وعلى هذا إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون بينهما، بل إما أن يفعلوهما جميعاً أو يتركوهما جميعاً: لم يجز أن يؤمروا بمعروف ولا أن ينهوا عن منكر، بل ينظر: فإن كان المعروف أكثر أمر به، وإن استلزم ماهو دونه من المنكر. ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه، بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله وزوال فعل الحسنات. وإن كان المنكر أغلب نهي عنه، وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف، ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمراً بمنكر وسعياً في معصية الله ورسوله. وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما ولم ينه عنهما. فتارة يصلح الأمر، وتارة يصلح النهي، وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي، حيث كان المعروف والمنكر متلازمين.. وذلك في الأمور المعينة الواقعة. وأما من جهة النوع فيؤمر بالمعروف مطلقاً وينهى عن المنكر مطلقاً. وفي الفاعل الواحد والطائفة الواحدة يؤمر بمعروفها وينهى عن منكرها، ويحمد محمودها، ويذم مذمومها، بحيث لا يتضمن الأمر بمعروف فوات أكثر منه أو حصول منكر فوقه، ولا يتضمن النهي عن المنكر حصول أنكر منه أو فوات معروف أرجح منه. وإذا اشتبه الأمر استبان المؤمن حتى يتبين له الحق، فلا يقدم على الطاعة إلا بعلم ونية، وإذا تركها كان عاصياً، فترك الأمر الواجب معصية، وفعل ما نهي عنه من الأمر معصية. وهذا باب واسع، ولا حول ولا قوة إلا بالله"[26]؛ وقد استدل ابن تيمية على ذلك بشواهد مختلفة: "ومن هذا الباب إقرار النبي -صلى الله عليه وسلم- لعبدالله بن أُبي وأمثاله من أئمة النفاق والفجور لما لهم من أعوان، فإزالة منكره بنوع من عقابه مستلزم إزالة معروف أكثر من ذلك بغضب قومه وحميتهم، وبنفور الناس في قصة الإفك بما خاطبهم به واعتذر منه، وقال له سعد بن معاذ قوله الذي أحسن فيه، فحمي له سعد بن عبادة مع حسن إيمانه. وأصل هذا أن تكون محبة الإنسان للمعروف وبغضه للمنكر، وإرادته لهذا وكراهته لهذا، موافقة لحب الله وبغضه وإرادته وكراهته الشرعيين. وأن يكون فعله للمحبوب ودفعه للمكروه بحسب قوته وقدرته، فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، وقد قال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم...}[27]. فأما حب القلب وبغضه وإرادته وكراهيته فينبغي أن تكون كاملة جازمة، لا يوجب نقص ذلك إلا نقص الإيمان. وأما فعل البدن فهو بحسب قدرته، ومتى كانت إرادة القلب وكراهته كاملة تامة وفعل العبد معها بحسب قدرته فإنه يعطى ثواب الفاعل الكامل، كما قد بيناه في غير هذا الموضع، فإن من الناس من يكون حبه وبغضه وإرادته وكراهته بحسب محبة نفسه وبغضها، لا بحسب محبة الله ورسوله وبغض الله ورسوله، وهذا من نوع الهوى، فإن اتبعه الإنسان فقد اتبع هواه: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ...}[28]"[29].
ثم يعالج ابن تيمية مذاهب بعض الصالحين ومسالكهم بقوله: "فتدبر هذا، فإن هذا مقام خطر، فإن الناس هنا ثلاثة أقسام: قسم يأمرون وينهون ويقاتلون طلباً لإزالة الفتنة -التي زعموا- ويكون فعلهم ذلك أعظم فتنة، كالمقتتلين في الفتنة الواقعة بين الأمة. وأقوام ينكلون عن الأمر والنهي والقتال الذي يكون به الدِّين كله لله وتكون كلمة الله هي العليا لئلا يفتنوا، وهم سقطوا في الفتنة، وهذه الفتنة المذكورة في سورة براءة، دخل فيها الافتتان بالصور الجميلة، فإنها سبب نزول الآية، وهذه حال كثير من المتدينين، يتركون ما يجب عليهم من أمر ونهي وجهاد يكون به الدين كله لله، وتكون كلمة الله هي العليا، لئلا يفتنوا بجنس الشهوات، وهم قد وقعوا في الفتنة التي هي أعظم مما زعموا أنهم فروا منه، وإنما الواجب عليهم القيام بالواجب وترك المحظور، وهما متلازمان، وإنما تركوا ذلك لكون نفوسهم لا تطاوعهم إلا على فعلهما جميعاً أو تركهما جميعاً: مثل كثير ممن يحب الرئاسة أو المال وشهوات الغي، فإنه إذا فعل ما وجب عليه من أمر ونهي وجهاد وإمارة ونحو ذلك فلابد أن يفعل شيئاً من المحظورات، فالواجب عليه أن ينظر أغلب الأمرين، فإن كان المأمور أعظم أجراً من ترك ذلك المحظور لم يترك ذلك لما يخاف أن يقترن به ما هو دونه في المفسدة؛ وإن كان ترك المحظور أعظم أجراً لم يفوت ذلك برجاء ثواب بفعل واجب يكون دون ذلك، فذلك يكون بما يجتمع له من الأمرين من الحسنات والسيئات، فهذا هذا، وتفصيل ذلك يطول. وكل بشر على وجه الأرض فلابد له من أمر ونهي، ولابد أن يأمر وينهى، حتى لو أنه وحده لكان يأمر نفسه وينهاها، إما بمعروف وإما بمنكر، كما قال تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ..