إن من الأمور التي أثارها المحققون معي فضلا عن الإرهاب وما يتعلق به، أمر الديمقراطية وقد صادروا بعض الأشرطة التي أتكلم فيها عن الديمقراطية وحكمها واستمعوا إليها، وبنوا عليها أمورا كثيرة تتعلق بالتكفير وشق العصا.
وعلى كل حال فقولي في الديمقراطية أعلنته على المنابر وسجل وتناقله كثير ممن يهتمون بأمر الدعوة ولازلت مقتنعا به ولله الحمد على الرغم مما يراه بعض العلماء ممن اعتبرهم أخطئوا الفهم، وقبلوا الضعف والهوان، واتبعوا سبيل المداهنة والمجاملات ووقعوا في شرك أعداء الإسلام من حيث لا يشعرون، هذا أقل ما يمكن أن أقول عنهم وهاهنا مقدمات:
الأولى: يقول سبحانه { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير و أحسن تأويلا} [النساء:59]. والمقصود رد الأمور إلى الوحي الذي هو الحجة القائمة، لا إلى آراء الناس وما تجود به قرائحهم، فأقوال العلماء يحتج لها ولا يحتج بها والتقليد مذموم.
الثانية: يقول سبحانه وتعالى { فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون} [البقرة:22]. ويقول سبحانه { وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون} [البقرة:146]، {يا أيها الذين ءامنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون} [الأنفال:27]. والمقصود أن العالم قد يقع في هذه المهلكات العظيمة مع علمه فضلا عن غيرها، لأنه لو استحال ذلك لما نهي عنه، وذكر الهيثمي في المجمع وخرج حديث أبي الدرداء مرفوعا (إن أخوف ما أخاف عليكم زلة عالم…) الحديث. وفيه ضعف لكن روى ابو داوود عن معاذ ورواه الطبراني في الأوسط والخطيب البغدادي في تاريخه باسناد حسن عن أبي مسلم الخولاني أن معاذا رضي الله عنه كان يقول (اتقوا زلة الحكيم).
الثالثة: يجب التحري والتبيين، فالمتكلمون عن الديمقراطية ليسوا سواء في طرحهم، فالواجب النظر في طرحهم لها، لأن منهم من يفرغها من مضمونها ولا يأخذ بأصولها التي بنيت عليها فهؤلاء مخطئون لتبنيهم لهذا الشعار الخطير الذي فيه من التشبه بالكفار ما ينفر الأتقياء الأخيار، ولكن يعرف لهؤلاء ما عندهم من المحاسن.
الرابعة: أن ثمة فرقا بين الدعوى للديمقراطية وبين الاستفادة مما فيها من خير إن وجد، لأن الدعوة إليها دعوة للباطل وخذلان للشريعة، والاستفادة منها شيء آخر له حده.
الخامسة: ما يعرف بالديمقراطية الإسلامية أو الإسلام الديمقراطي ليس المسلمون من أراده وإنما هو مشروع كفري تبنته الإدارة الأمريكية ونظر له منظروها، وقد ظهر ذلك في تقرير "شيرلي بينارد" وهي زوجة " زلماي خليل زاده" سفير أمريكا في افغانستان بعد الحرب وهو الآن سفيرها في العراق، واسم التقرير "الإسلام المدني الديمقراطي" [1] وتلقاه مجلس الشيوخ والكونغريس والبيت الأبيض بالقبول.وظهر أيضا في نظرية "حرب المناهج" التي سعى لها " بول رولفويتز" نائب وزير الدفاع الأمريكي وأحد المحافظين الجدد وأصحاب القرار. وفي نظرية " روبرت سبنسر" التي تدعو لمحاربة الحرفية القرآنية بإيجاد تيارات إسلامية تتبنى الديمقراطية إذ يرى أنه بدون ذلك فلا مانع من ظهور الإسلام الحقيقي مجددا. وهو أحد أعضاء جهاز الاستخبارات ومدير موقع محاربة الجهاد.
ودعى بوش نفسه إلى صدام حضارات داخل الإسلام نفسه وليس كما طرحه "هنتنغتون" في نظرية صراع الحضارات. ناهيك عن الدورات الكثيرة التي عقدت في أمريكا وغيرها للبحث عن سبل إيجاد إسلام بديل، عقد آخرها سنة 2003 في واشنطون عن موضوع "الديمقراطية والإسلام الحضاري". وأعلن فيه وفي غيره ضرورة مساندة التيارات الإسلامية السياسية التي تتبنى الديمقراطية كحل، ولا تجعل تحكيم الشريعة وإقامة الحدود مسعى لها فضلا عن الجهاد وموالاة المؤمنين.
