الأسوأ من الجهل هو الإصرار علي الجهل.. والجهل بالتاريخ وتجهيل المصريين بتاريخهم والالحاح المتواصل به جعل الحق باطلاً والباطل حقاً وتشوه التاريخ تماماً وهذا ما أوصلنا إلي ما نحن فيه الآن من غياب لرؤية واضحة وتخبط وفوضي ثقافية وسياسية وذهنية والحقيقة أن رجال يوليو عندما تولوا إعادة كتابة تاريخ مصر
علي هواهم بداية من محمد علي وحتي الأسلحة الفاسدة وحريق القاهرة عبثوا بالحقائق عبثاً مخجلاً ليصلوا في النهاية إلي أنهم صنعوا بداية فجر الحرية وعلي أيديهم تحرر الشعب المصري الذي كان شعباً من العبيد الأذلاء منذ آلاف السنين حتي يوليو 1952 شطبوا برعونة كل ما هو مشرف ورائع وبطولي من تاريخ المصريين زعماء وشعباً وأعطوا للجبناء تيجان الشجاعة ونزعوا عن الأبطال رداء النضال والنتيجة أن التاريخ كتب علي الهوي وأصبح يرضيهم ويجافي الحقائق ولذلك أصبح من الثوابت في ثقافة المصريين المحببة دمغ كل ما هو سابق بالفساد الشامل والانحطاط الكامل وادعاء أن كل ما هو قادم سيكون فجر الطهارة والنقاء والجنة الموعودة.
وبالتالي تهاوي التاريخ وتضاءلت قيمته وكل من يريد أن يكتب عن التاريخ له مطلق الحرية سواء في الصحف أو في الكتب وطبعاً في القول في كل الشاشات وأصبحت الاخطاء في الأحداث وتواريخها وأشخاصها شيئاً ليس ذا بال ولا يستحق عناء التنويه أو اصلاح الخطأ وحتي الصور التي تنشر للزعماء القدامي أغلبها مغلوط وكم رأيت صورا «للأمير يوسف كمال» و«عزيز باشا عزت» و«شريف باشا صبري» وكتب أسفلها اسم «سعد زغلول» طالما صاحب الصورة له شوارب وفوق رأسه طربوش خلاص.. مش حدوتة وبلاش حنبلة ومافيش فرق بين زيد وعبيد لأن الاثنين لابسين طرابيش والتاريخ أساساً مشاع والحرية في الأوساط الثقافية والمناهج مثل العبث والاثنان ملك للشعب الثائر.. والاصرار علي الخطأ الشائع أصبح من مظاهر الوطنية الحقة.
وللمرة -لا أعرف الكام- في شهر فبراير يصمم أصحاب الأقلام والصحف علي أن فبراير هو شهر مذبحة كوبري عباس عام 1946 وأنه يوافق يوم الطالب الشهيد ويكتب كل عام مثل هذا العام.
عندما قامت الشرطة عام 1946 بفتح كوبري عباس بأمر من وزير الداخلية ورئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي باشا أثناء مرور الطلبة من فوقه في مظاهرة مناهضة للاحتلال البريطاني.. وهو الأمر الذي أدي إلي استشهاد 23 طالبا.
وبالطبع يفهم من هذا الكلام أن النقراشي باشا كان يضحي بالشباب المصري ويأمر بقتله لأنه يهتف ضد الإنجليز أي أن النقراشي باشا لا يتحمل أن يسمع أي إهانة للإنجليز وفي سبيل ذلك يقتل الشباب ويفتح عليه الكوبري.. والغريب هو رقم 23 طالبا ولا أعلم من هو واضع هذ الرقم وأزعم أن العام الماضي كان الرقم أقل من ذلك ويبدو أن عدد الشهداء يزداد بمرور الأيام سيداتي.. سادتي.. العودة إلي كتب التاريخ ليست بالعسيرة ولن تستغرق سوي دقائق معدودة والاصرار علي الخطأ والالحاح به حوله إلي حقيقة في أذهان الشباب والصحفيين وتحويل الباطل إلي حق مصدق هو الجهل بعينه والجهل لن يؤدي إلا إلي مزيد من الجهل وكثير من الفشل وانعدام الانتماء.
