يقودها صوت نقيق الضفادع وتشارك فيها أصوات خرير المياه كنت أشعر أنى فى حالة من الشفافية بدرجة جعلتنى أدرك عن يقين أن إسحاق ليس معجبا بما كتبته. دوران الساقية طردنا إلى جميزة بعيدة. جلسنا ـ نصف جلوس ـ على نتوءات عريضة متفرعة عن جذرها المتشعب على مساحة كبيرة. عندئذ سحب إسحاق الكراسة من جيبه فى وقار وجدية، أبقاها بين يديه لبرهة وجيزة وهو يحدق فيها، ثم قال: لى رجاء عندك! قلت: بكل سرور تفضل، قال: احك لى هذه القصة التى كتبتها فى هذه الكراسة اعترانى ارتباك عظيم، قلت لائذا بمحاولة للسخرية: هل غمضت عليك إلى هذا الحد؟! قال بكل بساطة: نعم! ثم استدرك: مع أنها تبدو حدوتة صالحة للكتابة لكننى لم أستوعبها مع الأسف وأحب أن تحكيها لى شفاهة من غير كتابة! حاول أرجوك!.. شرعت أحكى له زبدة الحدوتة فى شكلها البدائى. ويبدو أن حالة من الدفاع عن النفس قد بثت فى مخيلتى شيئا من الوهج، حتى لقد كنت أثناء الحكى أتكشف الجوهر الحقيقى للحدوتة التى كانت حشدا من المثاليات والتضحيات والعذابات المغذاة بأسانيد من الشعر القديم والمأثورات اللماعة وما إلى ذلك من حشو رومانسى ساذج. كنت كأننى أحكى شيئا لا علاقة له بما كتبته فى الكراسة وإن كانت الحدوتة هى نفسها إلا أنها فى اللهجة الدارجة المحملة بزخم الواقع المادى قد سلست وصارت منطقية قابلة للتصديق وللحدوث فى الواقع. حقيقة الأمر أن رد فعل الحكى على وجه إسحاق وما كان يرتسم على ملامحه من إعجاب وانبهار، كان هو الباعث على استرسالى وتوهجي.. فآمنت من تلك اللحظة أن المصداقية هى الجسر السالك الآمن بين الكاتب والقارئ، وأن رد فعل المصداقية هو الباعث الأكبر على نمو الكاتب وتطوره واستمراره. ما أن انتهيت من الحكى المباشر حتى قرب اسحاق عينيه من عينى كأنه يريد أن يقرص بهما أذنى عبر عيني؛ ثم قال: ولماذا لم تكتبها هكذا؟! بنفس الطريقة التى حكيتها بها الآن. أأنت فعلت هكذا بالقصة! أثقلت كاهلها بحمولة مخيفة من الأدب العتيق تحتاج مفرداته الى البحث عن معانيها فى مختار الصحاح او لسان العرب! لقد فطست القصة بل سحقتها فماتت! خنقتها العبارات المجعلصة فطلعت روحها من اول صفحة بل من اول سطر! واستمررت حضرتك فى الكتابة عن جسد ميت!.. لحظة ذاك كنت على قناعة تامة بكل حرف نطق به بل لقد ادركت هذا من تلقاء نفسى قبل أن يقوله وشعرت بحب شديد له وحينما تأهبنا للمشى عائدين الى البلدة سحب من سيالته نوتة جيب سميكة بغلاف سميك كالأجندة؛ قال: هذه رواية قصيرة أو قصة طويلة من تأليفى ! اقرأها الليلة وأعدها لى غدا لأسمع رأيك فيها. كدت اختطفها من فرط الشغف رفعت الغلاف بعنوان: (عودة سجين) تأليف اسحاق ابراهيم قلادة. رفعت صفحة العنوان: الصفحتان المتقابلتان مرسوم عليهما بالحبر الشينى مجموعة وجوه متنوعة تكاد تنطق من فرط الدقة والتشخيص، لرجال ونساء، كل وجه مكتوب تحت اسمه انهم ابطال القصة. أذهلنى جمال الرسم، هل هو بريشتك يا اسحاق؟ تبسم قائلا: إنى أجيد الرسم أى نعم ولكن هذه الرسوم لصديقى احمد ابراهيم حجازى وهو زميلى فى مدرسة طنطا الثانوية . عكفت على القصة فقرأتها مرتين لحست دماغى. ليس فيها ثمة من اسلوب ادبى مع انها باللغة العربية الفصحى انما فيها بلاغة الصورة الفنية التى رسمها لحياة ذاك السجين العائد فيها ايضا سلاسة، كما ان شخصياتها واضحة المعالم ولها اشباه ملموسة فى الواقع أيقنت ان اسحاق سيكون من ابلغ كتاب القصة والرواية فى السنين القليلة القادمة ولسوف يحبه القراء مثلما أحببته. وقد حدث بالفعل ما يبشر بأنه قد صار على عتبات الشهرة والمجد. ففى اجازة نهاية العام الدراسى التالى وكان اسحاق فى السنة الرابعة الثانوية! صحونا ذات يوم على خبر يتداوله اصدقاؤنا المسيحيون بنبرة فيها قدر من الاسى والخوف على مستقبل اسحاق. فما ان رأيت ابراهيم افندى قلادة على مصطبة المعلم رزق الله الترزى ومعه المعلم عزيز عبده ابن المعلم عبده صاحب الأطيان حتى اندفعت اليه استطلع جلية الخبر فأخرج من سيالته خطابا جاءه لتوه من اسحاق راح يقرؤه علينا بصوت ظاهره الأسف وعدم الرضا لكن باطنه يشى بالزهو والرضى سرعان ما وهمت الموقف: ذلك انه بعد نجاحهما فى امتحان شهادة الثقافة قرر كل من اسحاق وزميله الرسام احمد ابراهيم حجازى ان يعيشا بمدينة القاهرة ويتقدما الى مجلة التحرير الوليدة التى انشأتها حكومة الثورة وفهمت من الخطاب انهما قد التحقا بالفعل بالمجلة كمحررين تحت التمرين. من فرحتى بالخبر صرت من قراء مجلة التحرير أترقبها وأتفحصها. وبالفعل بدأت رسوم حجازى تظهر على صفحاتها لكن ما لبث ان اختطفته مجلة وليدة هى الاخرى اسمها صباح الخير تصدر عن مؤسسة روز اليوسف، وأما اسحاق فقد فوجئت به بعد اشهر قليلة قد عاد الى البلدة، فهرعت اليه قال لى انه انتقل مع حجازى الى صباح الخير يكتب لباب (اعترفوا لى) الذى يقدمه مصطفى محمود، وبعض الابواب الاخرى لكنها بالمجان باعتباره تحت التمرين. وهو لابد أن يعيش، لهذا قرر أن يبحث عن وظيفة وأن يراسل المجلة ليشبع هوايته. وعندما عدت الى البلدة فى اجازة نصف السنة قيل لى ان اسحاق ـ عقبال أملتك ـ حصل على وظيفة مرموقة فى شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى وبقيت أنتظر ظهور اسم اسحاق فى الصحف على قصة أو مقال. ولكن الايام طالت خلالها توسعت قراءتى ونضجت آرائى واصبحت على صلة وثيقة بالادب الحديث وكتابه المحدثين. وكان اطرف ما فى الامر اننى حينما قرأت ليوسف ادريس ويوسف الشارونى ومصطفى محمود وصلاح حافظ وفتحى غانم خيل الى انهم جميعا يقلدون اسحاق فى قصته (عودة سجين)، نفس البساطة مع عمق الرؤية وقوة الدلالة وكانت السنون تمضى واسحاق يطل برأسه فى مخيلتى من حين الى حين بإلحاح واشتياق لمعرفة أخباره. اذكر أننى فى ستينيات القرن العشرين ارسلت له بالبريد خطابا.. فتلقيت منه ردا صادما؛ قال فيه انه تذكرنى بصعوبة شديدة ولكن بصورة غير كاملة كانت كلماته تفيض بالأسى؛ كما كان من الواضح أنه نسى أمر الكتابة تماما!. ومنذ ذلك التاريخ إلى اليوم لا أعرف عنه أى شىء على الإطلاق. |
|
|
admin معلومات اضافية الجنس : العمل : الاقامة : العمر : 39 عدد المشاركات : 4284 تاريخ الانضمام : 14/05/2009 الدنيا ساعه فاجعلها طاعه | عباس محمد عباس 20/1/2014, 3:14 pm |
| عباس محمد عباس
حى الأزاريطة فى الإسكندرية فى أواخر خمسينيات القرن العشرين كان أكثر أحياء الإسكندرية حميمية بالنسبة لي. كان يبدو مدينة صغيرة قائمة بذاتها، لها طابعها الخاص الذى يميزها عن كل الأحياء المتاخمة لكورنيش البحر المتوسط الواقعة على خط ترام الرمل ذى الطابقين. شكل الأزاريطة فى الظاهر إفرنجى يعمه الهدوء. تستطيع أن تجول فى حواريه المحدودة والمتوازية، أن تقيم علاقة صداقة مع كل شئ فيه حتى أحجار العمائر والفيلات، مع الأرصفة العريضة النظيفة، مع بقايا حدائقها العريقة وإن كانت مهجورة. عندئذ يتضح لك شيئا فشيئا أن «أولاد البلد» سقوا هذه الأبنية وهاتيك الحوارى والأرصفة والمقاهى والمحال من روحهم المرحة، فطبعوها بالمزاج المصري، فكأنها ضاحية يونانية مصرها المزاج المصرى أو لعلها هى التى تمصرت بمحض اختيارها عشقا فى حلاوة الروح المصرية ذات الأريحية الحضارية العريقة. فيها البقال الجريجى يتكلم بالتطجين السكندرى فى خفة ظل تكشف عن سريرة نقية بريئة مفعمة بالجدية فى العمل والمصداقية فى التعامل. وفيها ورش لسمكرة وميكانيكا وكهرباء ودهان السيارات لكنها بغير ضجيج بلا صخب. فيها عتقية لرتق الأحذية القديمة، تجاورها فترينات تعرض أفخم الأحذية الجديدة وأفخم الملابس الواردة من أشهر بيوت العالم. فيها ترزية للبدل والقمصان الأفرنجى وللجلاليب البلدي. فيها أفران للخبز البلدى وأخرى للخبز الأبيض الفينو بجميع أنواعه وأشكاله. وإلى ذلك كله فيها الحاج فكرى أكبر وأشهر زجالى الإسكندرية فى عصر ازدهر فيه فن الزجل فى الإسكندرية حتى أصبح فى كل حى من أحيائها زجال مشهور فى مصر كلها: الحاج فكرى ـ وهو ترزى عربى ـ وأبو فراج ورزق حسن وسيد عقل ومحمود الكمشوشى ورشدى عبدالرحمن وكامل حسنى وأمين قاعود ومحمد مكيوى وكامل الإسناوى وسيد زيادة وأحمد طه النور وغيرهم وغيرهم. وفى حى الأزاريطة يسكن صديقى الأديب الشاب عباس محمد عباس، الذى تعرفت عليه بطريقة قصصية محضة. لا عجب فالحياة قصص داخل قصص من داخلها قصص. كنت آنذاك أعمل مندوب مبيعات فى شركة لتصنيع واستيراد البويا، يستغرق خمس أو ست ساعات يوميا، من التاسعة صباحا إلى الثانية مساء حسب ظروف السوق، حيث أركز كل يوم على حى واحد من أحياء الإسكندرية وضواحيها، ثم أعود إلى مقر الشركة فى حى محرم بك. أترك الطلبيات للإدارة لتتولى توصيل البضاعة إلى طالبيها. وكنت أسكن حجرة فى بيت فى شارع الحياتى المتفرع من شارع عرفان فى نفس الحى قريبا من مقر الشركة. فى البيت المواجه لحجرتي، فى شقة فى الطابق الأرضى يسكن ثلاثة من الطلبة الفلاحين مثلى إلا أنهم من قرى مركز كوم حمادة. ولم أكن لأعبأ بوجودهم لولا أننى لاحظت أنهم دائما يمسكون بكتب أدبية كنت أعرفها من أغلفتها الحميمة، لإبراهيم المازنى وعباس العقاد وطه حسين وسلامة موسى ومصطفى صادق الرافعى وتوفيق الحكيم ومحمد تيمور. هذه الكتب قربت المسافة بينى وبينهم فكأننى اكتشفت ناسا من عائلتى فى بلاد الغربة. هم الآخرون شاهدونى أكثر من مرة أحمل نفس الكتب. صرنا نتبادل التحية بحرارة. ثم قام الود بيننا بسرعة فائقة. دعونى لشرب الشاى معهم، فرحبت على الفور سيما وأننى كنت أشم رائحة الشاى الفلاحى المطبوخ على نار هادئة تتصاعد من شبابيك شقتهم فتنعشني. دخلت شقتهم، فلم أعد أغادرها إلا للنوم آخر الليل وخلال ساعات العمل القليلة أثناء النهار. أقمت معهم تقريبا. أحدهم طالب فى قسم اللغة العربية واللغات الشرقية بكلية آداب الإسكندرية. والثانى طالب فى نفس الكلية ولكن فى قسم فلسفة واجتماع. والثالث طالب فى قسم التاريخ. ثلاثتهم كانوا من قراء الأدب ومتذوقيه. وكانوا مجتهدين فى جدية تدعو للاحترام والحب، وكان لابد لهم من الاستفادة من وجودى بينهم خلال المذاكرة التى لا يتوقفون عنها، حتى وهم يتبادلون وجبات الطعام التى نشارك جميعا فى تكاليفها وإعدادها بأنفسنا فى المطبخ الذى استمرأنا الجلوس فيه. طالب الفلسفة يعطينى كتاب مبادئ الفلسفة ليوسف كرم ـ مثلا مثلا ـ مفتوحا على الصفحة التى كان يذاكرها منذ لحظات طويلة مضت. ثم يلخص لى ما يتضمنه الدرس من عناصر موجزها كذا وكيت. ومطلوب منى أن أراجعه إذا أخطأ فى عنصر أونسى معلومة أو قصر فى شرح ما فهمه، وفقا لما أراه فى الكتاب. وهكذا الأمر بالنسبة لطالب اللغة العربية وطالب التاريخ. حتى جاء وقت صرت فيه مؤهلا لأداء