وقد نجح هذا التيار بفضل ذلك في تركيا وفي مصر بل وفي فلسطين وإن كان الحال مختلفا شيئا ما، وكشفت وثائق سرية كانت تبين ذلك. وهنا نتساءل عما أنجز من خلال ذلك النجاح هل طبقوا الشريعة أو أقاموا الحدود وحرروا البلاد أو ردوا كيد العدو بل لم يقع غير تمييع الدين، وخذلان الإسلام وشريعته باسم الإسلام وهذا هو لب نظرية "حرب المناهج" ونلاحظ ولع ممثلي هذا التيار بلقاء سفراء أمريكا للحوار معهم حتى في بلادنا وهذا يطول الكلام فيه وقد فصلت فيه في محاضرة مسجلة عن الإسلام الديمقراطي. وأنا الآن مسجون وبعيد عن المصادر أكتب ما أحفظه مختصرا ولله الحمد والمنة.
السادسة: إن من الدعاة من اضطرب قوله في الديمقراطية اضطرابا شديدا، قال إنها كفر، أو لعله يعني ما كان عند اليونان وما عند الدول الكفرية اليوم، وقال إنها أخف الضررين أي أنها تفضل على الاستبداد، وفي الأخير دعا إليها بأن تأخذ ويرد منها ما يخالف الإسلام.
ومعلوم أنها إذا كانت كفرا فالضرورة لا تبيح الوقوع في الكفر، وما دمنا نقول إنها أخف الضررين فالواجب البقاء على الأصل واستصحابه وهو أنها ضرر، وإذا كنا نرد منها ما يخالف الإسلام فقد تركنا أصولها، والشيء إذ فقدت أصوله لم يبق له كيان، فلماذا هذا الإصرار على هذه التسمية بالديمقراطية وقد فرغت من محتواها؟
إنها العولمة وما يمليه العصر من الانفتاح كما يقولون، ولكن لا خير في البدع ومحدثات الأمور وفي هدي النبي صلى الله عليه وسلم كفاية لمن أراد الله له الهداية. وهاك بعض ما يأخذ على الديمقراطية:
هي حكم الشعب بالشعب هكذا قال عنها اليونانيون أهلها، والحكم ليس إلا لله يقول سبحانه { إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم} [يوسف:40]. وجعل الحكم للشعب من دون لله عين الكفر والضلال.
تجعل التشريع من حق مجالس منتخبة من طرف الشعب والله سبحانه وتعالى يقول { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} [الشورى:19]. فإذا قالوا إنهم لا يشرعون الدين قيل لهم إنه في الديمقراطية يعتبر كل شيء قابلا للنقاش والتداول حتى أحكام الله المعلومة بالضرورة والتي يجب الانقياد لها والاستسلام { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} [النساء:65].
تدعوا الديمقراطية للمساواة المطلقة بين الذكر والأنثى والله سبحانه يقول { وليس الذكر كالأنثى} [آل عمران:36].{الرجال قوامون على النساء} [النساء:34]. {فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:285]. { فللذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء:11]. وفي صحيح البخاري (لن يفلح قوم ولو أمرهم امرأة). وفي الديمقراطية تصلح المرأة لتولي كل المهام. هذا فضلا عن المساواة بين الجاهل والعالم {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} [الزمر:9]. وبين المتقين والفجار { أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون} [السجدة:18].
تكفل الديمقراطية الحريات المطلقة التي لا حدود لها، بما في ذلك التعدي على حدود الله، فالفسوق والعصيان بل والردة كل ذلك حق تكفله الديمقراطية لصاحبها { ومن يتعدى حدود الله فولائك هم الظالمون} [البقرة:229].
الديمقراطية سبيل الكافرين وأعظم ما يفتخرون به ويميزهم ويدعون إليه في هذا الزمان والله تعالى يقول {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون} [الجاثية:18] ويقول سبحانه { فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون} [يونس:89]. وكم نهى النبي صلي الله عليه وسلم عن التشبه بهم وأمر بمخالفتهم وقال كما في المسند وسنن أبي داوود من حديث ابن عمر (من تشبه بقوم فهو منهم).
لا اعتبار للديمقراطية إلا إذا اعترفت بالمعاهدات الدولية التي من المعلوم أنها تتبجح بحقوق الإنسان بمفهومها عندهم، والتي يعتبر جلد الزاني البكر، ورجم المحصن وقطع يد السارق وغير ذلك من حدود الله منافيا لها . بل تعتبره وحشية وتمردا على الإنسانية.
تنفق الدول الكافرة والمنظمات الكفرية أموالا طائلة على الدول الإسلامية لتطبيق الديمقراطية والله تعالي يقول { إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله} [الأنفال:36]، لا لإقامة دين الله.