}[30]، فإن الأمر هو طلب الفعل وإرادته، والنهي طلب الترك وإرادته، ولابد لكل حي من إرادة وطلب في نفسه يقتضي بهما فعل غيره إذا أمكن ذلك، فإن الإنسان حي يتحرك بإرادته، وبنو آدم لا يعيشون إلا باجتماع بعضهم مع بعض، وإذا اجتمع اثنان فصاعداً فلابد أن يكون بينهما ائتمار بأمر وتناه عن أمر، ولهذا كان أقل الجماعة في الصلاة اثنين، كما قيل: الاثنان فما فوقهما جماعة، لكن لما كان ذلك اشتراكاً في مجرد الصلاة حصل باثنين أحدهما إمام والآخر مأموم، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لمالك بن الحويرث وصاحبه: (إذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما، وليؤمكما أكبركما)، وكانا متقاربين في القراءة. وأما الأمور العادية ففي السنن أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا يحل لثلاثة يكونون في سفر إلا أمروا عليهم أحدهم)"[31].
ويوضح ابن القيم –رحمه الله- هذا المعنى بمزيد من الجلاء فيقول: "إن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح بحسب الإمكان، وأن لا يفوت منها شيء، فإن أمكن تحصيلها كلها حصلت، وإن تزاحمت ولم يمكن تحصيل بعضها إلا بتفويت البعض، قدم أكملها وأهمها وأشدها طلباً للشارع"[32]؛ ومن أضاع هذا الأصل أضاع الهدى كما قال ابن تيمية -في الحال التي يلتبس فيها الخير بالشر: "قد يتعذر على السالك سلوك الطريق المشروعة المحضة إلا بنوع من المـُحدَث لعدم القائم بالطريق المشروعة علماً وعملاً، فإذا لم يحصل النور الصافي بأن لم يوجد إلا النور الذي ليس بصافٍ وإلا بقي الإنسان في الظلمة فلا ينبغي أن يعيب الرجل وينهى عن نور فيه ظلمة إلا إذا حصل نور لا ظلمة فيه، وإلا فكم ممن عدل عن ذلك يخرج عن النور بالكلية إذا خرج غيره عن ذلك لما رآه في طريق الناس من الظلمة"[33].
وكل شيء في الحياة لا يخلو من مصلحة ومفسدة، فكل مصلحة لا تخلو من مفسدة، وكل مفسدة لا تخلو من مصلحة, فلا توجد مصلحة خالصة ولا مفسدة خالصة في أي فعل من الأفعال, لذلك كانت دار ابتلاء وتكليف. ولذلك كان الحكم للجهة الراجحة؛ وعلى هذا الاعتبار تأسست الأحكام الشرعية لأنها تنظم حياة الناس في الدنيا, والدنيا لا يتمحض فيها الخير كما لا يتمحض فيها الشر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " والشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإلا فجميع المحرمات من الشرك والخمر والميسر والفواحش والظلم, قد تحصل لصاحبه به منافع ومقاصد, لكن لما كانت مفاسدها راجحة على مصالحها نهى الله ورسوله عنها, كما أن كثيراً من الأمور كالعبادات والجهاد وإنفاق الأموال قد تكون مضرة, لكن لما كانت مصلحته راجحة على مفسدته أمر به الشارع، فهذا أصل يجب اعتباره".[34]
ويقول الشيخ السعدي –رحمه الله تعالى: "إن الشارع لا يأمر إلا بما مصلحته خالصة أو راجحة, ولا ينهى إلا عمَّا مفسدته ومضرته خالصة أو راجحة, ولا يشذ من هذا الأصل الكبير شيء من أحكامه"[35]. ولهذا يقول ابن تيمية –رحمه الله: "وتمام الورع أن يعلم الإنسان خير الخيرين وشر الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية فقد يدع واجبات ويفعل محرمات، ويرى ذلك من الورع، كمن يدع الجمعة والجماعات خلف الأئمة الذين فيهم بدعة أو فجور ويرى ذلك من الورع، ويمتنع من قبول شهادة الصادق وأخذ علم العالم لما في صاحبه من بدعة خفيفة، ويرى ترك قبول سماع هذا الحق الذي يجب سماعه من الورع"[36]. ويقول في موطن آخر: "وكذلك إِذا تعارض المأمُور والمحظور فقد تعارض حَبِيبه وبغيضه، فيقدم أعظمهما فِي ذلك فإِن كان محبته لهذا أعظم من بغضه لهذا قُدِّم، وإِن كان بغضه لهذا أعظم من حبه لهذا قُدِّم، كما قال تعالى: {يَسْأَلُونَك عَن الْخمر وَالْميسر قل فيهمَا إِثْم كَبِير وَمَنَافع للنَّاس وإثمهما أكبر من نفعهما}[37]، وعلى هذا استَقَرَّت الشَّرِيعَة بترجيح خير الخيرين ودفع شَرِّ الشرين، وترجيح الرَّاجِح من الْخَيْر وَالشَّر المجتمعين، والله –سبحانه- يحب صفات الكَمَال مثل العلم وَالقُدرَة وَالرَّحمَة"[38].