الامتحان بنجاح فى هذه الأقسام الثلاثة من كثرة ما راجعت، اضافة إلى فرط حبى الشديد لهذه المواد الدراسية التى كنت أراجعها بشغف وتركيز ورغبة حقيقية فى استقطاب المعرفة من جميع مصادرها فى الكتب وفى الحياة على السواء. ولذلك فتلك السنوات القليلة من حياتى فى الإسكندرية تعتبر من أهم وأخصب فترات حياتى فى زمن الشباب المبكر. فى نفس الوقت كنت متابعا للصحافة بوجه عام، والصحافة الثقافية بوجه خاص. وكان هناك مجلة جديدة اسمها (البوليس) تصدر عن نادى صباط الشركة يرأس تحريرها أحمد الوتيدى ويدير تحريرها سعد الدين وهبه الذى كان آنذاك ضابط شرطة وفى نفس الوقت طالبا منتسبا بكلية آداب الإسكندرية قسم فلسفة واجتماع. ومن الواضح أنه هو الذى أعطى المجلة طابعا ثقافيا، ولأنه كان يكتب القصة القصيرة فقد أفرد لها مكانا ثابتا على صفحاتها فى كل عدد. وذات يوم قرأت فى أحد أعدادها قصة بعنوان: (بلا خوف) لكاتب جديد اسمه عباس محمد عباس. لم يكن عندى أى فكرة سابقة عنه رغم أننى ـ تقريبا ـ كنت أكاد أعرف جميع هواة الأدب بوجه عام فى جميع محافظات مصر، وتقوم بينى وبينهم مراسلات شخصية وفى بريد الصحف أحيانا. تلك هى فضيلة الأدب، يدفع هواته إلى البحث عن بعضهم والتآخى والترابط، فليس أمتع للأديب فى فترة التكوين من أن يعثر على رفيق يستمع إليه ويغذى كل منهما الآخر بطموحاته ويضيف إليه خبرات وتجارب مفيدة. فلما أعجبتنى قصة (بلا خوف) إلى حد الافتنان تحدثت بشأنها طويلا مع صديق عمرى بكر رشوان طالب الفلسفة وأحد الفائزين فى مسابقة نادى القصة للقصة القصيرة عام سبعة وخمسين بعد التسعمائة والألف ـ وقد وافقنى بكر على أن قصة (بلا خوف) فيها كاتب موهوب وحريف ماهر فى نحت الشخصية وبناء الحدث القصصى وإحكام الحبكة فى رؤية فنية مشرقة طازجة. القصة كانت ـ إن لم تخنى الذاكرة ـ مروية من وجهة طفل كان وغيره من أطفال الحى يخشون المرور من أمام خرابة يحتلها معتوه ذو منظر مخيف اسمه جمعة، تحاك حوله الأساطير التى تجعل منه سفاحا مجنونا، ولكن الطفل ذاك نطت منه الكرة فى الخرابة فاقتحمها ليأتى بها ناسيا أمر جمعة، فإذا به أمام جمعة وجها لوجه، وإذا بجمعه يتودد إليه ويطلب منه ـ بما أنه تلميذ ـ أن يعلمه الكتابة والقراءة. وبالفعل جئ بقطعة من الحجر الجيري، وراح الطفل يرسم بها الحروف الأبجدية على الحائط، وراح جمعه يقلده فى رسمها ونطقها كتلميذ صغير خفيف الظل. ومن شدة سعادة جمعة بقدرته على رسم الحروف كان كلما خط حرفا تراجع بظهره ليراه من بعيد كفنان يضع الرتوش الأخيرة فى لوحته. عند ذاك سقطت حواجز الرهبة وأصبح جمعة صديقا للطفل الدى أصبح يمر من أمام الخرابة مطمئنا بلا خوف. فى نفس الشهر والقصة لا تزال طازجة فى ذاكرتي، تحدونى رغبة فى التعرف على كاتب هذه القصة الجميلة التى رجحت أن يكون سكندريا لأن القصة تدور فى حى شبيه بحى الأزاريطة، كما أن اللهجة السكندرية واضحة فى الجمل الحوارية، تصادف أن كانت لى مصلحة فى احدى الإدارات التابعة لوزارة الشئون الاجتماعية الكائنة فى عمارة فخيمة فى شارع فؤاد أو لعله شارع النبى دانيال. توجهت إلى الموظف المختص الأستاذ محمد السيد، فإذا هو شاب نوبي، بشرته السوداء مضيئة كأن الشمس تشرق من جبهته الكنزة. ملامح وجهه مسمسمة جميلة جاذبة، رشيق نحيف البدن أنيق فى بدلته الكحلية الغامقة. دمث جدا، باسم ضحوك بهدير صوت نوبى ذى نبرة حادة لكنها تعمق فيك الشعور بالطرب والبهجة. «للحديث بقية» |
|
|
admin معلومات اضافية الجنس : العمل : الاقامة : العمر : 39 عدد المشاركات : 4284 تاريخ الانضمام : 14/05/2009 الدنيا ساعه فاجعلها طاعه | نحو ذائقة سينمائية 20/1/2014, 3:14 pm |
| نحو ذائقة سينمائية
عند زيارتى لمحمد السيد فى مكتبه بوزارة الشئون الاجتماعية كنت ممسكا بحافظة أوراق من البلاستيك الشفاف تكشف عما تحتويه من أوراق تنام فوقها رواية (الأرض) لعبد الرحمن الشرقاوي. فإذا بنظرات محمد السيد تحوم حولها باهتمام وقد تمددت ابتسامته النوبية فاردة على تقاطيع وجهه ملاءة بيضاء تبدو تجاعيدها حول الفم كأنها رسوم بالتطريز بخيوط سوداء لامعة، ثم هتف فى حميمية بهيجة: «أنت أديب إذن؟ أم مجرد قاريء؟». قالها بنبرة تعكس احتراما للأدب والأدباء، مما شجعنى على القول فى قليل من الثقة وكثير من الخجل: «لى محاولات فى كتابة القصة القصيرة وأحيانا بعض القصائد والأغنيات». فهتف بعامل البوفيه أن يأتينا بقهوتين منضبطتين، ثم أردف معبرا عن سعادته: «هل نشرت فى الصحف؟». قلت: «ليس بعد». ثم أردفت بدوري: «هل أنت أيضا من هواة الأدب؟». جلجلت ضحكته الصافية الرائقة: «لى صديق يكتب القصة وينشر فى الصحف والمجلات ونسكن معا فى حى الأزاريطة». وجدتنى أهتف على الفور تلقائيا: «عباس محمد عباس؟». الفرحة صرخت فى صوته: «أنت تعرفه إذن! على فكرة أنا خطبت أخته الصغري». أذهلنى هذا التوافق العجيب. أيقنت مجددا أن الحياة تبدو فى كثير من الأحيان سياقا قصصيا يمضى وفق خطة موضوعة سلفا، وحين تتوافق أحداثها مع رغباتنا وأمنياتنا وتطلعاتنا سميناها بالصدفة وما هى بصدفة، وسرعان ما يتضح لنا عندئذ أن السياق الذى أنتج الصدفة هو السياق الأصلى والحتمى الذى يفرض نفسه بقوة لاراد لها. قلت لمحمد السيد: «منذ حوالى شهر قرأت لعباس قصة بعنوان: بلا خوف فى مجلة البوليس». قال فى امتنان: «أرأيت كم هى قصة جميلة؟». قلت: «وفيها كاتب موهوب جدا وحريف». استدرك: «لهذا يفوز كل عام فى مسابقة نادى القصة! عندك فكرة عنها طبعا!». قلت: «طبعا! ويحتكر مركزها الأول وأحيانا الثانى مدرس سكندرى اسمه محمد غنيم، وهو يستحق الفوز وجدير بميدالية طه حسين». قال محمد السيد بلهجة مفرطة فى المودة: «نحن نلتقى فى الثامنة من مساء كل يوم على مقهى عبد العال ـ أو لعله اسم آخر نسيته ـ فى حى الأزاريطة، وبيت عباس بالمناسبة فى مواجهة المقهي!. تعال الليلة لو شئت ستجدنا فى انتظارك وسأكلم عباس وأعطيه فكرة عنك! هو لعلمك ودود جدا ويحب الصداقة والأصدقاء وسوف يفرح بك». على حس هذه الصداقة الوليدة أنهى محمد السيد مصلحتى على أكمل وجه فى دقائق معدودة مع أننى كنت أتوقع أنها قد تكلفنى عدة مشاوير. مقهى عبد العال المواجه لبيت عباس يقع على ناصية بين الشارع الرئيسى وشارع جانبي. أما بيت عباس فيطل على ذاك الشارع الجانبي، لكن بابه يفتح على حارة ضيقة، ومن خلفه حارة ضيقة أخرى يفتح عليها شباك الحجرة التى ينام فيها عباس، مما سهل على أن أصعد السلم إلى هذه الحافة ثم أنقر بأصبعى على هذا الشباك، فبعد برهة وجيزة يطل عباس من خلل حديد الشباك، فأشير إليه، أو الى من يطل بدلاً منه أحيانا، إلى أننى فى انتظاره على المقهي. وأما المقهى فيطغى عليها الطابع البلدى ولكن بمزاج صعيدي، نظرا لأن نسبة كبيرة من العمال الصعايدة يلتقون فيه. حين ذهبت إليه أول مرة كان محمد السيد فى انتظارى مع واحد من أهم أعضاء شلة عباس اسمه فاروق أبو شوشة، وهو غير فاروق شوشة المذيع الشاعر الذى كان اسمه قد بدأ يلمع آنذاك مع تأسيس إذاعة البرنامج الثانى المسمى اليوم بالبرنامج الثقافي. أما فاروق أبو شوشة فإنه صاحب محل للأحذية على مرمى حجر من المقهى فى الشارع الرئيسي، له فاترينة تعرض أحذية فخمة من تفصيله ومن مستورداته معا. هو شاب فى مقتبل العمر، طويل، أبيض البشرة فى ميل إلى الشقرة، على درجة كبيرة من الحياء والأدب، والذكاء واللماحية، وعلى شيء من الثقافة العامة المستقاة من سوق الحياة وتجاربها، ومن أفلام السينما الأجنبية، ومن تصفح المجلات والصحف السيارة. وأما بقية الشلة فقد نسيت أسماءهم لكنى أذكر أن احدهم كان موظفا كبيرا فى الحكومة، وأخر كان خبيرا فى شغل الادوات الصحية، وثالث كان موظفا فى احدى شركات القطاع العام. إنما الذى أذكره جيدا أنهم جميعا كانوا متفتحين مستنرين، ميالين إلى المرح، متطلعين إلى المعرفة، والاجمل أنهم كانوا مقدرين لموهبة عباس، مستوعبين لمدى أهمية أن يكون المرء كاتبا تهتم الصحف بنشر ما يكتبه. بل كانوا إلى ذلك يميزون بين القيمة الأدبية لعباس وأنداده، والقيمة الاستهلاكية السوقية لما تنشر الصحف من أكاذيب سياسية وكتابات دعائية. لحظة وصولى إلى المقهى ليلتذاك جلست مع محمد السيد وفاروق أبو شوشة على الرصيف المقابل لرصيف مقهى عبد العال، حيث تبدو لنا المقهى من الداخل واضحة بكل ما ومن فيها. عندئذ أشار لى محمد السيد على ترابيزة يجلس إليها رجل عملاق أشيب الشعر قليلا، قمحى اللون. بجواره شاب أشقر الوجه تبرق فيه نظارة طبية، منكب على دفتر أمامه وبين أصبعيه قلم. يتحلقهما عدد من العمال الصعايدة. قال محمد السيد إن هذا الشاب المنكب على الدفتر هو عباس، وهذا الرجل هو أبوه الحاج عباس المقاول. مقاول فى ماذا؟ فى أعمال البناء؟ النقاشة؟ السباكة؟ الكهرباء؟ هذا ما لست أذكره لأننى لم أحاول معرفته، إنما هو مقاول والسلام. وهؤلاء هم بعض العمال الذين يعملون فى معيته. أما عباس فإنه موظف عند أبيه منذ أن ترك الدراسة بعد الشهادة الابتدائية. أبوه لا يحتاجه الا لساعتين اثنتين مساء كل يوم لاجراء الحسابات وتقبيض العمال. فيما عدا ذلك من ساعات النهار والليل يشغل عباس وقته بالقراءة والكتابة ومجالسة الأصدقاء، وهم جميعا من أبناء حى الأزاريطة وعلاقاتهم ممتدة منذ الطفولة. الذهاب إلى مقهى عبد العال مساء كل يوم بات بالنسبة لى أشبه بطقس لا أتأخر عنه يوما واحدا. يبدأ نهارى بالتجول فى السوق حتى الثانية مساء أو نحوها. عندئذ يكون أصدقائى قد عادوا من الكلية، فأمكث معهم حتى السابعة والنصف مساء ثم أغادرهم إلى مقهى الأزاريطة حيث يكون عباس على وشك الانتهاء من حسابات أبيه. ويكون قد تم اتفاق بيننا ليلة أمس أننا الليلة سندخل سينما كذا لمشاهدة الفيلم الفلاني، ولذلك فإنى مدين لعباس بتكوين ذائقتى السينمائية والارتفاع بمستواها. وعلى ذكر السينما كان عباس محمد عباس متذوقا جيدا لفن السينما، للصورة السينمائية بخلفياتها وأبعادها ومضامينها الفكرية ودلالاتها الاجتماعية والسياسية. ذلك أنه كان يتمتع بدقة الملاحظة بدرجة تمكنه من رؤية أشياء قد لا نراها نحن رغم حدوثها أمام أعيننا ومن حولنا، وبخاصة فى سلوك الناس وتصرفاتهم المتخفية المتسللة. أذكر أننا ذات ليلة كنا فى بهو سينما ـ أظنها سينما ريالتو ـ ننتظر أن يؤذن لنا بالدخول إلى قاعة العرض لكى نشاهد فيلم (امرأتان) فى عرضه الأول، المأخوذ عن رواية للكاتب الايطالى ألبرتومورافيا الذى كنا شغوفين بأدبه. ولم يكن ألبرتومورافيا ـ على شهرته الواسعة ـ هو الإغراء الوحيد وراء امتلاء بهو السينما بالجمهور القادم لمشاهدة الفيلم فى حفلة التاسعة مساء، إنما كانت بطلته صوفيا لورين هى الدافع الأكبر وراء