إشكالية التلازم بين الرضا بالديمقراطية والتعامل معها
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
0
:
إشكالية التلازم بين الرضا بالديمقراطية والتعامل معها
Share
إن على المسلم أن يزيل المنكر إن قدر عليه لقوله صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره)[1]، وقوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ78 كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78 - 79]، والأدلة على هذا المعنى متظاهرة.
وإن لم يستطع إزالة المنكر لكن أمكنه التخفيف منه فذلك واجب عليه، فمن أصول الشريعة تقليل المفاسد إن لم تمكن إزالتها، قال ابن القيم رحمه الله: «إنكار المنكرات أربع درجات؛ الأولى: أن يزول ويخلفه ضده، الثانية: أن يقل وإن لم يزل بجملته، الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله، الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه.. فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة»[2]، ومن أدلته قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)[3]، والأدلة على هذا المعنى كثيرة.
لكن من المقرر من حيث الأصل كذلك منع التوسل إلى طاعة الله بمعصيته، ولا يُشكل على هذا أن المحرم تُبيحه الضرورة بقدره كما هو مقرر، فالطاعة المعجوز عنها حكماً لفوت شرطٍ شرعي أو قيام مانعٍ شرعي كالطاعة المعجوز عنها حقيقةً لا يكون إتيانها واجباً ولا مستحباً ليقال تُفعل ضرورة، ولهذا لم يقل فقيه بجواز السرقة لتحصيل نفقة الحج، بل قال القائل - وتجاوز:
إذا حَجَجْتَ بمالٍ أصله سُحت
فما حججت ولكن حَجَّت العير!
وكذلك المرأة لا يجوز لها الحج بغير محرم مع أن الحج ركن الدين، غير أن من شرط وجوبه رفقة المحرم في السَّفر، واختلفوا في سَد الرفقة المأمونة مسدَّه، فإن لم تجد المحرم كانت عاصية بسفرها، مع صحة حجها.
و(الله طيب لا يقبل إلا طيباً)[4]، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، ليتوسل بمعصيته إلى طاعته، وإنما تجاوز عن المكره بمَنِّه فرفع عنه حكم الذنب وإن تلفظ بالكفر، قال تعالى: {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106]، كما تجاوز عن المضطَّر بفضله فرخص له أن يأتي المفسدة {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ} [الأنعام: 199]، ولهذا إن كان لا بد للمرء من إحدى مفسدتين ضرورةً فهنا لقاعدة الضرورات تبيح المحظورات مجال، كأكل الميتة لمنع زهوق النَّفس مثلاً، وكرفع الإثم عمن رمى نفسه في البحر المخوف الهائج وهو لا يأمن السلامة لينجو من الحَرَق المحقق[5]، وكإتلاف الأموال والمتاع بالرمي في البحر للنجاة من الغرق، بل في التنْزِيل: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْـمُدْحَضِينَ} [الصافات: 141].
وبعد هذه المقدمات المهمة
تجيء إشكالية المشاركة في الانتخابات منتخَباً أو منتخِباً بقصد إزالة منكر بتحكيم شرع الله، أو بتخفيف معارضة الشريعة عن طريق اختيار الأمثل، هل هذا من قبيل التوسل إلى الطاعة بالمعصية المحرمة بل بالمشاركة في التشريع والحكم والدخول في عملية كفرية (ديمقراطية)؟ أم هو من قبيل إزالة المنكر أو تخفيفه بفعل لا يشتمل على محذور في ذاته ولا يقتضيه ؟
هذا هو موضع الإشكال الذي اضطربت فيه أفهام فئام ممن أرادوا خيراً !
ولمعرفة وجه الصواب في القضية لا بد من استحضار أن التصويت للأقل مفسدة وإن كان كافراً ليس محرماً في ذاته بنص كالزنا! فإن الأفعال التي نص الشارع على تحريمها يجب اجتنابها، فلا يقال هذا الرجل إذا لم أشرب معه الخمر سيشربها مع تلك المرأة ويفجر بها! فهنا لا سبيل للتخفيف للعجز الحكمي بسبب تحريم الفعل المقلل للمفسدة، بل اجتناب المحرم واجبٌ، وكل نفس بما كسبت رهينة، وليس في الصورة المفروضة إكراه يعذر به أو ضرورة تلجئه لأحدهما.
أما إذا أمكن التخفيف بفعل لم يتوجه إليه نهي فيجب التخفيف، فإن أمكن رجل أن ينهى آخر بحضوره مجلس المنكر لإنكار بعض المنكرات دون بعضها وكان إذا غاب وقعت كلها شرع له الحضور لتقليل المخالفة بهذا القيد، وليس حضور المنكر لإنكاره من شهود الزور المنهي عنه.