وقد تعرض ابن تيمية لهذه القاعدة بكلام نفيس طويل ننقله هنا بطوله حرصا على الفائدة.
يقول –رحمه الله تعالى: "فصل: جامع في تعارض الحسنات، أو السيئات، أو هما جميعا إذا اجتمعا ولم يمكن التفريق بينهما، بل الممكن إما فعلهما جميعا وإما تركهما جميعا.
وقد كتبت ما يشبه هذا في (قاعدة الإمارة والخلافة)، وفي أن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنها ترجح خير الخيرين وشر الشرين، وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما، فنقول: قد أمر الله ورسوله بأفعال واجبة ومستحبة، وإن كان الواجب مستحبا وزيادة، ونهى عن أفعال محرمة أو مكروهة، والدين هو طاعته وطاعة رسوله وهو الدين والتقوى، والبر والعمل الصالح، والشرعة والمنهاج وإن كان بين هذه الأسماء فروق. وكذلك حَمِدَ أفعالا هي الحسنات ووعد عليها، وذم أفعالا هي السيئات وأوعد عليها، وقيد الأمور بالقدرة والاستطاعة والوسع والطاقة، فقال تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم}، وقال تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}، وقال تعالى: {ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها}، وكل من الآيتين وإن كانت عامة فسبب الأولى المحاسبة على ما في النفوس وهو من جنس أعمال القلوب وسبب الثانية الإعطاء الواجب.
وقال: {فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك}، وقال: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}، وقال: {يريد الله أن يخفف عنكم}، وقال: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج}، وقال: {ما جعل عليكم في الدين من حرج}، وقال: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم... } الآية، وقال: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة}، وقال: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا}، وقال: {ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله}، وقد ذكر في الصيام والإحرام والطهارة والصلاة والجهاد من هذا أنواعا.
وقال في المنهيات: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه}، وقال: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه}، و{فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم}، و{ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}، و{وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به}، و{ولو شاء الله لأعنتكم}، و{يسألونك عن الشهر الحرام... } الآية.
وقال في المتعارض: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما}، وقال: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون}، وقال: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا}، وقال: {والفتنة أكبر من القتل}، وقال: {فإن خفتم فرجالا أو ركبانا}، و{وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك.. إلى قوله: ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم}، وقال: {ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا.. إلى قوله: وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إليَّ}.
ونقول: إذا ثبت أن الحسنات لها منافع وإن كانت واجبة كان في تركها مضار، والسيئات فيها مضار، وفي المكروه بعض حسنات. فالتعارض إما بين حسنتين لا يمكن الجمع بينهما فتقدم أحسنهما بتفويت المرجوح، وإما بين سيئتين لا يمكن الخلو منهما فيدفع أسوأهما باحتمال أدناهما، وإما بين حسنة وسيئة لا يمكن التفريق بينهما بل فعل الحسنة مستلزم لوقوع السيئة وترك السيئة مستلزم لترك الحسنة فيرجح الأرجح من منفعة الحسنة ومضرة السيئة.
فالأول كالواجب والمستحب، وكفرض العين وفرض الكفاية، مثل تقديم قضاء الدين المطالب به على صدقة التطوع؛ أو كتقديم نفقة الأهل على نفقة الجهاد الذي لم يتعين، وتقديم نفقة الوالدين عليه، كما في الحديث الصحيح: أي العمل أفضل؟ قال: (الصلاة على مواقيتها)، قلت: ثم أي؟ قال: (ثم بر الوالدين)، قلت: ثم أي؟ قال: (ثم الجهاد في سبيل الله). وتقديم الجهاد على الحج كما في الكتاب والسنة متعين على متعين ومستحب على مستحب؛ وتقديم قراءة القرآن على الذكر إذا استويا في عمل القلب واللسان؛ وتقديم الصلاة عليهما إذا شاركتهما في عمل القلب؛ وإلا فقد يترجح الذكر بالفهم والوجل على القراءة التي لا تجاوز الحناجر وهذا باب واسع.