هذا الزحام الشديد. فما أن فتح منفذ الدخول إلى قاعة العرض حتى تدافع الجمهور ثم انتظم فى طابور، فيه العائلات والشلل يتحاضنون مثلما تحاضنت تذاكرهم فى يد واحد منهم يتقدمهم. الجمهور عندئذ يكون فى العادة منبهرا فاقد التركيز. واعتمادا على معرفته بهذه الظاهرة اندس لص ذكى غاية فى المهارة وخفة اليد وراء سيدة ذات مظهر فخم تدفع أمامها ولدا وابنتين فيما يتقدم زوجها ممسكا بالتذاكر. كانت السيدة قد مدت ذراعيها واضعة يديها فوق كتفى ابنتها الطويلة، فتهدلت حقيبة يدها المعلقة فى كتفها، فصارت متدلية فى المساحة الفارغة فيما بينها وبين ابنتها. وكان عباس الممسك بتذاكرنا يقف وراء شخص يفصل بينه وبين اللص. ومع ذلك تمكن من مشاهدة حركة يد اللص الذكى وهى تقوم بعدة محاولات ثم ترتد، إلى أن تمكن من لف ذراعه اليمنى حول خصر السيدة لكن دون أن يلمسها، ومد أصابعه الطويلة بخفة ودربة فأزاح رأس القفل عن بعضهما، فانفرجت الحقيبة، فسرب أطراف أصابعه ثم التقط حافظة النقود «البَكّ» وطوى عليها قبضته. وقبل أن يضعها فى جيبه فوجيء بصفعة قوية على عنفته أفاق الجمهور على دويها. تلك كانت يد عباس الذى خرج عن الطابور وأمسك باللص قابضا على قبضته الممسكة بالمحفظة، فيما السيدة وزوجها وعيالها والجمهور كله فى ذهول بوجوه شاحبة. تلقى عباس شكرا حارا من السيدة وزوجها، ونظرت إعجاب وتقدير من الجمهور. أما اللص فقد تلقى من الصفع والركل والبصق ما جعل عباس يشفق عليه ويكاد يبكى من أجله، وراح يستعطف الجمهور بأن يتركوه يذهب لحال سبيله ولا داعى لإصرارهم على تسليمه للشرطة فقد نال من العقاب ما فيه الكفاية. تلك هى شخصية عباس محمد عباس، تتميز بالشجاعة وكرم النفس، مع شدة الخجل والحياء، يتورد وجهه إذا خاطب سيدة أياً كان مستواها الطبقى أو الثقافي. على أنه من المؤكد أن هذه الخصيصة فيه كانت أحد أهم الأسباب فى عدم اندماجه التام فى خضم الحياة الثقافية رغم أنه قدر له أن يعيش فى قلبها. |
|
|
admin معلومات اضافية الجنس : العمل : الاقامة : العمر : 39 عدد المشاركات : 4284 تاريخ الانضمام : 14/05/2009 الدنيا ساعه فاجعلها طاعه | حتمية الثورة المصرية 20/1/2014, 3:15 pm |
| حتمية الثورة المصرية
من أمتع الدراسات التاريخية التى قرأتها فى الآونة الأخيرة، تلك الدراسة التى كتبها ولايزال يواصل فصولها فى جريدة الأهرام الدكتور طه عبدالعليم وترجع أهميتها إلى أنها أنصفت الشخصية المصرية ونفت عنها مايشاع من افتراءات تدمغها بالرخاوة والسلبية والاستسلام لجلاديها، وبأنها لاتثور لكرامتها، فإن ثارت فمجرد هبات كزعابيب أمشير سرعان ما تخمد كأن لم تكن، أثبتت دراسة الدكتور طه عبدالعليم أن هذه محض افتراءات بنيت على جهالات فاضحة بحقيقة الشخصية المصرية، وأن استقراء التاريخ والواقع بنظرة فاحصة يثبت عكس ذلك تماما، وأن تاريخ الشعب المصرى كان سلسلة من صراعات لاتنتهى ضد الإحتلالات الأجنبية وضد عسف السلطة واستبداد الحكام، ولولا ما انطبعت عليه الشخصية المصرية من روح المقاومة الصلبة والواعية، بما فى جيناتها الوراثية من تراكم حضارى تليد يتجدد فى مختلف العصور بمرونة إنسانية تهدف إلى العيش فى سلام واستقرار يليقان بطبيعة المجتمع الزراعي، لولا ذلك مابقيت مصر منذ سبعة آلاف عام وإلى اليوم دولة ذات مكانة استثنائية، ولما بقى الشعب المصرى إلى اليوم مصدر إشعاع ثقافى سياسى وارف على إفريقيا والعالم العربى. وصحيح أن الثورات المصرية قد تفصل بينها مسافات زمنية تطول أو تقصر إلا أنها ذات حضور قوى فى تعديل مسرى التاريخ، وذات أثر بالغ فى الواقع المصرى والإفريقى والعربى. إن مصر الشعبية تعيش بمنطق: اتق شر الحليم إذا غضب والشعب المصرى بالفعل حليم إلى أبعد الحدود، وفى المقابل فإن ثوراته كثيرا ماتكون عاصفة، وأحيانا مدمرة إذا استنفرت الدهماء. وها هو ذا الواقع المصرى يتحول فى لحظة عبقرية من مساء الخامس والعشرين من يناير ليصير وثيقة فعلية دامغة تؤكد ما ذهبت إليه دراسة الدكتور طه عبدالعليم بعد مضى أقل من شهرين على نشرها بجريدة الأهرام. وبهذا أكون قد تلقيت فرحتين فى بحر شهرين اثنين: فرحة لأن الدراسة المذكورة قد أيدت قناعتى الشخصية الراسخة بهذه الرؤية النفاذة بل لعلها أعادت صياغة قناعتى هذه ونابت عنى فى بذل هذا الجهد العلمى المشكور لتجميع الوثائق التاريخية والجغرافية الداعمة لإيجابية الشخصية المصرية التى لاتقبل الذل والهوان وإن طال صبرها. وفرحة ثابتة لأن هذه الرؤية قد تحققت فعليا فى ميدان التحرير وجميع ميادين العواصم الإقليمية المصرية مساء الخامس والعشرين من يناير 2011 بقيام ثورة تحرير عارمة خلبت ألباب العالم كله بطهارتها وسلميتها وإصرارها على اقتلاع جذور الفساد تمهيدا لإعادة صياغة مصر المعاصرة. ولكن لماذا يتأخر انتفاض المصريين حتى ليبدو كأننا فقدنا الذاكرة، بل كأننا أمة من الأغنام يسوقها أى صبى بخيزرانة، إلى الحظيرة أو إلى القصاب؟ هنالك سببان. السبب الأول ـ ولابد أن نعترف بهذا دون مواربة ـ هو فساد النخب، أو من درجنا على تسميتهم بالنخب وهذا اسم على غير مسمي، إنما هو قد أطلق على الأدعياء الذين يتصدون للعمل العام معتمدين على الفهلوة والبهلوانية والعلاقات العامة والذكاء الإجتماعى وأساليب الرشوة والمجالات والنفوذ العائلى أو المالي، فيصيرون نقباء ووزراء وأعضاء برلمان وأصحاب نفوذ سياسي، ولاؤهم كله لمصالحهم، يؤازرون الشيطان لو حققها لهم، ويلعبون أدوارا خطيرة فى تضليل الشعب وخداعه وتخديره بشتى الأساليب، يسنون القوانين التى تمكن لهم فى الأرض وتكبل الطاقات الخلاقة، ويخلقون للشعب مشاكل وهمية ينشغل فيها، وملاهى هزلية لتمييع القضايا وتسخيف الجدية. إلخ. أما النخب الحقيقية فإنهم من أمثال طه حسين ورفاقه وتلاميذه ومن أسماهم صديقنا بهاء طاهر بأبناء رفاعة الطهطاوى الذين تفتح وعيهم على الحداثة العربية فعملوا بجد وإخلاص على إلحاق مصر بالعصر الحديث. وقد حققوا بالفعل نهضة علمية وثقافية كرست لمصر الحديثة وأنجبت أدباء وشعراء وفنانين وصحفيين عمالقة. وفى إشعاعهم قامت ثورتان خطيرتان احداهما فى أوائل النصف الأول من القرن العشرين والثانية فى أوائل النصف الثانى منه، على أننا يجب أن نلاحظ أنهم قد لاقوا الأمرين من الرجعية الدينية والانتهازية السياسية وهما قوتان محسوبتان على النخب مع الأسف، تتحالفان دائما فى مواجهة العلم والثقافة المستنيره، ترفعان سلاح التفكير والتخوين. ولقد اتسع نطاق الانتهازية السياسية والرجعية الدينية، إضافة إلى الإنتهازية الإجتماعية، فى ظل ثورة يوليو وانقلاب مايو الساداتي، حيث بدأ انهيار التعليم بانفصاله عن التربية. أصبح لدينا أعداد هائلة ممن حصلوا على تعليم عال بغير أخلاق، اقتحموا المهن النبيلة كالطب والمحاماة والصحافة والتدريس وكراسى الأستاذية فى الجامعات التى باتت فى توسع عشوائى دون وجود كوادر علمية ناضجة تصلح لشغل المناصب العلمية فيها فوضعت بدلا منها أشباحا وهياكل تحمل شهادات بغير كفاءة حقيقية. لذلك لم يكن غريبا أن تمتلىء كل هاتك الميادين بجرائم سياسية وإنسانية مروعة، وبصراعات رخيصة بل وإجرامية حول المكاسب والمناصب. احتشدت مقاعد مجلسى الشعب الشورى بفئات من الـ «كولاك» ـ أى أصحاب المصالح ـ ينقصها العلم والوعى السياسى والوطنى و. الشرف. أصبحنا نرى ونسمع ونقرأ عن طبيب ينسى المقصات والمشارط فى بطن المريض، وأخر يسرق أعضاء مريض ليبيعها لمريض آخر، وعن محام يسلك سلوك البلطجية فيتعارك بالسنج والسكاكين، وأخرين يتاجرون بالقانون ويلوون أعناقه للدفاع عن الخونة والقتلة وتجار السموم وناهبى المال العام، وعن إعلاميين يروجون للرأى. وكان من المنطقي، بل هى الحتمية التاريخية والاجتماعية أن يقوم بتفجير الثورة جيل الشباب المبرأ من كل هذه الملوثات التى دفعته للثورة عليها، الذى انفتح على ألوان من المعارف المبهرة عبر شبكة الانترنت، فعرف كيف يتواصل ويتلاحم عبر الفضاء، فإذا هم ينفخون الرماد عن جمرة اللهب المتقدة داخل الشعب المصرى بأكمله، فالتحمت الجمرة بالريح، فإذا جموع الشعب الهادرة فى ميادين القاهرة والسويس والاسكندرية والمنصورة ودمياط وطنطا والمحلة الكبرى والمنيا وبنى سويف وسوهاج وأسوان كالحطب الجاف تزغرد فى أصلابه ألسنة اللهب البرتقالى اللون بأطراف مخضوضرة. السبب الثانى وراء بطء الانتفاض المصرى سبب تاريخى مبثوث فى نسيج الشخصية المصرية مثقفة كانت أو أمية، حتى وإن كان بعضها من أصول عرقية أجنبية بعيدة. ذلك هو تقديس الشعب المصرى للنظام باعتباره القضبان التى يمشى عليها قطار الحياة، واحترامه الشديد للحاكم كرمز للدولة. نعم هو ذاك وإن أثار استغراب البعض ممن بتصورون خطأ أنه شعب همجى لا يقبل الانضواء تحت نظام أو قانون. يتصورون كذلك أن الأمية المثقفة تحول دونه والتقدم وتجعله غير صالح لممارسة الديمقراطية، وأنه لابد له من أب أو أخ أو مستبد عادل يفرض وصايته عليه. ولكن ماأكذبهم وماأعماهم. إن الجوهر الانسانى العظيم كامن فى نفوس القاعدة العريضة من الشعب المصرى يظهر فى الأزمات، إنه كالبخور تظهر ريحته الطيبة عندما تلامسه النار. هذا الجوهر الإنسانى هو التآخى والتآزر والتكافل والمودة مقرونة بأخوة المواطنة، وحب النظام غريزة فى المصريين، نرى شواهده كل يوم فى الشارع حينما يتعطل المرور لسبب من الأسباب فيتطوع الكثيرون للمشاركة فى تسيير الأمر والمساعدة فى إزالة أسباب العطل. إنه موروث حضاري، قامت عليه أول دولة فى التاريخ، وهيهات أن يمحوه الزمن. ومن قرأ كتاب «فجر الضمير» لعالم المصريات الأمريكى الشهير «هنرى بريستد» يعرف قيمة الجوهر الحضارى الإنسانى للشعب المصري، كيف أقيم أول نظام لأول دولة على ظهر الأرض حيث كان لابد من تنظيم إدارى للسيطرة على النهر المتوحش وتوزيع مياهه على جميع أنحاء الأرض المصرية المترامية الأطراف التى هى فى أصلها من طرح طميه وهذا معنى قولة المؤرخ اليونانى «هيرودوت» إن مصر هبة النيل. ومن رأى صورة ميدان التحرير أثناء الثورة لابد قد رأى ذلك كله مشخصا فى ثورة نظمت نفسها بنفسها فى سلاسة ونعومة لتدبير احتياجاتها من أكل وشرب وغطاء ودواء أنشئت من أجله ـ وفى الحال ـ مستشفيات ميدانية، فى إيثار وإنكار للذات الفردية، وفى سلوك حضارى راسخ وتليد، فرض عليهم ـ فور تحقيق مطالبهم ـ أن يقوموا بتنظيف الميدان من مخلفاتهم، بل امتدت الأريحية الى تنظيف جميع الشوارع فى جميع البلدان. |
|
|
admin معلومات اضافية الجنس : العمل : الاقامة : العمر : 39 عدد المشاركات : 4284 تاريخ الانضمام : 14/05/2009 الدنيا ساعه فاجعلها طاعه | السلطة وَلعٌ مصري! 20/1/2014, 3:16 pm |
| السلطة وَلعٌ مصري!