وكذلك التصويت هو إدلاء بالرأي أصله جائز لقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]، ونحوها من الآيات، ولأن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه شاور الناس[6]، وإنما دخل المنكر من جهة تسوية القائمين على الانتخابات في النظم المعاصرة رأيَ أهل الحل والعقد بالعامة، وتسوية الكافر بالمسلم، وهذا يتحمل وزره القائم على الانتخابات، فإن عُلم أن هذا سيعتمد رأي الأكثرية، وعُلم أن الواجب اعتماد رأي أهل النظر، شرع للعامة تكثير رأي هؤلاء بفعل هو في أصله جائز ما لم يفد إقراراً للمنكر.
فإذا كان المشارك يكثِّر رأي أهل الرأي والنظر وينتخب من يشير به أهل العلم وهو يعلن موقفه من الديمقراطية، فلا يقال إن مشاركته محرمة في ذاتها ولا باعتبار ما تفضي إليه في هذه الحالة، بل المحرمة من تفضي مشاركته إلى مخالفة رأي أهل الحل والعقد، بل لو قيل بتحريم مقاطعة من تفضي مقاطعتهم الانتخابات لمخالفة أهل الرأي المعتبر لكان وجيهاً.
وقول بعض الفضلاء: المشاركة في التصويت مشاركة في الديمقراطية الكفرية وذلك رضا بها فلا تجوز بحال، أو بعبارة أخرى: رضا بالتشريع البشري المخالف لشرع الله وحكمه كالتشريع.
شبهة ملخصها أن التصويت محرم للزوم الإقرار أو الرضا له.
وكشفها باختصار في بيان أن المشاركة أنواع، منها ما يكون رضا بالتشريع أيَّاً كان الاختيار وإقراراً له، ومنها ما لا يكون كذلك، فجعل كل تعامل مع منكر رضا أو إقراراً له مجرد دعوى يظهر فسادها إذا اعتبرتها في منكرات أخرى، نظِّرها كما نظرها بعض أهل العلم بالمشاركة في دخول خمَّارة فيجب أن يفرق بين من دخلها لإزالة المنكر الذي بداخلها أو تخفيفه وبين من دخلها ليشرب أو يفجر، والتسوية بين هذين من أبين الظلم، بل لو شارك في منافسة لإدارة المبنى وهو يعلن أنه سيحوله إلى مطعم فعمله مبرور.
أما سكوته أو إحجامه أو مقاطعته لشؤون لا بد فيها من وقوع أحد محظورين وله بدفع أحدهما يد فهو معتبر كفعله، بل السكوت للإقرار والرضا أقرب، فإن قلت أنا أعلن رفضي للاثنين مع علمي بأنه مؤثر في نتيجة الانتخاب فكذلك المشارك يعلن مخالفته للاثنين لكنه دفع بالأخف ضرراً استجابة لمقاصد الشريعة وعملاً بقاعدتها في المصالح والمفاسد، وكما لم يلزم الرضا المقاطع، فلا يلزم المشارِك المنْكِر الذي يعلن أنه إنما يريد بمشاركته تخفيف المنكر، وإلا كان كل عمل على تقليل المنكر رضا بالمنكر الأدنى وهذا خلاف الواقع وما يقرره الفقهاء.
وهذا في المشاركة بالعملية الديمقراطية يشمل المشاركة في الترشح بغرض إقامة الشرع، والمشاركة في ترشيح من يقيم الشرع، والمشاركة في الدفع بالأخف ضرراً مع الجهر بالإنكار على مخالفاته.
- فالذي يزعم أن المشاركة بالترشح في العملية الديمقراطية مشاركة في التشريع أو رضا بمبدأ التشريع المخالف لشرع الله يغالط واقع المشارك الذي يُعلن أن الغرض من مشاركته إقامة شرع الله، وهو يعلن أن تلك خطته وذلك برنامجه الذي يحاول فرضه، ولا يرضى بسواه، بل سيعارضه.
وللمخالف أن يعكس القضية ويقول إحجامك إباحة أو رضى أو إقرار للاثنين أو من يظفر ولو كنت منكراً حقاً لا ادعاء لصَدَّق القولَ عملٌ؛ فإن كان عذرك العجز عن الإزالة كما هو عذر المشارك فليس لك عذر في ترك السعي للتخفيف من المنكر فذلك مقدور لك.
والقصد بيان غلط من عدَّ الداخل مشاركاً في المنكر ولو دخل لإنكار التشريع المخالف لحكم الله أو تخفيفه، والمغالطة في هذا عند من تصورها أقبح من المغالطة في عدِّ الداخل خمارةً من أجل الإنكار شارباً! والداخل لسوق مقراً لكل منكر فيه والمشارك في منبر عام - كمنابر الإنترنت مثلاً - كذلك والداخل مدينة كذلك والعامل في مؤسسة كذلك وهلم جراً!