والثاني: كتقديم المرأة المهاجرة لسفر الهجرة بلا محرم على بقائها بدار الحرب، كما فعلت أم كلثوم التي أنزل الله فيها آية الامتحان {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات}، وكتقديم قتل النفس على الكفر، كما قال تعالى: {والفتنة أكبر من القتل}، فتقتل النفوس التي تحصل بها الفتنة على الإيمان، لأن ضرر الكفر أعظم من ضرر قتل النفس، وكتقديم قطع السارق ورجم الزاني وجلد الشارب على مضرة السرقة والزنا والشرب، وكذلك سائر العقوبات المأمور بها فإنما أمر بها، مع أنها في الأصل سيئة وفيها ضرر، لدفع ما هو أعظم ضررا منها وهي جرائمها؛ إذ لا يمكن دفع ذلك الفساد الكبير إلا بهذا الفساد الصغير، وكذلك في باب الجهاد وإن كان قتل من لم يقاتل من النساء والصبيان وغيرهم حراما فمتى احتيج إلى قتال قد يعمهم، مثل: الرمي بالمنجنيق والتبييت بالليل، جاز ذلك، كما جاءت فيها السنة في حصار الطائف ورميهم بالمنجنيق، وفي أهل الدار من المشركين يبيتون وهو دفع لفساد الفتنة أيضا بقتل من لا يجوز قصد قتله، وكذلك مسألة التترس التي ذكرها الفقهاء؛ فإن الجهاد هو دفع فتنة الكفر فيحصل فيها من المضرة ما هو دونها؛ ولهذا اتفق الفقهاء على أنه متى لم يمكن دفع الضرر عن المسلمين إلا بما يفضي إلى قتل أولئك المتترس بهم جاز ذلك؛ وإن لم يخف الضرر لكن لم يمكن الجهاد إلا بما يفضي إلى قتلهم ففيه قولان، ومن يسوِّغ ذلك يقول: قتلهم لأجل مصلحة الجلاد، مثل قتل المسلمين المقاتلين يكونون شهداء، ومثل ذلك إقامة الحد على المباذل، وقتال البغاة، وغير ذلك؛ ومن ذلك إباحة نكاح الأمة خشية العنت وهذا باب واسع أيضا.
وأما الثالث: فمثل أكل الميتة عند المخمصة؛ فإن الأكل حسنة واجبة لا يمكن إلا بهذه السيئة ومصلحتها راجحة، وعكسه الدواء الخبيث فإن مضرته راجحة على مصلحته من منفعة العلاج لقيام غيره مقامه؛ ولأن البرء لا يتيقن به وكذلك شرب الخمر للدواء.
فتبين أن السيئة تحتمل في موضعين دفع ما هو أسوأ منها إذا لم تدفع إلا بها، وتَحصُّل ما هو أنفع من تركها إذا لم يتحصل إلا بها؛ والحسنة تترك في موضعين إذا كانت مفوتة لما هو أحسن منها، أو مستلزمة لسيئة تزيد مضرتها على منفعة الحسنة. هذا فيما يتعلق بالموازنات الدينية.
وأما سقوط الواجب لمضرة في الدنيا، وإباحة المحرم لحاجة في الدنيا، كسقوط الصيام لأجل السفر، وسقوط محظورات الإحرام وأركان الصلاة لأجل المرض، فهذا باب آخر يدخل في سعة الدين، ورفع الحرج الذي قد تختلف فيه الشرائع؛ بخلاف الباب الأول فإن جنسه مما لا يمكن اختلاف الشرائع فيه وإن اختلفت في أعيانه، بل ذلك ثابت في العقل، كما يقال: ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر وإنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين، وينشد:
إن اللبيب إذا بدا من جسمه مرضان مختلفان داوى الأخطرا
وهذا ثابت في سائر الأمور؛ فإن الطبيب مثلا يحتاج إلى تقوية القوة ودفع المرض، والفصاد أداة تزيدهما معا؛ فإنه يترجح عند وفور القوة تركه –أي الفساد- إضعافا للمرض، وعند ضعف القوة فعله –أي الفصاد- لأن منفعة إبقاء القوة والمرض أولى من إذهابهما جميعا، فإن ذهاب القوة مستلزم للهلاك. ولهذا استقر في عقول الناس أنه عند الجدب يكون نزول المطر لهم رحمة، وإن كان يتقوى بما ينبته أقوام على ظلمهم، لكن عدمه أشد ضررا عليهم، ويرجحون وجود السلطان مع ظلمه على عدم السلطان، كما قال بعض العقلاء: ستون سنة من سلطان ظالم خير من ليلة واحدة بلا سلطان"[39].