لا أظن أن شعبا تغلغلت في أعماق أبنائه الميول السلطوية مثلما تغلغلت في نسيج الشخصية المصرية بجميع مستوياتها الاجتماعية والثقافية، لدرجة أنها تكاد تكون مسجلة علي جيناتها الوراثية. هكذا يقول واقعنا اليومي فضلا عن صفحات التاريخ وفصول الأدب القصصي والروائي والمسرحي، بل إن دراما الحياة المصرية ينشب فيها الصراع ويتمحور حول قضايا كثيرا ما تكون منتحلة ومعلنة كسبب للخلاف أو مبرر للعراك وهي في الواقع مجرد أقنعة سميكة تختبيء في أعطافها قضية واحدة رئيسية هي الولع بالسلطة والرغبة الدفينة في التسلط. المثل الشعبي الدارج يقول: هل تعرف فلانا؟ فإن أجبت بنعم يستدرك عليك بسؤال تال: هل عاشرته؟ فإن أجبت بـ: لا، جاءك الرد الحاسم: إذن فأنت لا تعرفه. نستطيع أن نجري تعديلا علي هذا المثل يعيد صياغته علي هذا النحو: هل تعرف المصري؟ فإن أجبت بنعم، يستدرك عليك بالسؤال التالي: هل تعرفه وقد أصاب مالا أو سلطة أو جاها؟ فإن أجبت بـ: لا، جاءك الرد المفحم: إذن فأنت لا تعرفه. وهذا صحيح بدرجة كبيرة جدا، أقولها عن يقين وثقة، لا بحكم تجاربي الشخصية الكثيرة وحدها، بل إلي ذلك بحكم استقراء الواقع الذي نعيشه جميعا، وهو واقع متجذر في تربة التاريخ المصري، علي الصعيد الشخصي أستطيع أن أحكي لك مئات الأمثلة من المحيط الاجتماعي الذي عشت فيه وحده علي امتداد نيف وسبعين عاما مضت من عمري، لزملاء وأصدقاء وأساتذة وجيران ومعارف كان الواحد منهم شيئا بديعا ثم انقلب إلي شيء نقيض تماما بعد أن أصابه مال أو جاه أو سلطة، سواء كان جديرا بما تحقق له أو هلفوتا دعيا، سواء تم ذلك عبر قنوات شرعية شريفة أو بفهلوة وشطارة أو حتي ببركة دعاء الوالدين، حكايات رغم أنها واقع ماثل شاخص في أنظارنا كل يوم في المؤسسات التي نعمل بها أو في سوق الحياة بوجه عام فإنها لو حكيت لبدت ميلو درامية مكرورة كالأفلام الهندية أو كمسلسلات التلفاز وأفلام المقاولات، حيث يلتبس الواقع بأصدائه حتي لم نعد ندري أهي صدي للواقع أم أن الواقع صدي لها، لكن المؤكد أنها كرست لهذا الواقع في الأجيال الراهنة، فكأن هذه المسلسلات والأفلام وثيقة فنية إعلامية تؤكد أن هذه هي القاعدة في واقعنا وما عداها استثناء نادر، وأن من يحاول أن يكون من هذا الاستثناء سوف يدفع باهظ الثمن، القاعدة هي أنك لكي تعيش وتحقق لعيالك عيشا كريما لابد أن تكون صاحب مال أو جاه أو سلطة، فإن لم تكن كذلك تعش العمر كله جنب الحائط في ذل وقهر وفاقة، وتهدر قيمتك الانسانية والعلمية والأدبية مهما كنت علي خلق حميد وصاحب علم وموهبة أصيلة. في ظل هذه الوضعية الصعبة لن يفيدك علم أو موهبة أو خلق حميد حتي الوصف بالحميد فيه مغالطة، حيث لم تعد الأخلاق حميدة علي الاطلاق، فمن ذا الذي سيمنحها هذه الصفة اذا كان المجتمع قد أصبح ضدها، حتي وإن تشدقنا بمفرداتها ليل نهار في دروس الوعظ المأجور من أصحاب مال وجاه وسلطة لتحذير العامة وتقليم أظافر العوز والحرمان ووأد بذور الحقد في مهدها، وإيهامهم بأننا يجب أن نرضي بالمقسوم وإلا كفرنا بالله الذي قسم الأرزاق بكلمته، وتلك مغالطة مفضوحة، ينفيها قوله تعالي عن أصحاب الأموال «والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم» الوعظ أصبح تجارة تخدم مصالح ذوي المال والجاه والسلطة، أما أنشطة الآداب والفنون المجبولة علي تأديب الانسان وتهذيبه وتنمية ملكاته الخلاقة وتبصيره بقواه الخفية فقد أصبحت في محنة، فالمخلص الجاد الملتزم بالضمير الانساني من هاتيك الأنشطة يترصده الأدعياء ممن عينوا أنفسهم أوصياء علي دين وهبه الله للكافة، يحاصرونه برقابة جاهلة غبية زرعها فيهم وحرضهم عليها أصحاب مال وجاه وسلطة، يعطلونه، يوقفون نموه، يحاكمونه بتهمة الكفر مع أن الكفر هو ما يفعلون، أما الآداب والفنون السطحية المنزوعة الاسم والضمير والقيمة فالطريق أمامها سالك مفتوح. وقديما كان لابد لأي عالم أو فيلسوف أو أديب أو شاعر من صاحب مال أو جاه أو سلطة يرعاه وينفق عليه حتي ينتج علما وفلسفة وأدبا وشعراً وأعمالاً يعتد بها التاريخ، كما حدث مع أقطاب الثقافة العربية الذين بقيت أعمالهم شامخة إلي اليوم، لكن ذلك كان في عصور نهوض للثقافة العربية، حيث هي آنذاك وليد طازج من رحم ثقافة القرآن الكريم الذي وسع من مدارك القوم وأخصب خيالهم وفتح وعيهم علي منابع العلم والحكمة وما في الكون ـ والانسان تمثيل له ـ من آيات بينات مضمرة في الآيات البيانية الكريمة. اليوم لدينا جوائز عديدة يرصدها الأمراء ورجال المال والأعمال، لكنها وإن استحقت الشكر مبدئيا لاتزال مضطربة المعايير والضمائر أحيانا لسوء اختيار اللجان التحكيمية من طوائف من نخب حريفة تتعامل مع هذه الجوائز باستخفاف باعتبارها مجرد قلادة أو حلية يعلقها الممولون ـ وكذلك الحاصلون عليها ـ علي صدورهم لاستكمال مظاهر الجاه والأبهة، غير أنها أصابت الأوساط الثقافية العربية بحمي الجوائز أصبح مئات الكتاب يكتبون أعمالا علي مقاس الجوائز. أصبحوا يبذلون الجهود النقية ويوطدون العلاقات ويترخصون في سبيل الحصول علي جائزة تضفي عليهم شرعية وهيبة يعيشون عليها ويمررون تحت ظلها أعمالا رديئة قليلة القيمة. والواقع الماثل، كما أثبت التاريخ المعاصر، أن الموهبة وحدها أو الكفاءة العلمية وحدها لا تكفي لنجاح صاحبها في الحياة بله أن يصير نجما ذا هيبة وفاعلية، وإنما لابد للموهوب وللكفء من سلطة ما، تحميه وتفرضه وتنجمه. ولا شك أننا نعرف الكثيرين من الموهوبين والأكفاء في جميع الميادين عانوا من التهميش والتجاهل لعدم رضاء السلطات عنهم. فالموهوب والكفء إما أن يتقرب إلي ذوي السلطان فيصبح بوقا من أبواقه وعندئذ لا بأس لديه من أن يفقد المصداقية واحترام الجماهير في سبيل أن يبقي النجم الأوحد. وإما أن يحترم موهبته فينحاز إلي ضميره فيعيش في شظف أو يهاجر. ولربما يكون ذا موهبة استثنائية تقدم للجماهير مالا تستطيع تقديمه الأجهزة الرسمية بنجومها المعتمدين، من متاع صادق يلبي احتياجات إنسانية أو اجتماعية أو سياسية تفتقد الجماهير، وحينئذ يكون قد حظي بالسلطة العظمي التي تسانده: سلطة الجماهير. لكن المؤسف أن من يتحقق له ذلك سرعان ما ترتوي في أعماقه البذور السلطوية الكامنةفي أعماقنا نحن المصريين جميعا بدرجة أو بأخري بصورة أو بأخري، فما أن يستشعر أصداءه لدي الجماهير أيا كانت الوسيلة التي وصل بها إليهم حتي يصبح بدوره سلطة من نوع ما، ذات نفوذ من نوع ما. ومرض السلطة عندنا مقرون بصفة الوحدانية، حيث يتوهم النجم أنه الأوحد في ميدانه والباقون مجرد سنيدة. ولأن الولع بالسلطة ظاهرة مصرية فإن الجمهور يتطوع بأسطرة النجوم ويخلع عليهم الألقاب التي تصادف هوي في نفوسهم، أمير الشعراء، شاعر النيل، عميد الأدب، عميد المسرح، كوكب الشرق، موسيقار الأجيال، شاعر الشباب، سيدة الشاشة، فنان الشعب، نجمة الجماهير، وكلها ألقاب ذات طابع سلطوي تهدف إلي التأثير والاستحواذ. والواقع أننا جميعا ـ بشكل أو بآخر ـ ذوات سلطوية علي درجات متفاوتة، في مجتمع رئاسي سلطوي، كل واحد يتصور ـ بالحق أو بالباطل ـ أنه منفرد في مهنته، أنه الأفضل، والأحق، والمهضوم الحق مهما تحقق وانتشر الاستعلاء الأجوف سيد الأخلاق. المظهرية ضرورية. ماإن يعين الواحد منا في منصب حتي يكون أول شيء يهتم به قبل تسلم عمله هو تجديد حجرة المكتب التي سيشرفها بالجلوس فيها، قد يكلف جهة العمل مئات الألوف من الجنيهات في دهن حوائط وتجديد أثاث، واختيار سكرتيرة حسناء، وطاقم من المساعدين قديخالف اللوائح ويطلبهم من خارج المؤسسة بمرتبات وبدلات لاسيما أن حكومات الحزب الوطني كان تتيح لكل رئيس مؤسسة أن يتملكها ويتصرف فيها تصرف الملاك وهيهات أن يردعه رادع، فما بالك بالمحافظين ورؤساء المجالس المحلية؟ وكل مسئول من هؤلاء وأولئك ـ لفرط تورمه الذاتي بنفخة السلطة ـ لا يفطن ـ أو ربما يفطن ـ إلي أن رئيسه قد اختاره لهذا الموقع أوذاك ليس لكفاءته بل لضعف شخصيته وضحالة إمكاناته لأن رئيسه ذاك ـ مثلما اختاره رئيسه هو الآخر ـ لم يطلب كفاءة تنهض بالموقع، طلب إمعة تقبل الانصياع لأوامره ورغباته ومغامراته وشطحاته، يطلب منه أن يتصاغر أمامه بنفس القدر الذي تصاغر هو به أمام رئيسه. ومثلما قبل هو ذلك بل لعله سعي إليه بكل الوسائط والسبل من أجل الحصول علي المال والجاه والسلطة فإن مرءوسه سيقبل لأنه صورة طبق الأصل منه بل لعله أوسخ منه عدم المؤاخذة. |
|
|
admin معلومات اضافية الجنس : العمل : الاقامة : العمر : 39 عدد المشاركات : 4284 تاريخ الانضمام : 14/05/2009 الدنيا ساعه فاجعلها طاعه | عودة إلى الحياة 20/1/2014, 3:16 pm |
| عودة إلى الحياة
