توسيع أبواب المحاكم .. هو الحل
لم يجل أبدا بخاطر السنهوري باشا أنه بعد عدة عقود من وفاته وبعد أن بلغ ما خلفه من علم قانوني وفكر شرعي أركان المعمورة أن ممثلا لتجمع قضائي منتخب سوف يشبهه بأحد عملاء أمن الدولة و المخابرات الأجنبية ، ربما لو تصور السنهوري باشا ذلك أثناء تأليفه لكتاب " المبسوط في القانون المدني " لاكتفي بكتابه " الوجيز " ولوضع كتاب " الوسيط " على رف مكتبته ولسان حاله يقول " خسارة في هذا الجيل من القانونيين " هذا النوع من العلم ويكفيهم قراءة كتب المطالعة والقراءة الرشيدة حتي يستقيم لسانهم و تفك آذننا شفرات الكلمات التي تقع داخلها بصعوبة بالغة .
بدأ انهيار مرفق العدالة في مصر مع انهيار مصر فلا هو أسبق منها ولا هو في عقبها غير أن ما سلط الأضواء على ذلك الماء الآسن في بلادنا بعد أن كانت جنات تجري من تحتها الأنهار هو تحولها فجأة وبدون مقدمات من دولة ليس للقانون فيها شأن يذكر إلي بلاد منتديات قانونية تتحدث عن الدستور والقانون ليل نهار فظهر أمام الشعب وبعيدا عما يحيط بجلسات المحاكم من سرية عوار المرفق المقدس الذي طالما تغني به الشعب باعتباره الملجأ الوحيد والملاذ الحصين .
لست أقصد هنا تجريح القضاة وإنما بالتأكيد أقصد تسليط بعض الضوء على المرفق القانوني ككل مبانيه الخرسانية ومبانيه البشرية من قضاة ومحامين وموظفين ( محضرين وكتبه وأمناء سر ... إلخ ) ، لم يكن صديقي قد قرأ الكثير من الكتب القانونية ولكنه بفطرته قال لي منذ عدة سنوات أن الحكومة تقصد أن تذهب الي عضو مجلس شعب لكي تحصل على حقك بشكل أسرع من مكاتب المحامين و" دهاليز المحاكم " ، تذكرت ما قاله لي صديقي عندما توفيت زوجة صديق آخر في حادث سيارة على مشارف مدينة دربن في جنوب إفريقيا وبينما نتناقش مع المحامي هناك بخصوص أتعابه في قضية التعويض أطلعني على شهادة وفاة وصحيفة دعوي وشيك بمبلغ التعويض بين أولهم وآخرهم زمن لا يتجاوز الثلاثة أشهر لأحد موكليه في حادث مشابه .
لا شك أن المستشار الزند كان يحاول الإنتصار للقضاة في مؤتمره الصحفي الذي شبه فيه مصطفي بكري بواحد من أكبر الفقهاء القانونيين في التاريخ البشري العربي والإسلامي على الأقل " السنهوري باشا " ، ولا شك أن المستشار أحمد رفعت كان يحاول أن يثبت انتصاره للثورة عندما ألقي على مسامعنا - التي تأذت كثيرا - خطبته العرجاء مستهلا بها الحكم بتبرأة عشرة من القتلة وادانه هشه لإثنين من المسنين ، ولا شك أن المستشار بجاتو كان يدفع عن نفسه تهمة التزوير عندما أسمعنا " وصلة " معايرة للبرلمان والنواب بأن من أتي بهم الي المجلس النيابي هو المستشار عبد المعز ابراهيم المتهم بتهريب محبوسين أجانب . لا شك أن أولئك وهؤلاء لهم الحق في الدفاع عن أنفسهم وتجميل وجوههم جاهدين ، ولا شك أننا خلال الشهور القليلة المقبلة سوف نشهد من أمثال أولئك الكثير ليس فقط في سلك القضاء وإنما في كل موقع تتسلط الأضواء على من تولوا المسئولية فيه ، وهؤلاء وأولئك لم يختاروا أنفسهم لتلك المواقع العالية والمناصب الرفيعة وإنما صعدوا عليها بعد أن صارت أنقاضا متهدمة بفعل نظام المجرم حسني مبارك فلم يك جوهريا من يصبح رئيس محكمة استئناف القاهرة بعد أن أصبحت القاهرة نفسها مدينة العشوائيات والقمامة وليس مهما من يقضي بين أهلها إن كان أهلها في جلهم من أطفال وشباب ونساء الشوارع ، غضب القضاة عندما تبوأ المقدم فاروق سلطان الضابط بالقوات المسلحة مقعد رئيس المحكمة الدستورية العليا ولم يك ذلك منهم حزنا على الدستور الذي لا يتصور أن يقوم على حراسته مقدم مستقيل لأن الدستور في ذلك العهد لم يكن شيئا مذكورا يعرفه خاصة القضاة فضلا عن عوامهم وإنما غضبوا لأن ذلك خالف التقاليد القضائية وغضب القاضي أحمد رفعت غضبا كبيرا عندما قام أحد المحامين إلي المحكمة ليقول أن حسني مبارك قد مات منذ نحو ثمان سنوات لأنه ضيع وقت المحكمة ولم يغضب للآلية التي أصبح مثل ذلك المحامي " محامي " وغضبنا جميعا بعد أن سمعنا خطبة المستشار أحمد رفعت التي أعقبها بحكمه المتقدم - غضبنا بسبب الحكم لا بسبب الخطبة التي تشبه مرافعة عبد الفتاح القصري في قضية الحائط و ربما لو كان الحكم خلاف ما تقدم لكان رأينا في القاضي خلاف ما تأخر ، إن تلك الخطبة التي أجدني على ثقة كاملة بأن شخصا آخر خلاف القاضي رفعت هو الذي كتبها وليست تلك الثقة بسبب ذكاء مفاجئ أصابني وانما لان الطبيعي أن من كتب شيئا في الغالب الأعم يستطيع قراءته و يعجز الإنسان أحيانا عن قراءة مالم يكتب ، ويبدو لي أيضا أنني والجالسون على المقاعد أمام القاضي يومئذ فقط هم من فاجأتهم الأحكام لأن المرابطون في القفص كانوا من الثبات بمكان - سواء من تلقي منهم البراءة أو من تلقي الإدانة - بحيث يتنافي تماما مع شخصياتهم الهزلية وأنفسهم الحريصة على الحياة .
إنني أتذكر جلوسي في منتديات أبي عندما كان يصف أحد أصدقائه قاضيا في محكمة الجنايات فلم يذكر عنه سوي أن " الباب ما يعدهش " أي بلغ من ضخامة الجثة مبلغا كبيرا ولعل هذا في الغالب هو نفس المنطق الذي بسببه عين حسني مبارك وزير العدل السابق ممدوح مرعي ورئيس المحكمة الدستورية فاروق سلطان ورئيس محكمة استئناف القاهرة عبد المعز ابراهيم وربما أيضا المستشار تامر بجاتو والمستشارة تهاني الجبالي وغيرهم من " فطاحل " القضاة و " عمالقة " العدالة ، إن الحل في نظر صديق أبي ربما يكمن في توسيع الأبواب حتي أن أولئك الحاليين ممن " يعديهم " الباب يحالون إلي التقاعد .