وهذا الكلام لابن تيمية رحمه الله تعالى في غاية من الروعة والجمع بين الأدلة الشرعية والعقلية والحسية وما تعارف الناس عليه من خبرتهم –كما في البيت الشعري. وهذا الإمام الجليل لم يتوقف عند هذا الحد من المسألة بل تطرق إلى تطبيق هذه القاعدة على واقع جرى في الأمة حتى زمانه وبين كيف يجب التعامل مع هذه القاعدة وتحت أي اعتبار. فيقول في ذات السياق: "ثم السلطان يؤاخذ على ما يفعله من العدوان ويفرط فيه من الحقوق مع التمكن. لكن أقول هنا: إذا كان المتولي للسلطان العام أو بعض فروعه -كالإمارة والولاية والقضاء ونحو ذلك- لا يمكنه أداء واجباته وترك محرماته ولكن يتعمد ذلك ما لا يفعله غيره قصدا وقدرة جازت له الولاية وربما وجبت؛ وذلك لأن الولاية إذا كانت من الواجبات التي يجب تحصيل مصالحها من جهاد العدو وقسم الفيء وإقامة الحدود وأمن السبيل كان فعلها واجبا، فإذا كان ذلك مستلزما لتولية بعض من لا يستحق وأخذ بعض ما لا يحل وإعطاء بعض من لا ينبغي، ولا يمكنه ترك ذلك، صار هذا من باب ما لا يتم الواجب أو المستحب إلا به فيكون واجبا أو مستحبا، إذا كانت مفسدته دون مصلحة ذلك الواجب أو المستحب؛ بل لو كانت الولاية غير واجبة وهي مشتملة على ظلم، ومن تولاها أقام الظلم حتى تولاها شخص قصده بذلك تخفيف الظلم فيها ودفع أكثره باحتمال أيسره كان ذلك حسنا مع هذه النية، وكان فعله لما يفعله من السيئة بنية دفع ما هو أشد منها جيدا.
وهذا باب يختلف باختلاف النيات والمقاصد، فمن طلب منه ظالم قادر وألزمه مالا فتوسط رجل بينهما ليدفع عن المظلوم كثرة الظلم وأخذ منه وأعطى الظالم مع اختياره أن لا يظلم، ودفعه ذلك لو أمكن، كان محسنا ولو توسط إعانة للظالم كان مسيئا. وإنما الغالب في هذه الأشياء فساد النية والعمل، أما النية فبقصده السلطان والمال، وأما العمل فبفعل المحرمات وبترك الواجبات لا لأجل التعارض ولا لقصد الأنفع والأصلح.
ثم الولاية وإن كانت جائزة أو مستحبة أو واجبة فقد يكون في حق الرجل المعين غيرها أوجب أو أحب فيقدم حينئذ خير الخيرين وجوبا تارة واستحبابا أخرى. ومن هذا الباب تولي يوسف الصديق –عليه الصلاة والسلام- على خزائن الأرض لملك مصر بل ومسألته أن يجعله على خزائن الأرض، وكان هو وقومه كفارا كما قال تعالى: {ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به.. الآية}، وقال تعالى عنه: {يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار}، و{ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم.. الآية}، ومعلوم أنه مع كفرهم لا بد أن يكون لهم عادة وسنة في قبض الأموال وصرفها على حاشية الملك وأهل بيته وجنده ورعيته، ولا تكون تلك جارية على سنة الأنبياء وعدلهم، ولم يكن يوسف يمكنه أن يفعل كل ما يريد، وهو ما يراه من دين الله، فإن القوم لم يستجيبوا له، لكن فعل الممكن من العدل والإحسان، ونال بالسلطان من إكرام المؤمنين من أهل بيته ما لم يكن يمكن أن يناله بدون ذلك، وهذا كله داخل في قوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم}"[40].
وفي هذه الحالة يعمل ابن تيمية –رحمه الله- لازم هذا المذهب بقوله: "فإذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقدم أوكدهما، ولم يكن الآخر في هذه الحال واجبا، ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تارك واجب في الحقيقة؛ وكذلك إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرما في الحقيقة، وإن سمي ذلك ترك واجب وسمي هذا فعل محرم باعتبار الإطلاق لم يضر.
ويقال في مثل هذا ترك الواجب لعذر وفعل المحرم للمصلحة الراجحة أو للضرورة أو لدفع ما هو أحرم؛ وهذا كما يقال لمن نام عن صلاة أو نسيها: إنه صلاها في غير الوقت المطلق قضاء. هذا وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها لا كفارة لها إلا ذلك)"[41].
ويبين ابن تيمية العلة في مثل هذا المنهج الإصلاحي، والواجب الذي يتعين على أهل الفقه والاجتهاد سلوكه بقوله: "وباب التعارض باب واسع جدا لا سيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة وخلافة النبوة فإن هذه المسائل تكثر فيها، وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل، ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأمة، فإنه إذا اختلطت الحسنات بالسيئات وقع الاشتباه والتلازم، فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجحون هذا الجانب وإن تضمن سيئات عظيمة، وأقوام قد ينظرون إلى السيئات فيرجحون الجانب الآخر وإن ترك حسنات عظيمة، والمتوسطون الذين ينظرون الأمرين، قد لا يتبين لهم أو لأكثرهم مقدار المنفعة والمضرة، أو يتبين لهم فلا يجدون من يعينهم العمل بالحسنات وترك السيئات، لكون الأهواء قارنت الآراء؛ ولهذا جاء في الحديث: (إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات)، فينبغي للعالم أن يتدبر أنواع هذه المسائل، وقد يكون الواجب في بعضها -كما بينته فيما تقدم: العفو عند الأمر والنهي في بعض الأشياء؛ لا التحليل والإسقاط.