إثنان من أساتذتي في معهد المعلمين العام في مدينة دمنهور كان لهما أكبر تأثير في شخصيتي وثقافتي دون بقية الأساتذة رغم اعترافي بأفضالهم جميعا، كل في مادته. ذلكما هما: الأنصاري محمد ابراهيم، وبهاء الدين الصاوي. الأول كان أستاذا للغة العربية وأدبها، والثاني كان أستاذا للرسم والأشغال. كانت حصص المطالعة والنصوص ـ أو المحفوظات ـ والانشاء من أمتع الحصص، ليس بالنسبة لي فحسب، بل بالنسبة لجميع طلاب الفصل كله. وحينما أتذكر اليوم هذا الأستاذ الجليل الأنصاري محمد ابراهيم، في مقابل ما نراه اليوم من مستويات متدنية في التعليم بجميع مراحله أشعر بأسف ومرارة شديدين: كيف كان عندنا مثل هذا المستوي الراقي من أساليب التعليم؟ ثم كيف تراجع واختفي، لنصبح كأننا لم يسبق لنا معرفة أساليب التربية والتعليم طوال تاريخنا! كان الأنصاري محمد ابراهيم نموذجا للمعلم الذي جمع في شخصيته بين امكانات المعلم واتساع أفق الأستاذ . فلئن كانت وظيفة المعلم أن يعلمك مبادئ الأشياء فإن وظيفة الأستاذ أن يستفز قدراتك الخلاقة ويدربك علي الاستخدام الصحيح للمنهج العلمي ويوجهك إلي المناطق البحثية الجديرة بالدرس. وقد كان الانصاري محمد ابراهيم معلما وأستاذا معا. كان معنيا بالبناء العقلي لطلابه، وباستنفار مواهبهم وتنشيط ملكاتهم الخلاقة وارشادهم إلي الطرق الصحيحة، وتغذيتها بالثقافة الأدبية، وإيقاظ المشاعر الايجابية، وتوجيهها إلي طموحات تتجاوز حدود الغرض المباشر من التدريس في هذا المعهد ألا وهو بناء المعلم الذي سيناط به تعليم النشء في المدارس الابتدائية. تلك كانت مهمة معهد المعلمين العام، ولكن الانصاري محمد ابراهيم كان يهدف إلي تصنيع المعلم الأديب المثقف، إذ كلما كان المعلم في المدارس الابتدائية واسع الأفق أدبيا مثقفا عاد ذلك علي تلاميذه بالنفع المستنير. شكل الأنصاري محمد ابراهيم كان متميزا بنفس القدر الذي تميز به محتواه الموضوعي التربوي. كان أسمر البشرة في لون الشعير، لون الخبز السن. كان فارع الطول، نحيف البدن إلي حد ما، أنيق الملبس إلي حد كبير، بذوق في اختيار الألوان يعكس جمالا داخليا، مغلوق الشعر من الجنب الأيمن رغم أن الشعر في رأسه قليل علي مساحات صلعاء إلا أنه مصفف بعناية. رأسه صغير مدور كالرمانة لكنه ذو وجه باسم مشرق عظيم الحياء. صوته رخيم عريض ذو نبرات قوية مؤثرة تحب الأذن الاستماع إليه طويلا. وحينما يقرأ علينا نصا من نصوص المحفوظات يشعرنا كأن النص صادر عنه هو شخصيا، إلقاؤه يتكيء علي المفردات الموحية فيجسد الإيحاء، وعلي المعاني المضمرة في الألفاظ فيشخصها بالأداء، فما أن ينتهي من الإلقاء حتي تكون القصدة قد صارت مضيئة واضحة الدلالات في غير حاجة إلي شرح نثري، مما يجعلها سهلة الحفظ في الذاكرة. غير أنه يستأنف الشرح بطريقة ناجحة بارعة شائقة، يطلب من أحد الطلاب أن يقف ليقرأ علينا أبياتا من القصيدة ولا يتدخل الأستاذ إلا ليفسر معني مفردة تكون غامضة، أو ليبرز معني مستترا، أو يشير إلي دلالة تعطي الصورة الشعرية آفاقا أوسع وأعمق، أو يشرح الخلفية الثقافية أو الاجتماعية أو القبلية للشاعر، أو يصحح النطق إذا أخطأ الطالب في التشكيل. شكرا يافلان، قم يافلان واستأنف الإلقاء من حيث انتهي الزميل، وهكذا يشارك معظم طلاب الفصل في إلقاء القصيدة ـ فما إن ننتهي حتي يكون جميع الطلاب قد استوعبوا القصيدة وأحبوها وأحبوا الشعر والشعراء من أجل خاطرها. وأيضا يكون الطلاب قد ازدادوا عشقا للغة العربية، لاسيما والأستاذ الأنصاري محمد ابراهيم كان يقرأ بطريقة الدكتور طه حسين في ترتيل اللغة العربية علي ذلك النحو البديع الساحر. حصة المحفوظات كانت ثلاث مراحل، أشبه بسمفونية مكونة من ثلاث حركات: الحركة الأولي قراءة الأستاذ للنص سواء كان قصيدة أو خطبة أو قطعة من الأدب النثري القديم أو الوسيط أو الحديث. الحركة الثانية قراءة الطلاب للنص واحدا بعد الآخر، وهذه تتضمن شروحا هي في الواقع تدريب علي التذوق الفني. الحركة الثالثة أن يقوم الطلاب واحدا بعد الآخر للتحدث عن جماليات النص من وجهة نظرهم، ويا حبذا لو اجتهد الطالب وأتي بلمحة جديدة لم يسبقه إليها الأستاذ أو أحد الزملاء وعندئذ يتلقي الطالب تقريظا يرفع روحه المعنوية ويثير في بقية الطلاب روح الاجتهاد والبحث، خاصة حين يأخذ الأستاذ الخيط من الطالب وينوب عنه في توضيح ما عجز الطالب عن توضيحه بالقدر الكافي. كانت ورشة لبناء الذائقة الفنية، وتفتيح الوعي الفطري علي الاحساس بالجماليات الأدبية التي توصف بالجمال لقدرتها علي توصيل كبريات المعاني والأفكار والمشاعر بمفردات قليلة. ورشة يقودها أمهر الأسطوات. علي أن وصف الورشة ينطبق أكثر علي حصة الانشاء شرط أن يكون الأسطي هو الأستاذ الأنصاري محمد ابراهيم. إن الفرق اللغوي بين الأسطي والأستاذ ضئيل جدا، لكن الفرق بينه ومعلمي هذه الأيام هو الفرق ما بين السماء والأرض. ذلك لأن امكانياته التربوية قد تكاملت بقيام صلة وثيقة بينه وبين حركة الثقافة المصرية آنذاك كان أديبا وإن لم يصرح لنا بذلك ولم ينشر شيئا من نتاجه ولعله كان يستعيض عن كتابة الأدب بتدريسه، فكان تدريسه إبداعا، وكنت أشعر بأنه يتلذذ بالابتكار في الشرح والتوضيح كأنه يعيد صياغة النصوص التي يشرحها، فيضفي عليها روعة فوق روعة. حصة الانشاء كانت ورشة إبداعية بمعني الكلمة. بأصبع الطباشير يخط علي السبورة ـ بخط رقعة جميل بحروف كبيرة ـ رأس الموضوع. وموضوعاته كانت دائما جديدة مبتكرة، حررتنا من دائرة العقم التي حوصرنا بها في مرحلة التعليم الابتدائي بموضوعات سقيمة جافة من قبيل: صف المدينة في يوم مطير. عناوين الأستاذ الأنصاري كانت تنشئ كاتبا أديبا منفتحا علي حركة المجتمع يفكر في كتابة مقال يعالج فيه قضية مطروحة أو مشكلة تتحدث عنها الصحف أو عيبا من عيوب المجتمع البارزة أو خصلة من الخصال الشائعة بين الناس، حبذا الخصال الايجابية التي يتميز بها الشعب المصري من خصال المودة والتضامن والتآزر والإيثار والتضحية والدفء الإنساني، لكن لا بأس من التعرض للخصال الذميمة وكيفية علاجها بالبحث في جذورها واستكشاف المسئول الحقيقي عنها. أتراه كان يؤهلنا لأن نكون أدباء وشعراء وصحافيين إلي جانب تأهيلنا لأن نكون معلمين ذوي فاعلية في المدارس الابتدائية؟. أجزم أن هذه كانت من طموحاته التربوية. ولهذا بقي اسمه في ذاكرتي علما علي جدية الدراسة المتقدمة في معهد المعلمين العام آنذاك. وحينما أتذكره اليوم فإنه يحضر حضورا كاملا ممتعا، فأكاد أمد يدي لكي أصافحه في وجل وهيبة كأنني لا أزال طالبا بالمعهد. أتذكر أيضا: لماذا كان حريصا علي تسمية الحصة باسمها الكلاسيكي الأصلي: الإنشاء، رافضا ذلك الاسم الجديد الذي أطلقته وزارة المعارف علي حصة الإنشاء: «التعبير» وحينما كان البعض منا يسأله عن الفرق بين الكلمتين: التعبير والإنشاء؟ يجيب قائلا بصوت متهدج بالانفعال في نبرة هادئة الإيقاع لكنها قاطعة: أوهوووه! فرق السماء عن الأرض: فصحيح ـ يقول ـ إن الانشاء تعبير أي نعم، ولكن ليس كل تعبير انشاء. فالتعبير أداة للإنشاء، والإنشاء يعني اقامة بناء معماري علي أسس مدروسة، فكاتب القصة أو الرواية أو شاعر القصيدة والمسرحية إنما يقيم بناء معماريا محكما علي الورق في مكان وزمان معينين حيث توجد بيئة وشخصيات وأحداث وصراع يحتدم بين عناصر متناقضة ينتج عنه تطور في الشخصيات والمواقف إلي ذروة درامية قد ينتصر فيها عنصر علي الآخر أو نصل إلي نهاية حتمية لابد منها تبعا لمنطق الصراع، وقد تبقي النهاية مفتوحة إشارة إلي أن الواقع لم يحسمها بعد ـ كل هذا ـ يقول ـ يقتضي بناء فنيا متسقا ومحكما، وهذا هو الإنشاء. وحتي المقالة الأدبية أو الصحفية لابد لها هي الأخري من انشاء، من بناء يقوم بالتأسيس لفكرة المقال ومغزاها، ثم البناء علي هذا التأسيس في ترتيب منطقي للأفكار الفرعية بحيث تؤدي الفكرة إلي التي تليها صعودا إلي ما يمكن أن يكون القول الفصل في الموضوع المطروح في المقال. |
|
|
admin معلومات اضافية الجنس : العمل : الاقامة : العمر : 39 عدد المشاركات : 4284 تاريخ الانضمام : 14/05/2009 الدنيا ساعه فاجعلها طاعه | فى الإنشاء تعمير للعقول 20/1/2014, 3:17 pm |
| فى الإنشاء تعمير للعقول
بذلك المنهج التربوي التأسيسي كان أستاذنا الإنصاري محمد ابراهيم يدرس لنا مادة الإنشاء. يكتب علي السبورة بالطباشير عنوان موضوع ما، ثم يدعونا إلي تأمله والتمعن في محتواه الموضوعي. ولكي يساعدنا علي استيعابه يروح يتحدث عن هذا الموضوع كلاما عاما يقصد به تقريبه وتفتيح أذهاننا علي الوعي بأهميته ومدي اتصاله بحياتنا من مختلف الزوايا الأخلاقية والاجتماعية والتاريخية. فما يلبث العنوان الموجز حتي يصير في أذهاننا عالما من الأفكار والمشاعر والخواطر يمتزج فيه النثر بالشعر بالأمثال الدارجة بالمقولات التاريخية المأثورة عن شخصيات شهيرة، ببعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. - ثم يطلب تنصيص هذا العنوان إلي مجموعة من عناوين فرعية تعبر عن جوانبه المختلفة والمهمة، يعني نتكلم عن ماذا وماذا وماذا لكي نوفي هذا الموضوع حقه من الدرس ومفاتيح فض مغاليقه؟ يعني ها نحن نتحدث في الإنشاء، في التأسيس للموضوع قبل أن نشرع في البناء. فالإنشاء هو التأسيس والتعبير هو البناء، وإذن فليقترح كل منكم عنصرا من العناصر الواجب بحثها في هذا العنوان الكبير. قم يا فلان وقل لنا ماهوأول شيء يجب أن نبحثه في موضوعنا هذا؟ يقف فلان قائلا: نتكلم عن كذا. فبأصبع الطباشير يكتب الأستاذ علي السبورة ما قاله الطالب بحد تعديل طفيف في الصياغة، مسبوقا بشرطة أو كرة إشارة إلي أنه مبحث من مباحث الموضوع أو فكرة من أفكاره الأساسية. ثم يقف طالب آخر ليذكر عنصرا آخر. وهكذا تنشط الأدمغة فتتعدد العناصر المقترحة. وفي مراجعة لما تم تسجيله علي السبورة يقنعنا الأستاذ باستبعاد هذا العنصر أو ذاك لعدم اتصاله الوثيق بالموضوع. وقد يستدرك علينا بإضافة ما يمكن أن يكون قد فاتنا الإنتباه إليه من أفكار توسع آفاق الموضوع أو تعمقه، ودائما تثير هذه الملحوظات دهشتنا ببديهيتها، وكيف غابت عن فطنتنا. وإذ يلمح هذا المعني في أعيننا يلتمس لنا العذر بأننا من شدة احتشادنا للتفكير في الموضوع تغيب عن فطنتنا البديهيات علي شدة أهميتها، ذلك أننا ــ وانتبهوا لهذا جدا من فضلكم ــ نتعمل ونصطنع التفكير والاحتشاد بالحماسة والجدية لعل الذهن ونحن نستفزه بقوة يسعفنا بأفكار مهمة، بينما الأفكار المهمة في متناول أذهاننا لو أننا تركنا الأذهان علي سجيتها متحررة من التعمل واصطناع التفكير المتعمد. ثم يقول: أنصحكم إذن بتحرير أذهانكم من التفكير القسري الجبري المتعمد لأنه تحت هذا الضغط لن ينتج إلا أفكارا مصطنعة لا حيوية فيها، بل ولا رشد أحيانا. أما إذا أطلقتم سراح الذهن علي سجيته منطلقا من البديهيات المتاحة الملموسة فإنه عندئذ مجبول علي التطور والتوهج والإيغال في الأعماق البعيدة، فمن هنا يكون التفكير من داخل الموضوع وليس من خارجه. تلك كانت من أغلي وأثمن النصائح التي تلقيتها في فترة التكوين وبقيت في ذهني إلي اليوم. فحين أشعر بسخف ما أكتب أرمي بالقلم وانتظر حتي يتحرر ذهني من ضغوط بالأمر الكتابة، الأمر بكتابة شيء جيد وعميق! وبعد إذ تكتمل العناصر المقترحة لتغطية الموضوع المقترح، مدونة تحت بعضها بالطباشير علي السبورة يطلب إلينا الأستاذ أن نلقي عليها نظرة عامة لكي نعيد ترتيبها تبعا لمنطق السياق، فهذا العنصر الوارد في آخر القائمة قد يكون هو الأجدر بأن نبدأ به الكلام في الموضوع. يطلب أن نقوم نحن بإعادة الترتيب، بحيث يكون الانتقال من فكرة إلي فكرة انتقالا طبيعيا مترابطا كسلسلة متعاشقة الحلقات. وهكذا يتم إعادة كتابة العناصر علي السبورة حسب الترتيب المنطقي السليم الذي اتفقنا عليه حالا. عندئذ يحين دور البناء، أوالتعبير، أوالتعجير. فليقم الطالب فلان الفلاني ليحدثنا في العنصر الأول. وقد جرت العادة أن يكون أول المتحدثين أحد الطلبة النجباء والمشهورين في المعهد بأنهم من قراء كتب الأدب: علي الشرقاوي ومصطفي محمد حمدان ومحمد حسين شقار وحلمي حامد قلاوة، وجميعهم من محرري مجلة الحائط ورساميها وكتابتها بخط جميل علي نسق يحاكي المجلات السيارة المطبوعة. مطلوب من المتحدث أن يرتجل الحديث بلغة فصحي، حبذا لو كانت بأسلوب أدبي جاذب. حبذا أيضا لو كان عند المتحدث حصيلة من أشعار القدماء والمحدثين ويعرف كيف ينتخب منها أبياتا مناسبة للموضوع ليضمنها حديثه. فإن أخطأ في نحو أو صرف فإن الأستاذ لايقطع تدفقه إذا تدفق، بل يتركه حتي ينهي كلامه فيصحح له ولنا الأخطاء في شرح موجز. وإذا جاء كلام الطالب مبتسرا وبقي العنصر في حاجة إلي مزيد من التوضيح والأحاطة أعلن الأستاذ ذلك وطلب أن يقوم طالب آخر للإستدراك علي زميله في نفس العنصر. حتي إذا ما اتضح أن العنصر قد تم عصره واستيضاح كل ما يحتويه من ملامح ومعلومات وتداعيات استدعي طالب آخر ليتحدث في العنصر الثاني، وهكذا إلي أن ينتهي الحديث في جميع العناصر بإفاضة يشترك في استجلائها جميع الطلاب حتي الضعاف المتعثرون المتلعثمون، فهؤلاء كانوا يتطورون يوما بعد يوم، حيث تطالهم عدوي التألق والقدرة علي الارتجال من زملائهم القارئين فيسعون إلي تقليدهم بالقراءة مثلهم. متعة أخري يبثها في عقولنا أستاذنا الإنصاري محمد ابراهيم في مادة الإنشاء التي كان يعتبرها توسيعا للأذن وتعميرا للعقول. كان يدرس لنا رواية [أبوالهول يطير] لمحمود تيمور التي كانت مقررة علينا في السنة الدراسية الثانية بمعهد المعلمين العام في العام الثاني ــ والثالث والخمسين بعد التسعمائة والألف. لم تكن الرواية جاذبة علي الاطلاق وكنا ناقمين علي الوزارة لتقريرها علينا دون كل أعمال محمود تيمور الأدبية الممتعة. وكان الأستاذ يستشعر نفورنا من هذه الرواية الجافة الخالية من الحياة، فكان ينصحنا بالتريث في أحكامنا، ويدعونا إلي الصبر علي قراءتها ومحاولة فهم أغراضها التربوية الكامنة في سياق رحلة هذه الطائرة المصرية وما فيها من إثارة للخيال. انها ـ يقول ـ نموذج لأدب الرحلات الذي يجب أن نتعلمه ضمن ألوان الانشاء الأدبي، وأن نتعلم من أسلوب محمود تيمور كيف نعبر عن أنفسنا فيما نقوم به من رحلات، وكيف ننتبه ـ في أي رحلة نقوم بها ـ إلي ما تحتويه الرحلة من مشاهدات ذات دلالة ومعلومات ذات أهمية. حقا! حقا! َلقد كان الانصاري محمد إبراهيم نموذجا للمعلم الذي وصفه أمير الشعراء أحمد شوقي بأنه المعلم الذي كاد أن يكون رسولا، ومن ثم فيتعين علينا أن نبجله تبجيلا. كان أستاذا حميما، يمارس التدريس باستمتاع شخصي لا يتوافر إلا عند من يحبون عملهم. ولم يكن الانصاري يحب عمله فحسب بل كان محبا لطلابه أيضا، حتي الأغبياء منهم كان يشعر كأنه المسئول عن غبائهم. وارضاء لضميره كان يبذل جهدا مضاعفا في التحاور معهم برفق واحترام حتي يستوعبوا شروحه. وعند الحديث يتجه بنظره إليهم ليشعرهم بالثقة في أنفسهم، يشركهم في المحاورات ويوحي إليهم بالاجابات الصحيحة عن أسئلة يوجهها إليهم. استطاع أن يبث في الطلاب شغفا بالقراءة، وقراءة الأدب في المقدمة لأنها سوف تجذبنا إلي القراءة في كل ألوان الثقافة والمعرفة. كان يحدثنا ـ باغتباط ـ عن أدباء من مدينة دمنهور ومحافظة البحيرة لم نكن سمعنا عنهم من قبل: محمد عبدالحليم عبدالله من قرية كفر بوليت مركز كوم حمادة، هو مؤلف روايات: [لقيطة] و[بعد الغروب] و[شمس الخريف]. وعن أمين يوسف غراب الذي كان أمينا لمكتبة البلدية في دمنهور ثم أصبح كاتبا مرموقا للقصة القصيرة يعيش في القاهرة وتخطب الصحف ودور النشر وده. وعن إسماعيل الحبروك الذي يكتب القصص والمسلسلات الاذاعية والأغنيات الناجحة لكبار المطربين والمطربات ويكتب بانتظام في مجلة روزاليوسف قبل أن يرتقي ليصبح أحد رؤساء تحرير جريدة الجمهورية التي صدر ترخيصها باسم جمال عبد الناصر لتكون جريدة الثورة. وعن الأديب القهوجي عبد المعطي المسيري، وعن مقهي المسيري الذى أصبح بفضل صاحبه منتدي للأدباء ومقرا تجتمع فيه جمعية أدباء دمنهور، وفيها كتب توفيق الحكيم بعض صفحات من مسرحية [أهل الكهف] وفصولا من روايته: [يوميات نائب في الأرياف] أيام كان وكيلا للنائب العام في محافظة البحيرة. وكذلك زارها الأديب يحيي حقي وأقام فيها ندوة بدعوة من صاحب المقهي الذي يكتب القصص القصيرة والمقالة الأدبية وينشرهما في الصحف السيارة ثم يجمع كل ذلك في كتب يطبعها علي نفقته طباعة أنيقة علي ورق مصقول. لهذا انتابني شغف هائل للتعرف علي هذا المقهي والجلوس إلي صاحبها الأديب عبد المعطي المسيري، بات ذلك حلما من أحلامي لا يعطله سوي انخفاض روحي المعنوية لخلو يدي من قروش أدفعها ثمنا لكوب شاي أو فنجان قهوة ـ فضلا عن ثيابي الرثة التي لا تؤهلني للجلوس بين الأكابر وهم لاشك أنقاء محترمون مع ذلك بحثت عن المقهي حتي وصلت إليها، صرت ألف وأدور حوله، لا تواتيني الجرأة علي اقتحامه. إلا أن المرور عليه كل يوم أصبح طقسا، حيث أتلكأ عند شبابيكه الكبيرة، أسترق النظر إلي داخلها حيث يجلس الأستاذ المسيري ومن حوله الأدباء. إلي أن فوجئت ذات عصرية بأستاذنا بهاء الدين الصاوي الفنان التشكيلي ومدرس الرسم والأشغال بالمعهد. هو الذي التقطني إذ يهم بالدخول إلي المقهي. بتعمل ايه هنا يا ولد؟ قالها بابتسامته العريضة الحانية وهو يعدل نظارته الطبية السميكة فوق أنفه القصير المبروم كاصبع الكفتة. ثم أمسك بيدي في حبور: تعال أعرفك علي الأستاذ والأدباء وأسقيك شايا بالحليب الساخن يرم عضمك البائس. وسحبني إلي الداخل مخترقا الطريق مباشرة إلي منصة الماركات التي يجلس إليها الأستاذ. |
|
|
admin معلومات اضافية الجنس : العمل : الاقامة : العمر : 39 عدد المشاركات : 4284 تاريخ الانضمام : 14/05/2009 الدنيا ساعه فاجعلها طاعه | حبل غسيل 20/1/2014, 3:19 pm |
| حبل غسيل