الدول الكافرة المهيمنة راضية أكثر عن الدول التي تحكم الديمقراطية خصوصا إذا كان شعبها مسلما والله سبحانه يقول { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصاري حتى تتبع ملتهم} [البقرة:120].
تطبيق الديمقراطية والرضى بها هو استجابة للدعوات المتتالية من الكافرين بضرورة تطبيقها والله سبحانه يقول { يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين} [آل عمران:100].
ليست الديمقراطية هي الشورى وهيهات، فالشورى أمر مشروع يقول تعالى { وشاورهم في الأمر} [آل عمران:159].ويقول { وأمرهم شورا بينهم} [الشورى:38]، ومعلوم أن الأمر إذا قضاه الله ورسوله فلا مشورة ولا اختيار، خلافا للديمقراطية التي ترد الأمور كلها إلى الشعب بالاقتراع المباشر أو غير المباشر عن طريق ممثلية والله سبحانه يقول { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} [الأحزاب:36].هذا والديمقراطية تساوى الناس في المشورة، البر والفاجر والعالم والجاهل. فشتان ما بينها وبين الشورى في الإسلام.
الديمقراطية هي حكم الأغلبية، وهذا يجعلك أخا الإيمان تدرك أنها لا تصلح للعالم خلافا لما يريد أهلها من إرسائها فيه، بل تفسده لأن الأغلبية لا يؤمنون ولا يشكرون ولا يعقلون وفاسقون وليسو مرحومين ولا يؤمنون بالله إلا وهم مشركون، فإذا ردت إليهم مقاليد الأمور فسدت الأرض، وهذا بين في كتاب الله {ولكن أكثر الناس لا يعلمون}.
يبررون الدعوة إليها بضرورة الاستفادة منها ونحن عندنا دين ما ترك خيرا إلا ودل عليه، ولا شرا إلا وحذر منه، وفي صحيح مسلم لما ذكر سلمان الفارسي رضي الله عنه حديث الخراءة قال له يهودي إن نبيكم علمكم كل شيء حتى الخراءة، قال: نعم. فقبل أن نأخذ من الديمقراطية والكفار ما يوافق الإسلام فلما لا نأخذ الإسلام وقبل البحث عما لا يخالف الإسلام لم لا نكتفي بالإسلام.
لقد والله وقع مصداق قوله صلى الله عليه وسلم (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا اليهود والنصارى قال: فمن؟). متفق عليه. وقد جاء عن أبي سعيد وأبي هريرة وأبي واقد الليثي وغيرهم .
يقولون إنه بالديمقراطية تزدهر البلاد وينعم العباد، فدعوا إليها من هذه الجهة ولم يدعو لتحكيم الشريعة، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعا (بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا).
الديمقراطية الإسلامية كقولنا الشيوعية الإسلامية والاشتراكية الإسلامية والذين يقولون إن الديمقراطية الإسلامية لا تجعل الحكم والتشريع لغير الله ولا تعطي الحريات المطلقة ولا تدعو للمساواة المطلقة إلى غير ذلك، يقال لهم إنهم بالإمكان بعد ذلك ادعاء يهودية إسلامية لا تكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم بل تؤمن به ولا تقول عزير ابن الله ولا يد الله مغلولة وهكذا لا تأخذ من اليهودية إلا ما يوافق الإسلام.
هذا وبدلا من تسخير الوسائل وبذل المجهود للدعوة إلى الديمقراطية فالواجب صرف كل ذلك إلى تحكيم شريعة الله وإقامة دينه ففي ذلك الخير والسعادة في الدنيا والفوز والفلاح في الآخرة. ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها فلنسع للإصلاح من خلال الوحي المبين لا بالديمقراطية الحديثة ولا القديمة.
واعلم أيها القارئ الكريم أن الوطن لا ينبغي أن يكون أحب إلينا من الدين بل من لوازم حب الوطن أن نحب إقامة الدين فيه، وحب الدين وحب إقامته في كل بلد هو الأصل. فمن سعى لإقامة الدين في وطنه أولى بادعاء حب الوطن من الذين لا يسعون ذلك المسعى. وبذلك تعم الفضيلة وتنتشر المحبة ويشيع الإخاء والرحمة وينهل الناس من معين السعادة ويفيئون ظلال الأمن والسلام.
يقول سبحانه { ولو أن أهل القرى ءامنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض } [الأعراف:96]. ويقول سبحانه { ولو أن أهل الكتاب ءامنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم، ولو أنهم اقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون} [المائدة:65- 66].
وفقنا الله لما يحبه ويرضاه والحمد لله
كتبه
العبد الفقير إلى الله
محمد سالم ابن محمد الأمين المجلسي
السجن المدني – نواكشوط - موريتانيا
(فك الله أسره وجميع إخوانه)
حرر بتاريخ 20/09/2006