مثل أن يكون في أمره بطاعة فعلا لمعصية أكبر منها فيترك الأمر بها دفعا لوقوع تلك المعصية مثل أن ترفع مذنبا إلى ذي سلطان ظالم فيعتدي عليه في العقوبة ما يكون أعظم ضررا من ذنبه ومثل أن يكون في نهيه عن بعض المنكرات تركا لمعروف هو أعظم منفعة من ترك المنكرات فيسكت عن النهي خوفا أن يستلزم ترك ما أمر الله به ورسوله مما هو عنده أعظم من مجرد ترك ذلك المنكر .
فالعالم تارة يأمر، وتارة ينهى، وتارة يبيح، وتارة يسكت عن الأمر أو النهي أو الإباحة، كالأمر بالصلاح الخالص أو الراجح، أو النهي عن الفساد الخالص أو الراجح، وعند التعارض يرجح الراجح -كما تقدم، بحسب الإمكان؛ فأما إذا كان المأمور والمنهي لا يتقيد بالممكن -إما لجهله وإما لظلمه- ولا يمكن إزالة جهله وظلمه، فربما كان الأصلح الكف والإمساك عن أمره ونهيه، كما قيل: إن من المسائل مسائل جوابها السكوت، كما سكت الشارع في أول الأمر عن الأمر بأشياء والنهي عن أشياء حتى علا الإسلام وظهر؛ فالعالم في البيان والبلاغ كذلك قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكن، كما أخر الله سبحانه إنزال آيات وبيان أحكام إلى وقت تمكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى بيانها، يبين حقيقة الحال في هذا أن الله يقول: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} والحجة على العباد إنما تقوم بشيئين:
بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله، والقدرة على العمل به، فأما العاجز عن العلم كالمجنون، أو العاجز عن العمل فلا أمر عليه ولا نهي، وإذا انقطع العلم ببعض الدين أو حصل العجز عن بعضه كان ذلك في حق العاجز عن العلم أو العمل بقوله، كمن انقطع عن العلم بجميع الدين أو عجز عن جميعه كالمجنون مثلا؛ وهذه أوقات الفترات فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما كان بيانه لما جاء به الرسول شيئا فشيئا بمنزلة بيان الرسول لما بعث به شيئا فشيئا، ومعلوم أن الرسول لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، ولم تأت الشريعة جملة كما يقال: إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع. فكذلك المجدد لدينه والمحيي لسنته لا يبالغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، كما أن الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يلقن جميع شرائعه ويؤمر بها كلها، وكذلك التائب من الذنوب والمتعلم والمسترشد لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم فإنه لا يطيق ذلك، وإذا لم يطقه لم يكن واجبا عليه في هذه الحال، وإذا لم يكن واجبا لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداء بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان، كما عفا الرسول عما عفا عنه إلى وقت بيانه، ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل، وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط. فتدبر هذا الأصل فإنه نافع؛ ومن هنا يتبين سقوط كثير من هذه الأشياء، وإن كانت واجبة أو محرمة في الأصل لعدم إمكان البلاغ الذي تقوم به حجة الله في الوجوب أو التحريم، فإن العجز مسقط للأمر والنهي، وإن كان واجبا في الأصل والله أعلم. ومما يدخل في هذه الأمور الاجتهادية علما وعملا أن ما قاله العالم أو الأمير أو فعله باجتهاد أو تقليد فإذا لم ير العالم الآخر والأمير الآخر مثل رأي الأول فإنه لا يأمر به أو لا يأمر إلا بما يراه مصلحة، ولا ينهى عنه إذ ليس له أن ينهى غيره عن اتباع اجتهاده، ولا أن يوجب عليه اتباعه، فهذه الأمور في حقه من الأعمال المعفوة لا يأمر بها ولا ينهى عنها بل هي بين الإباحة والعفو وهذا باب واسع جدا فتدبره"[42].