- وأما الذي يزعم أن المصوت للأخف ضرراً تصويته له رضا بمنكرات برنامجه الذي اختاره، فلا يسلم وهو يعلن الإنكار عليه حيث خالف الشرع! وقريب من هذا اختيارك الصلاة بين اثنين أحدهما أخف بدعة من الآخر فلا يقتضي ذلك رضاك ببدعته! وجهادك خلف الإمام الظالم أو الفاجر أو المبتدع لا يلزم منه رضا بما هو عليه من الباطل أو مشاركة له فيه.
نعم ترجيح صاحب برنامج أقل مفسدة يحتمل اختيارك له لرضاك ببرنامجه وهذا منكر ويحتمل اختيارك له دفعاً لمفسدة أعظم، فإن كنت تصرح بهذا وتعلنه وتنكر على المختار مخالفته انتفى احتمال الرضا وإن لم يظهر ذلك منك وجب الاستفصال منك للاحتمال، لا الاعتساف بالادعاء على النيات وصرف المحتمل لأسوأ محامله، ولهذا كانت جل فتاوى أكابر الراسخين من أهل العلم وفقهاء الشريعة مسوغة للمشاركة في العملية الديمقراطية لتخفيف منكرها أو إزالته، ولم يروا أن من لازم ذلك رضا بها.
وقد علم أنه ليس من شرط اختيار المرشح قانونياً أو عرفياً الرضا أو الموافقة والإقرار له على كل برنامجه، كما أن حب ظهور أقلهما مفسدة لا يدل على الرضا بمخالفته للشريعة، ولهذا فرح المؤمنون بظهور الروم على الفرس كما في تفسير: {آلـم 1 غُلِبَتِ الرُّومُ 2 فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ 3 فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْـمُؤْمِنُونَ 4 بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الروم:1 - 5]، مع أن الروم كفار نصارى مثلثة مشركون! لكن شركهم وكفرهم أخف من شرك المجوس القائلين بالأصلين.
وكذلك شارك يوسف - عليه السلام - في حكومة فرعونية ولم تكن مشاركته رضا منه بما عليه الدولة التي ينتسب لحكومتها، ولا يقال هذا شرع من قبلنا، فالكفر المتعلق بمشاركة الله تعالى في حق التشريع لا تختلف فيه الشرائع، فلو كانت المشاركة من لازمها الإقرار والرضا لكان ذلك كفراً في شريعته وشريعتنا، لأن حق التشريع من أمور العقائد وأصول الإلهية التي لا يدخلها النسخ، ولهذا قال في الأمم التي قبلنا: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْـمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة: 31]، وقال: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21].
نعم قد نختلف في واقع معين حول جدوى المشاركة في تخفيف المنكر أو جدوى المشاركة في التمثيل مع ما يكلِّفه إذا كانت ثمة أمور أولى تشاح تلك المشاركة وتلك مسألة اجتهادية. ونختلف خلافاً أكبر مع من تهيأت له وسائل أخرى لإقامة دين الله أو التخفيف من معارضة شرع الله، ثم أبى إلا الديمقراطية! ونختلف كذلك خلافاً أعظم مع من يزعم أن تخفيف المنكر يُصيِّر المخفف غير منكر فيمنع إنكاره، وخلافاً فوقه مع جاهل لم يعرف دين الله الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم فيزعم أن الديمقراطية الغربية الليبرالية لا تخالف الدين ما دامت تحترم جميع الأديان وتساوي بينها وتعتبر حقوق الأقليات! ولا يجوز بحال أن تسحب أو تلبس تنازلات هذا وأمثاله على المشاركة التي يجوزها كثير من العلماء.
وكل تلك وغيرها بحوث غير دعوى التلازم بين الرضا والدخول في العملية الديمقراطية لتحكيم الشريعة ومنع المنكر أو الاختيار للتخفيف من مخالفة الشريعة، هذا والله أعلم وهو المسؤول أن يرزقنا وإياكم النية الحسنة والبصيرة في الأمور.
:: مجلة البيان العدد 302 شوال 1433هـ، أغسطس 2012م.
[1] أخرجه مسلم في صحيحه (49).
[2] إعلام الموقعين 3/4؛ وانظر مجموع فتاوى ابن تيمية: 28/129-131.
[3] أخرجه البخاري (7288)؛ ومسلم (1337)، وهذا لفظ البخاري.
[4] من حديث أبي هريرة عند مسلم (1015).
[5] الأكثر على التخيير إن استوى الاحتمالان، فإن رجح أحدهما سُلك، أما إن استويا فأكثرهم على غير المنع، إما على القول بالانتقال لسبب الموت الآخر، أو على القول بالتخيير، أو القول بجواز الانتقال، لكن عند مسيس السبب الأول ليكون في حكم المكره، وبعضهم يوجب الانتقال من سبب الموت إذا حل؛ انظر شرح السير الكبير 4/1514، والمغني 9/256، ومفتاح دار السعادة 2/19، والموسوعة الفقهية 2/125.
[6] وأصل الخبر في الصحيح، أخرجه البخاري (7207).