أولاً: شهداء الجامعة المنقوشة أسماؤهم علي النصب التذكاري لجامعة القاهرة سقطوا في مظاهرات نوفمبر لعام 1935 عندما خرجوا يهتفون مطالبين بعودة دستور الأمة وسميت أيامها «بمظاهرات الدستور» واسماها عبدالرحمن الرافعي «ثورة الشباب» وبرر هذا بأنها كانت صورة مصغرة من مظاهرات ثورة 1919.
ثانياً: بدأت هذه المظاهرات في يوم الجهاد 13 نوفمبر 1935 بعد احتفال زعماء الوفد بهذه الذكري والمطالبة بعودة دستور الأمة.
ثالثاً: سقط أول شهيد من عمال السرادق الذي أقيم فيه الاحتفال برصاص البوليس الإنجليزي وهو «إسماعيل محمد العبد».
رابعاً: في اليوم التالي 14 نوفمبر تجددت المظاهرات وتجمع الطلبة في ساحة الجامعة واتجهوا إلي القاهرة فقابلهم البوليس الإنجليزي والمصري باطلاق النار وقتل من طلبة الجامعة «محمد عبدالمجيد مرسي» من كلية الزراعة و«محمد عبدالحكم الجراحي» طالب الآداب و«علي طه عفيفي» طالب دار العلوم وقتل الخامس في مظاهرة في طنطا وهو «عبدالحليم عبدالمقصود شبكة» طالب بالمعهد الديني.
خامساً: كان صاحب فكرة النصب التذكاري هو النقراشي باشا نفسه لأنه كان يعمل أصلاً بالتدريس وكان قريباً من الطلاب والتلاميذ وكان رئيساً لفرق كشافة الوفد المعروفة بفرق القمصان الزرقاء وزعيماً لهم وأزاح معهم الستار عن النصب التذكاري في 7 ديسمبر وقام الطلبة يومها بمظاهرة هائلة تصدرها كل الزعماء الوطنيين وكان تصرف الطلبة سبباً في حدوث الائتلاف الوطني بين الزعماء وعودة الدستور بعد غياب خمس سنوات.
سادساً: أحداث فبراير 1946 بالتحديد «9-10» فبراير كانت بسبب المطالبة بالجلاء بعد وضوح سوء نية الإنجليز وعدم رغبتهم في الجلاء عن مصر.. وخرجت المظاهرات يوم 9 فبراير من جامعة القاهرة قاصدة قصر عابدين وكان الطلبة يهتفون بالجلاء.. وعندما وصلوا إلي كوبري عباس كان مفتوحاً بالفعل لمرور المراكب فنزل بعض طلبة كلية الهندسة إلي أسفل الكوبري وأغلقوه حتي يعبر الطلبة إلي البر الشرقي للنيل فاصطدموا بقوات البوليس التي حاولت صدهم عن التقدم وضربوهم بالعصي الغليظة وأصيب 84 طالباً ونقل أغلبهم إلي قصر العيني ولكن لم يمت أحد منهم.. نهائياً ويقول الرافعي بالحرف الواحد في كتابه «أعقاب الثورة المصرية» الجزء الثالث صفحة «187»:
«بالغ الرواه في تصوير حادثة كوبري عباس ليجعلوا منها فيما بعد دعاية سياسية ضد وزارة النقراشي وزعموا أن بعض الطلبة قد قتلوا وبعضهم غرقوا في النيل وقد تحققنا أنه لم يقتل أحد ولم يغرق أحد في هذه الواقعة بالذات ولو كان قد حدث لذكر اسمه ولو بعد حين».. ويضيف الرافعي «ان الاعتداء علي المتظاهرين هو عمل منكر في ذاته وكان واجباً ترك الطلبة حتي يصلوا إلي قصر عابدين إذ لم تكن هتافاتهم عدائية للحكومة ولكن ليس من الانصاف رواية الوقائع المبالغ فيها واخراجها عن حقيقتها ارضاء للمآرب والشهوات».