وهذا المنهج الرباني لا يتميز به ابن تيمية فحسب بل هو منهج عملي لدى علماء السلف وأئمتهم. يقول العز بن عبدالسلام –رحمه الله تعالى- في كتابه (قواعد الأحكام في مصالح الأنام)، تحت قاعدة (قاعدة في تعذر العدالة في الولايات)[43]: "إذا تعذرت العدالة في الولاية العامة والخاصة بحيث لا يوجد عدل، ولينا أقلهم فسوقا"، وبعد ضربه المثال قال: "فيكون هذا من باب دفع أشد المفسدتين بأخفهما"، وتوقف فيما لو "ابتلي الناس بتولية امرأة أو صبي مميز يرجع إلى رأي العقلاء، فهل ينفذ تصرفهما العام فيما يوافق الحق... ففي ذلك وقفة"[44]، بل تجاوز ذلك إلى الحديث فيما "لو استولى الكفار على إقليم عظيم فولوا القضاء لمن يقوم بمصالح المسلمين العامة، فالذي يظهر إنفاذ ذلك كله جلبا للمصالح العامة ودفعا للمفاسد الشاملة، إذ يبعد عن رحمة الشرع ورعايته لمصالح عباده تعطيل المصالح العامة وتحمل المفاسد الشاملة، لفوات الكمال فيمن يتعاطى توليتها لمن هو أهل لها، وفي ذلك احتمال بعيد"[45]، وتحدث عمَّا إذا لم يمكن إلا تولية حاكم فاسق: "الحكام إذا تفاوتوا في الفسوق قدمنا أقلهم فسوقا، لأنا لو قدمنا غيره لفات من المصالح ما ليس لنا عنه مندوحة، ولا يجوز تفويت مصالح الإسلام إلا عند تعذر القيام بها"، وإنما عني بمصالح الإسلام مصالح أهله، لذلك يقول: "إذا تفاوتت رتب الفسوق في حق الأئمة قدمنا أقلهم فسوقا، مثل إن كان فسق أحد الأئمة بقتل النفوس وفسق الآخر بانتهاك حرمة الأبضاع، وفسق الآخر بالتعرض للأموال، قدمنا المتعرض للأموال على المتعرض للدماء والأبضاع، فإن تعذر تقديمه قدمنا المتعرض للأبضاع على من يتعرض للدماء، وكذلك يترتب التقديم على الكبير من الذنوب والأكبر والصغير منها والأصغر على اختلاف رتبها"؛ ثم يوضح بأنه في حال لم يكن ذلك ممكنا إلا بنصرة أحدهم فُعلَ: "فإن قيل: أيجوز القتال مع أحدهما لإقامة ولايته وإدامة تصرفه مع إعانته على معصيته؟ قلنا: نعم دفعا لما بين مفسدتي الفسوقين من التفاوت، ودرءا للأفسد فالأفسد، وفي هذا وقفة وإشكال من جهة أنا نُعِينُ الظالم على فساد الأموال دفعا لمفسدة الأبضاع وهي معصية، وكذلك نُعين الآخر على إفساد الأبضاع دفعا لمفسدة الدماء وهي معصية. ولكن قد يجوز الإعانة على المعصية لا لكونها معصية بل لكونها وسيلة إلى تحصيل المصلحة الراجحة، وكذلك إذا حصل بالإعانة مصلحة تربو على مصلحة تفويت المفسدة كما تبذل الأموال في فدى الأسرى الأحرار المسلمين من أيدي الكفرة والفجرة"، ويقول: "ومبنى هذه المسائل كلها على الضرورات ومسيس الحاجات، وقد يجوز في حال الاضطرار ما لا يجوز في حال الاختيار"[46]. ويقول رحمه الله في (فصل تساوي المصالحِ مع تعذُّرِ جَمعِهَا): "إذا تساوت المصالح مع تعذر الجمع تخيرنا في التقديم والتأخير للتنازع بين المتساويين"، وضرب لذلك أمثلة أيضا[47].
وفي فصل آخر تحدث –رحمه الله- عمَّا "لا يمكن تحصيل مصلحته إلا بإفساده أو بإفساد بعضه أو بإفساد صفة من صفاته"، وذكر أمثلة لا بغرض الحصر[48]. ويقول في موضع آخر: "وقد تجوز المعاونة على الإثم والعدوان والفسوق والعصيان، لا من جهة كونه معصية، بل من جهة كونه وسيلة إلى مصلحة، وله أمثلة
.."، وذكر شيئا منها ثم قال: "وليس هذا على التحقيق معاونة على الإثم والعدوان والفسوق والعصيان، وإنما هو إعانة على درء المفاسد، فكانت المعاونة على الإثم والعدوان والفسوق والعصيان فيها تبعًا لا مقصودًا"[49].
وهذا كله –أي تقديم الأصلح فالأصلح- كما يقول العز بن عبدالسلام: "مركوز في طبائع العباد... فلو خيرت الصبي الصغير بين اللذيذ والألذ لأختار الألذ, ولو خير بين الحسن والأحسن لأختار الأحسن, لا يقدم الصالح على الأصلح إلا جاهل بفضل الأصلح أو شقي متجاهل لا ينظر إلى ما بين المسرتين من تفاوت"[50].
ويضرب ابن القيم مثالا على هذا المنهج في زمانه، فيقول: "أنك إذا رأيت الفساق قد اجتمعوا على لهو ولعب أو سماع مكاء وتصدية فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو المراد, وإلا كان تركهم على ذلك خيراً من أن تفرغهم لما هو أعظم من ذلك، فكان ما هم فيه شاغلاً لهم عن ذلك, وكما إذا كان الرجل مشتغلاً بكتب المجون ونحوها, وخفت من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدع والضلال والسحرة فدعه وكتبه الأولى, وهذا باب واسع"[51].