لم يعد يفصلنى عن شباك صراف البنك الأهلى - فرع الشواربى - سوى خمسة أفراد. كانوا جميعا متذمرين، ليس بفعل السأم من طول الوقفة فى طابور مزدحم، ولكن هذا الواقف أمام الشباك بجسده الضخم قد طالت وقفته وكثر جداله مع الصراف بكلمات غير مفهومة لنا، يتخللها مزاح سمج ومداعبات أكثر سماجة يرسلها إلى الصراف وإلى بعض الجالسين إلى مكاتبهم خلف الحاجز الزجاجى لكابينة الصراف، فلا يضحك لها أحد سواه بصوت كقصف الرعد. أخيرا فهمنا أنه هو الآخر صراف فى احدى الشركات جاء يسحب مرتبات موظفيها، ولا ينى يردد أنه لابد أن يرجع بالفلوس مبكرا لتقبيض الموظفين اليوم قبل انصرافهم. لم أكن متذمرا بقدر ما كنت مغتبطا. فلقد تم كل شيء حتى الآن بسلامة. أهم ما كان يخيفنى هو ضياع شهادة الاستثمار (فئة ج) التى كنت اشتريتها بجنيه واحد منذ أعوام مضت، من أول مرتب قبضته من محل السنديونى المتخصص فى الأحذية الحريمي، التى اشتغلت فيه بائعا رغم حصولى على شهادة الثانوية العامة، ثم نسيتها تماما، خاصة أننى كنت كثير التنقل من حجرة فى بنسيون إلى حجرة فوق سطح عمارة فى وسط البلد إلى حجرة فى شقة مفروشة مشتركة مع بعض الزملاء والأصدقاء، وإلى أن وفقنى الله وهدانى إلى بنت الحلال الغلبانة العياشة فأكملت نصف دينى بالزواج منها وتعاونا معا فى شراء شقة صغيرة محندقة بمساكن حى زينهم الشعبية لانزال ندفع أقساطها شهريا إلى اليوم. فى كل هذه الانتقالات تاهت أوراق واختفت أشياء وأضيفت أشياء ثم طغت أشياء على أشياء. حتى فوجئت البارحة بخطاب يأتينى من البنك الأهلى على عنوانى بمحل السنديونى بشارع الشواربي، يخطرنى بأن شهادة الاستثمار الخاصة بى قد فازت فى السحب الأخير بعشرة آلاف جنيه. أسعدتنى المفاجأة أكثر من ليلة زفافي. زوجتى «مني» استخفها الطرب فجعلت تنقر على قعر الطاسة وهات يارقص أذهلنى قدر ما أبهجنى بمرونة خصرها الخيزراني. حتى طفلنا جاء يزحف ثم قعد يتفرج على أمه ويضحك ويصفق بيديه ويصدر أصواتا نزقة صارخة بالفرح. عند ذاك تذكرت الشهادة، فارتج قلبى شعرت بالفزع والضياع بل تشاءمت ويبدو أن وجهى قد اكفهر. سألتنى منى بوجه شاحب: ـ إيه؟ مالك؟ ـ الشهادة! ألا تعرفين أين هى فى كراكيب هذا البيت؟ توقف الدم تماما فى وجهها: ـ لا تقل إنها ضاعت وإلا وقعت من طولي! ـ اللهم اكفنا شر النحس يارب. تركتها إلى حجرة النوم. فتشت محفظتي، وتحت الجرائد المفروشة على أرفف الدولاب، وفى جيوب الملابس المهجورة، وتحت المرتبة. لحقت بى مني، سحبت أدراج الكومدينو كلها، قلبتها فوق الأرض. تبعثرت أوراق كثيرة: قسيمة الزواج، ايصالات أقساط الشقة والنور، كروت بأسماء نخبة من زبائن المحل. راجعنا كل ذلك عدة مرات، لا فائدة. من فرط اليأس والقهر صرت على أهبة البكاء. فلقد ظهرت فى الحال مشاريع اتضح أنها ملحة ولابد من تنفيذها فورا. ولكن، سبحان الله، اللى من نصيبك يصيبك فعلا. انتبهنا إلى طفلى الحبيب تامر زحف بين الأوراق وصار يفركشها بيديه ورجليه. فركعت منى لتجمعها، فحانت منها نظرة داخل فراغ الكومدينو حيث تركب الأدراج، فلمحت ورقة مطوية على نفسها اربع طيات. مدت ذراعها، قبضت عليها، أخذت تفكها كأنها تفرد طيات قلبي. أطل اسم البنك الأهلى على المساحة الخضراء ساطعا. زغردت مني، فانتعش تامر وقهقه، فزغردت له مرة ثانية ثم ثالثة. طويت الشهادة مثلما كانت، حشرتها فى محفظتي، وأوينا إلى الفراش فى أحضان حلم كأنه الفجر الندى الصبوح. فى البنك دلونى على الموظف المختص. راجع بطاقتى العائلية ورد هالى، راجع الشهادة على دفتر بجواره ثم ردها لى هى الأخري، ثم حرر لى إذن صرف أقبض بموجبه الجائزة من هذا الشباك. الرجل الضخم الجثة مندمج فى عد الرزم وحشرها فى حقيبة من نوع المنفاخ. ـ إزيك ياأستاذ! فينك وفين أيامك؟ امرأة رشيقة القوام فارهة. كل عضو فى جسدها بارز بشكل مستفز، دائم الحركة يكاد يستقل عن الجسد. على وجهها طبقة من المساحيق لابد أنها استغرقت ساعات أمام مرآة التسريحة لكى تقوس الحاجبين وتطيل الرموش وتقص شعرها الغزير المصبوغ بلون الحناء فى كعكة متدرجة كهرم سقارة فوق رأسها. ترتدى تاييرا من الشمواه الفاخر زيتى اللون، مفتوح الصدر تكشف الفانلة الداخلية عن بحر من المرمر تحيط برقبة طويلة مبرومة. ثمة سلسلة ذهبية تحيط بالرقبة يتدلى منها مصحف ذهبى فى حجم علبة الكبريت، ويتدلى من أذنيها قرط ذهبى على هيئة جعران فرعوني، وفى معصمها الأيمن أسورة على شكل ثعبان، وفى الآخر غويشة، وفى أصابعها خواتم بأحجار الفيروز والعقيق. من تكون يا ترى هذه السيدة العجيبة التى حيتنى من الطابور المجاور، ولا تلوى رقبتها وتحملق فى وجهى بإبتسامة المعاتب المتسامح؟! هذه الابتسامة مألوفة لي. هذه الأسنان المفلوجة التى يقال انها علامة حسن الحظ وسعة الرزق سبق لى أن أعجبت بها. حتى الوجه الدائرى بملامحه البلدى الخفيفة الظل والجاذبة لم تستطع طبقة المساحيق أن تحجب ظله الكامن فى ذاكرتي. ثم هذا الجسد لقد سبق لى أن تغزلت فى تفاصيله. اللعنة على ذاكرتى التى يبدو أنها باظت. ذاكرتى الآن كحجرة تخزين الكراكيب، تحتاج إلى ضوء قوى للمرور فيها حتى لا أدوس فوق كراكيب وأشياء لم يعد لها ثمة من حاجة لكننى إن دست فوقها دون ضوء فقد تغتالنى الأشياء مدافعة عن نفسها عند الصدام المفاجيء، أو على الأقل تمزق ثيابى إن لم تسبب لى جروحا وكدمات أليمة. ها هو ذا بصيص من الضوء الخارجى من خصاص باب فتحه صوتها: ـ نسيتني؟!! إخص عليك: زعلتني. أكاد أنطق اسمها. هززت رأسى بابتسامة ترحيب وسرور: ـ كيف حالك؟ منذ مدة لم نتقابل! بابتسامة عريضة ونظرة ذات معنى أزاحت ذقنها فى اتجاهى بحركة من يقول: سيبك من الكلام ده. كان وجهها يؤكد أننى لم أتذكرها تماما وأن هذا قد أغضبها بالفعل، حيث أهملتنى وانتظمت فى الطابور. وكانت توشك أن تقترب من الشباك الذى يستقبل الايداعات. دماغى كله دخل فى حجرة الكراكيب المهملة بإصرار عنيد. قادنى ضوء صوتها. ـ لا أدرى كيف ـ إلى الجانب الخاص بمحل السنديونى فى ذاكرتي. كنت مستجدا فى العمل، ولا أزال تلميذا فى الثانوية العامة، وأهلى فى شبين القناطر قد رموا طوبتى لتكرار رسوبى وارتفاع تكاليفى فأهملونى وضنوا على حتى بالكسوة، فتحديتهم وجئت إلى القاهرة لأشتغل وأذاكر من منازلهم. من حسن حظى كان محل السنديونى فى ثانى أو ثالث يوم على افتتاحه. ولأن أبى جزمجى يفصل الأحذية للناس فى بلدتنا فإن طفولتى كانت عالما من الأحذية بمختلف أنواعها وأشكالها وألوانها وأنواعها ومميزات جلودها طبيعية كانت أو صناعية. ولهذا فقد جذبنى هذا المحل الجديد. عرضت نفسى على السنديونى فأجلسنى تحت نظره يوما كاملا إطمأن فيه إلى معلوماتى وحلاوة لسانى ورقة طبعى الذى يؤهلنى للتعامل مع سيدات رقيقات. سرعان ما أصبحت البائع الأوحد فى المحل يساعدنى ثلاثة صبيان. تعلمت كيف أفهم الزبونة من دخلتها، من طريقة كلامها، من مظاهرها وحركاتها. تعلمت كيفية التسلل إلى قلوب الزبونات من خلال قياس أقدامهن واستكشاف الموديل الملائم. زبونات كثيرات كن على وشك الانصراف دون شراء ليأسهن من العثور على ما يناسب أذواقهن فى اللون أو فى الموديل. كنت ألاحظ ذلك وأنا بعد فى مرحلة الصبينة فى المحل، فكنت أفطن ـ ربما بالفطرة ـ إلى أن يأس الزبونات ليس فى عدم وجود ما يناسبهن بل من ضجر البياع فى قصر نفسه فى تطويل البال وأخذ الزبونة على كفوف الراحة، فبجرأة لطيفة أعطى نفسى حق التدخل بتشجيع ومباركة من نظرات صاحب المحل، الذى أصبح يصنفنى بأننى أعرف بالضبط الحالة المزاجية للزبونة وخاصة إذا كانت بمفردها. من أول نظرة فى عينيها أدرك إن كانت تود الشراء حقا أم أنها ستقرفنا لمدة عشرين أو ثلاثين دقيقة وفى النهاية لا يعجبها الأذواق أو الألوان أو الموديلات أو الأسعار فتنصرف مصحوبة بالسلامة. يا هانم وهى قد لا تكون هانم ولا حاجة. تعلمت أن الزبون صيد وقع فى المصيدة بمجرد دخوله المحل ويستحيل التفريط فيه بأى حال من الأحوال وإلا فلا يكون البياع بياعا بحق. ثم إن الزبونات مستويات وكذلك البضاعة. ومثلما هناك زبونات سناكيح فى لباس الهوانم الثمينة ففى المقابل هناك ألوان من الأحذية يتطابق شكلها مع الموديلات الثمينة إلى حد تكاد تكون شعبية، لكننى أقدمها للزبونة على أنها من الموديلات الراقية المتطابقة مع المعروضة فى الفاترينة، اختار لها الموديل واللون الملائمين لحجم القدم ولون البشرة، تفضلى يا هانم. تجلس على المقعد الجلدى المريح، أجلس أمامها مقعيا كجلسة ماسح الأحذية، أتناول قدمها بيد حانية أبث فيها حرارة قلبى المتوفرة المتوقرة، أخلع حذاءها برفق، ألبسها الجديد وأتمم عليه عند الكعب والكاحل فتلمس أصابعى لحم الساق دون إرادة، فيشب وهج الحرارة فى قلبي. أشير لها أن تمضى لتجرب، تروح وتجيء وأنا أصاحبها بالموسيقى التصويرية التى تطربها منطوقة فى كلمات: يا أرض احفظى ما عليك، مبروك على الأرض. يشرق وجهها بالنور والبهجة حين تعرف أن السعر أقل مما تخوفت. أما الهانم الحقيقية فإنها ليست مجرد شكل براق بملابس ثمينة مستوردة وسيارة فارهة وما إلى ذلك بل ربما كانت لا تملك شيئا من هذا على الإطلاق، إنما الهانم سلوك يقول لك ـ دون أن يقول ـ احترم نفسك فإنك، أمام هانم حقيقية واضحة الأصول، فى صوتها فى طريقة كلامها فى ألفاظها فى حركتها كل شىء فيها متسق غير مفتعل غير منتحل. هذه لها بالطبع معاملة خاصة هى التى تفرضها على المحل، نقول من فضلك هات الموديل الفلانى ماركة كذا من جلد كذا. فإن جاءها فحصته بالنظر المتمعن قبل أن تلمسه. وحين أساعدها فى الخلع واللبس أضاعف من أدبى واحترامى لنفسى قبل احترامها، وأكون صادقا معها فى كل كلمة، حتى فى الموسيقى التصويرية وهى تتمشى رائحة جائية تختبر راحة قدميها فى الحذاء، أتخير ألفاظا راقية مهذبة مثلها: منتهى الشياكة، فيرى فيرى جود، ياسلام لو الطقم اكتمل، وأقدم لها حقيبة يد من نفس الجلد بنفس اللون؛ وأثناء شرحى لمميزات الحقيبة التى أعدها المصنع لتكون مع الحذاء يكون صوتى دافئا بقدر ما أستطيع، أقرب إلى الهمس الودود، مما يقرب المسافة بيننا، فتعاملنى كأننى أخ أو صديق أو زميل؛ المهم أن البيع لابد أن يتم. وهكذا كل الزبونات صرن أصدقائى، أحبنى، بعضهن يسأل عنى أول ما يدخل المحل كأننى أصبحت شرطا للشراء. ثم إنهن ـ حتى السناكيح المتنكرات فى قالب الهانم ـ يغدقن على من البقشيشات السخية باسم الله ما شاء الله. بفضل البقشيش استطعت السكنى فى البنسيونات والحجرات المفروشة، وأدخل السينما وأفنظز مع الصحاب، زجاجتان من البيرة لا بأس، كأس براندى فى بار فى آخر الليل لا مانع، حجران فى تحشيشة مع الصحبة ليلتنا فل وعشرة، امرأة يتصيدها أحدنا فى الطريق أهلا بها. شفت لى يومين حلوين إلى أن قيدنى الزواج فعلمنى الأدب والاستقامة من أجل بنتين وولد أنجبتهم وراء بعضهم فقعدت زوجتى بهم فى البيت وشلت أنا الحمل وحدى فأصبحنا نمشيها بالتيلة. وذات عصرية بعيدة جدا، فى الفترة الميتة قبل حلول المساء، دخلت علينا فتاة فارعة تتأود، تتعمد إظهار مفاتن جسدها الفاتن بالفعل. كانت فى حوالى العشرين من عمرها، ووجهها قمحى اللون طازج الملامح، خجلها المصنوع المبالغ فيه أقنعنى أنها سنكوحة حديثة الدخول فى المقدر. مساء الخير، مساء النور يا هانم. برقة مفرطة أشارت إلى صندل معروض فى الفترينة« ممكن أشوفه؟ ممكن طبعا، تفضلى. ما أن بدأت أدس قدمها فى الصندل حتى تأكد لى أنها زبونة جاءت تبحث عن زبون. أنا أيضا ولد مفتح أفهمها وهى طايرة، لاغيتها، بالعين قلت وبالرمش قال. تواعدنا على اللقاء فى العاشرة والنصف مساء يوم الخميس المقبل فى حديقة جروبى عدلى. بنت المجنونة جاءت فى موعدها. وفيما نشرب عصير البرتقال قلت لها: ـ أريد أن أصارحك بشىء يابنت الحلال ـ إنى أموت حبا فى الصراحة ـ نحن ثلاثة أصدقاء نسكن فى شقة واحدة ونشترك فى كل شىء! ـ الشرط نور: كل واحد منكم يعطينى جنيها! ـ الرحمة! ـ أكره المساومة فى هذا الأمر! ـ تستحقين الأكثر على كل حال! ـ إهرش! وفركت أصابعها كأنها تعد النقود. ـ تقبضين مقدما! ـ إذا كان يعجبكم! كانت ليلة مكلفة جدا، لكنها كانت ممتعة بشكل لا يصدق، أشبه بالخيال، لدرجة أننا بتنا نكررها كل خميس، إلى أن جلست ذات ليلة أمام التليفزيون أشهد الشيخ الشعراوى يفسر القرآن الكريم بطريقة سحرتنى وألقت الرعب فى قلبى خوفا من عذاب جهنم على ما اقترفته من خطيئة. ذهبت إليه فى المسجد الذى يتكلم فيه، سألته عن كيفية التوبة وهل يقبل الله توبتى؟ فقال جزاه الله كل خير إننى يجب أن أصفى حسابى مع نفسى أولا، وأستمع الى قلبى وضميرى وأراعى الله فى كل عمل أعمله وكل نظرة أنظرها إلى امرأة، وأن أداوم الصلاة والزكاة والصوم فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ثم إن الله غفور رحيم. وقد حصل، كففت عن رؤية سونيا، كففت عن ملامسة سيقان الزبونات وعن نظرات الاشتهاء التى كنت أنقاد إليها دون أن أدرى، خدمتنى الصلاة بالفعل وجعلتنى مطمئن النفس فأقبلت عليها بإخلاص لا أفوت فرضا مهما كنت منشغلا، وأكتفيت بالكلام المحترم لتحسين البضاعة وإغراء الزبون على الشراء. ثم اكتملت هدايتى بالزواج من بنت الحلال، فسقطت سونيا من ذاكرتى تماما. ها هى ذى قد وقفت أمامى حية متوردة الخدين متأودة لم يغادرها الشباب رغم مرور أكثر من عشر سنوات، بل ازدادت نضارة ورعرعة. صارت أمام شباك الإيداع مباشرة، وصار بينى وشباك الصرف شخص واحد كانت سونيا قد فتحت حقيبة يدها وأخرجت منها عدة رزم من النقود من فئتى الخمسين والمائة: يتناولها الموظف واحدة بعد الأخرى فيضعها فى ماكينة العد، مرة بعد مرة، ثم يرمى بها إلى جواره، يكتب إيصال إيداع 500، يا بنت المجنونة لديك رصيد يبدو كبير فى البنك الأهلى! طبعا! رسمالك لايزال ريانا عفيا. أخذت سونيا الإيصال فدسته فى حقيبة يدها واستدارت، فواجهتنى. غمزت لى بعينها: تأمر بشىء؟ يمكننى أن أنتظرك. قلت بشيء من الود: شكرا ياسونيا مع السلامة انت. فمضت فى خطوات معجبانية، ملوحة بزراعها كالفنانات النجمات، فتابعتها بنظرة خاطفة، فلاحظت أن رجلا فى طابور الإبداع كان يتأهب لمصافحتها بوجه بشوش لكنها لم تنتبه إليه. لحظة أن صرت أمام الصراف. أعطيته إذن الصرف. راجعه، تلفت حواليه وقلب فى أدراجه بحثا عن نقود فلم يجد سوى القليل من الفكة. فنقر بأصبعه على الزجاج الفاصل بينه وكابينة الإيداع قائلا: ـ هات ماعندك فتناول زميله الرزم التى أخذها من سونيا وسربها إليه عبر فرجة فى الزجاج. فوضع الصراف إحدى الرزم فى ماكينة العد، فتأكد من صحة الرقم: عشرة آلاف، ثم أزاح الرزمة أمامى على الرخامة. فما دريت إلا ويدى تزيحها بعنف مذعور تجاهه، قلت فى توسل ورجاء: ـ لأ! أرجوك! بلاش دي! ذهل الصراف. راح يرمقنى بعين جاحظة كأنه يتفرج على كائن غريب: ـ يعنى إيه بلاش دي!؟ مش فاهم! ـ أرجوك! أعطنى فلوسا غيرها! ـ لماذا؟ ما السبب؟! ـ لـ. لـ. لغير سبب إنما أرجوك أن تغيرها من أجل خاطري! صفق الصراف كفا على كف، بدت عليه الحيرة، لمحت فى عينيه نظرة خوف تشى بأننى فى نظره ملئاث. وبدأ الناس من خلفى يجأرون فى ضجر: ـ خلص ياأخينا! ـ ماهذا الدلع الماسخ؟ ـ المجانين كثروا فى هذه الأيام المطينة بطين! ـ أين شرطة البنك؟ أزاح الصراف الرزمة خارج الشباك هاتفا بجفاء وفى عينيه نظرة تهديد: ـ وسع! وسع! إللى بعده! بغلظة قبض الواقف ورائى على كتفى قبضة مفاجئة آلمتنى جدا كأن كتفى صارت فى حنك تمساح غرز فيه أنيابه، ثم حدفنى بعيدا، صرت أتطوح كالبهلوان أحاول منع جسدى من السقوط على الأرض. مع ذلك اضطررت إلى الانخناء لالتقاط الرزمة التى رمى بها الرجال ورائى وراح يباشر عمله مع الصراف بثقة كأنه لم يفعل شيئا. فى شعور بالهوان وقفت مهزوما لا أدرى ماذا أفعل. لكن شد انتباهى رجل شكله محترم إلا أن وجهه طافح بالمرح والشقاوة والصبيانية، قد راح يرمقنى بإشفاق وهو مستغرق فى ضحك مكتوم يهتز منه بدنه وتدمع عيناه. إغتظت منه أشد من غيظى من هذا الذى دفعنى بقوة. حملقت فى الضاحك بنظرة متحدية، ثم اقتربت منه بحركة تهديد توهمت فيها الثأر كرامتي. صرخت فيه: ـ علام تضحك ياأخ؟ أعجبك مافعله بى هذا المتهور؟ فوجئت بملامح الرجل قد لانت وبدت جاذبة وطيبة، وفى عينية إنسانيه. حملق فى وجهي. كانت عضلات وجهه تتراقص بفعل ضحك مكتوم وعارم يريد الانطلاق فى قهقهة. نفس الشعور انتابنى فصرت أقاوم الرغبة فى الضحك مثله. أدرك هو هذا، فارتمى على صدرى فاتحا ذراعيه ثم احتوانى بها فى حرارة، واضعا رأسه فوق كتفي، مطلقا الحنان لضحك عميق من ذلك النوع الذى تشعر بأنه يغسل القلب مع أن بعض الواقفين فى الطابورين المتجاورين ظن أنه يبكي. ثم سحبنى لجنب، وضع يده على كتفى قائلا بصوت خافت فيه حميمية الأصدقاء القدامي: ـ أنا الوحيد هنا يفهم موقفك ولهذا ضحكت! ـ مكشوف عنك الحجاب ياتري؟ ـ نعم! ـ بركاتك ! تشرفنا! قل ياضارب الودع! ـ أنا أيضا أعرف سونيا! ـ نعم؟! ـ رأيتها وهى تلاغيك! ولو هى انتبهت إلى وجودى لتصرفت معى نفس التصرف وربما أكثر! جرادل من الماء البارد تندلق فوق بدنى حتى كدت أرتعش من الشعور بالبرد فى العراء: ـ عليها اللعنة! وشها نحس! ليتنى ما تذكرتها! ـ أنت طبعا كاشش من فلوسها باعتبارها فلوسا ملوثة جاءت من الطريق إياه! ـ بنت المجنونة كانت تأخذ جنيها من كل فرد! ـ أنت إذن عرفتها أيام الرخص! اليوم صار الجنيه خمسمائة! ـ إنى متشائم من هذه الفلوس! انطفأت فرحتى وتعكر دمي! انخرط فى الضحك! ـ على فكرة!! الفلوس بمجرد انتقالها من يد سونيا لإصراف البنك تعتبر قد غسلت وتطهرت! ـ سأطلب فتوى من مشايخ برامج التليفزيون! لكنها ستكون فضيحة لا لزوم لها وقد تعرف زوجتى فينخرب بيتي! رتب على كتفى بيد حانية: ـ هات أغيرها لك! ومال على الأرض فأمسك حقيبته من بين قدميه. فتحها نصف فتحة: ـ كم معك؟ ـ عشرة آلاف! سحب من حقيبته رزمة من فئة المائة قدمها لي: ـ ولا تزعل نفسك! سأودعها فى البنك على كل حال! ووضع رزمتى فى الحقيبة وأقفلها وتزحزح الى مكانه الذى تقدم فى طابور الإيداع. صافحته بحرارة ودعوت له بالستر، واندفعت خارجا أكاد أطير من الفرح. فإذا بالرجل الذى حدفنى خارج الطابور كان واقفا فى انتظارى على مبعدة خطوات. رفعت إليه رأسى فى توتر، لا أريد أن أفسد فرحتى بعد أن امتلكت عشرة آلاف جنيه من فلوس طاهرة مستحمة بعرق الكد والشغل الشريف. حاولت أن أتجاوزه، لكنه لم يوسع لي، بل حملق فى عينى بوجه بشوش يقطر حرجا: ـ آسف: ما كنت أقصد إيذاءك لكننى كنت متوتر! آسف! عندئذ إنهمرت دموعى بغزارة. فاحتضنى وربت على ظهري: ـ آسف مرة أخري! أنا فهمتك! نحستك المرأة العكنة! وأعطانى منديلا ورقيا لأجفف عيني. شكرته، صافحته بحرارة ومشيت. ويبدو أن الدموع الغزيرة قد غسلت عينى وقلبى ودماغي. فإذا بى فى حالة من السكون النفسى حتى لقد اختفت أصوات الشارع من أذني، فى حالة الروقان الطارئة هذه إذا بصوت فى دماغى يهتف بى فى مرح: ومن أدراك ياحلو أن هذه الفلوس التى أخذتها من صاحبنا ذاك طاهرة؟! أليس من المحتمل أن تكون هى الأخرى آتية من طريق أشد وضاعة وقذارة وحرمانية؟! وهذا الرجل نفسه من يكون؟ أليس من الواضح أنه ممن يدفعون لسونيا بالخمسمائة جنيه فى الجلسة الواحدة؟. شعرت أن الفلوس بدأت تشكشكنى فى جيبي. فى الحال تذكرت البقشيشات التى تأتينى من النساء زبائن المحل، المرجح أنهن لسن كلهن شريفات كما كذلك الرجال! أتكون حياتى كلها مسمومة بالحرام؟! أخذتنى هستيريا الضحك القريب من البكاء كأننى اكتشفت شيئا غريبا جدا فى هذه الحياة، لم أكن منتبها إليه من قبل وأننى فرح باكتشافه حتى وإن كان يدعو للخوف والحيرة، تماما مثل كثير من المنامات المرعبة التى كثيرا ما أراها بعد أيام من الإجهاد، تفزعنى ليلا وترهقنى طوال النهار. |
|
|
| روايات قصيرة للاديب خيري شلبي | |
|