ويقول الإمام الشاطبي -رحمه الله تعالى- عن بعض الأمور الواقعة في زمانه أيضا: "إن الأمور الضرورية أو غيرها من الحاجية أو التكميلية إذا اكتنفتها من خارجها أمورٌ لا تُرضى شرعاً، فإن الإقدام على جلب المصالح صحيح على شرط التحفظ بحسب الاستطاعة من غير حرج؛ كالنكاح الذي يلزمه طلب قوت العيال مع ضيق طرق الحلال واتساع أوجه الحرام والشبهات، وكثيراً ما يلجأ إلى الدخول في الاكتساب لهم بما لا يجوز، ولكنه غير مانع لما يؤول إليه التحرز من المفسدة المربية على توقع مفسدة التعرض، ولو اعتُبر مثل هذا في النكاح في مثل زماننا لأدى إلى إبطال أصله، وذلك غير صحيح؛ وكذلك طلب العلم إذا كان في طريقه مناكر يسمعها ويراها؛ وشهود الجنائز، وإقامة وظائف شرعية إذا لم يقدر على إقامتها إلا بمشاهدة ما لا يرتضى، فلا يُخرج هذا العارضُ تلك الأمور عن أصولها؛ لأنها أصول الدين وقواعد المصالح، وهو المفهوم من مقاصد الشارع، فيجب فهمها حق الفهم، فإنها مثار اختلاف وتنازع"[52].
ويقول أيضا: "وذلك أن القواعد المشروعة بالأصل إذا داخلتها المناكر، كالبيع والشراء والمخالطة والمساكنة، إذا كثر الفساد في الأرض واشتهرت المناكر، بحيث صار المكلف عند أخذه في حاجاته وتصرفه في أحواله لا يسلم في الغالب من لقاء المنكر أو ملابسته فالظاهر يقتضي الكفَّ عن كل ما يؤدي إلى هذا، ولكن الحقَّ يقتضي أن لا بد له من اقتضاء حاجاته، كانت مطلوبة بالجزء أو بالكل، وهي إما مطلوب بالأصل وإما خادم للمطلوب بالأصل، لأنه إن فرض الكف عن ذلك أدى إلى التضييق والحرج أو تكليف ما لا يطاق، وذلك مرفوع عن هذه الأمة. فلابد للإنسان من ذلك، لكن مع الكف عما استطاع الكف عنه، وما سواه فمعفو عنه لأنه بحكم التبعية لا بحكم الأصل"، واستشهد بكلام لابن العربي فقال: "وقد قال ابن العربي في مسألة دخول الحمام بعد ما ذكر جوازه: فإن قيل: فالحمام دار يغلب فيها المنكر، فدخولها إلى أن يكون حراما أقرب منه إلى أن يكون مكروها، فكيف يكون جائزا؟ قلنا: الحمام موضع تداوٍ وتطهر، فصار بمنزلة النهر، فإن المنكر قد غلب فيه بكشف العورات وتظاهر المنكرات فإذا احتاج إليه المرء دخله، ودفع المنكر عن بصره وسمعه ما أمكنه، والمنكر اليوم في المساجد والبلدان، فالحمام كالبلد عموما، وكالنهر خصوصا. هذا ما قاله"، ثم علق بقوله: "وهكذا النظر في الأمور المشروعة بالأصل كلها، وهذا إذا أدى الاحتراز من العارض للحرج، وأما إذا لم يؤد إليه وكان في الأمر المفروض مع ورود النهي سعة كسد الذرائع ففي المسألة نظر، ويتجاذبها طرفان.."[53].
ويقول الشيخ محمد بن عبدالوهاب –رحمه الله: "ومن الأعمال ما فيه خير لاشتماله على أنواع من المشروع، وفيه شر من بدعة وغيرها، فيكون ذلك العمل شرا بالنسبة إلى الإعراض عن الدين بالكلية كحال المنافقين والفاسقين، وهذا قد ابتلي به أكثر الأمة في الأزمان المتأخرة؛ فعليك هنا بأدبين: أحدهما: الحرص على التمسك بالسنة في خاصتك ومن أطاعك، واعرف المعروف، وأنكر المنكر. الثاني: الدعوة إلى السنة بحسب الإمكان فإذا رأيت من يعمل هذا ولا يتركه إلا إلى شر منه، فلا تدع إلى ترك منكر بفعل ما هو أنكر منه، أو بترك واجب أو مندوب تركه أضر من فعل ذلك المكروه. فإذا كان الفاعلون للبدع معيبين، فالتاركون للسنن كذلك؛ فإن منها ما يكون واجبا مطلقا، ومنها مقيدا كالنافلة، فإنها لا تجب، ولكن من أراد أن يصليها وجب عليه الإتيان بأركانها، وكما يجب على من أتى الذنوب من الكفارات، وما يجب على من كان إماما أو مفتيا من الحقوق، وعامتها يجب تعليمها، والحض عليها، والدعاء إليها. وكثير من المنكرين للبدع تجدهم مقصرين في فعل السنن، فلا ينهى عن منكر إلا ويؤمر بمعروف يغني عنه، كما يؤمر بعبادة الله عن عبادة ما سواه، والنفوس خلقت لتعمل، وإنما الترك مقصود لغيره. فتفطن لحقيقة الدين، وانظر ما اشتملت عليه الأفعال من المصالح والمفاسد، بحيث تعرف مراتب المعروف والمنكر حتى تقدم أهمها عند الازدحام؛ فإن هذا حقيقة العلم بما جاءت به الرسل، وهذا خاصة العلماء"[54].
يتــــــــــــــــــــــبع