سياسة على منهاج النبوة (تصنيف القوى السياسية )
19/07/33 أنور قاسم الخضري
سياسة على منهاج النبوة (تصنيف القوى السياسية )
سبق وأشرنا في مقالين سابقين، إلى أن هناك انحرافات يشهدها ميدان السياسة، وأن هناك تحديات سياسية يفرضها الواقع، وكلا الأمرين يجعلان من الضروري على القائم بالعملية السياسية أن يصنف القوى المحيطة به في ضوء النظرة والمواقف السياسية. وينبغي أن يشمل هذا التصنيف جميع الأطراف وأن يستند إلى منطق عادل ومتزن. وهذا ما يفرضه الإسلام على حملته وأتباعه: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ{[1].
لذلك فإن أحكام الإسلام جاءت وفق هذه النظرة العادلة، فلم يعامل الإسلام أعداءه بمنهج وأسلوب واحد، بل نوع المناهج والأساليب بحسب طبيعة ونوع وحجم العداء الذي يكنه ويعلنه الطرف الآخر ويسلكه تجاه الإسلام وأهله. يقول تعالى: }لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ{[2].
وفي الشأن السياسي يمكن تصنيف القوى السياسية للقائم بالعملية السياسية الإسلامية على النحو التالي:
1- الأتباع والموالون: وهم أولئك الذين تربطنا بهم علاقة ولاء ورابطة عضوية، سواء كانوا في جماعة دينية أو عرقية أو فكرية أو سياسية.. أو غيرها. وبالتالي فإن الصلة بهم تعتمد على مدى قناعتهم ورضاهم بما يحققه لهم القائم بالعملية السياسية وفقا لما يؤمنون به من مبادئ وقيم وما يتطلعون إليه من حياة كريمة وحقوق. وهم الجمهور الذي يعطي الكيان السياسي أو القائم بالعملية السياسية قوته الاجتماعية وسنده العصبوي.
2- الشركاء: وهم أولئك الذين نعمل معهم لتقاسم مصالح لا يمكننا أن نحصل عليها مستقلين بأنفسنا. سواء كنا نتفق معهم في معتقداتهم ومذاهبهم أو لا نتفق، وسواء كانوا ينتمون لقومياتنا وعرقياتنا أو لا. فإن مجرد وجود المصلحة التي تجمعنا بهم، والتي لا نستطيع وفق إمكانياتنا –كما لا يستطيعون هم كطرف آخر وفق إمكانياتهم- الحصول عليها، يفرض علينا مشاركتهم العمل للوصول إليها. والمصلحة هنا بطبيعة الحال لا تتصل بطرف آخر يمكن أن يلحق به ضرر جراء حيازتها وإلا فإن الأمر هنا يتحول إلى حلف وليس شراكة.
3- المنافسون: وهم أطراف نسعى وإياهم لحيازة المصالح ذاتها فإما أن تكون لنا أو أن تكون لهم، وهذا يفترض أننا قادرون على حيازتها أو حيازة معظمها ولسنا محتاجين إلى طرف آخر ليشاركنا القسمة، وهكذا الأمر للطرف الآخر. وربما يكون الإسلاميون فيما بينهم متنافسين إذا لم يستطيعوا أن يكونوا شركاء، وربما كانوا في ميدان ما شركاء وميدان آخر متنافسين. كما أنه منطق يمكن أن يقوم مع دول غير إسلامية لكنها لا تكن للمسلمين عداء سياسيا أو عسكريا في حال وجدت مصالح معها يمكن التنافس عليها. والتنافس ربما ينتهي بنيل أحد الطرفين للمصلحة، وربما يظل قائما إذا ما كان في الإمكان إعادة جولات التنافس!
4- الحلفاء: وهم أطراف نعمل معهم ضد مصالح خصم مشترك أو خصوم مشتركين. وهذا ما يعبر عنه في منطق السياسة اليوم بأن: عدو عدوي صديقي! وصديق عدوي عدوي! فالسياسة تقتضي توظيف التناقضات الموجودة للقضاء على الشر الأكبر والمفسدة الأعظم والظلم الأطم. فإن من طبيعة الخلق أن أهل الخير هم الأقل، وأن أهل الصلاح هم الأندر، وأن أهل العدل هم الاستثناء، فلو عمل هؤلاء بمفردهم للقضاء على الشر والفساد والظلم لعجزوا، فلم يبق لهم إلا أن يستعينوا بالأقرب إليهم على الذي هو أبعد منهم. فهذا منطق العقل والشرع معا. والرابطة مع الحلفاء قد تنتهي بانتهاء الخصم الذي يفرض على خصومه التحالف لمواجهته فإذا ما غاب عن الساحة غاب مبرر بقاء التحالف.
5- الخصوم: هم أطراف يسعون للإضرار بمصالحنا.. هذا هو التعريف السياسي للخصوم. ومن ثمَّ فربما يكون خصمنا شخص نتفق معه دينيا أو مذهبيا أو فكريا أو عرقيا وقوميا نظرا لتضارب المصالح بيننا وبينه. لذلك فإن من الطبيعي أن يتم القضاء على الخصومة السياسية في ضوء إعادة تقسيم المصالح أو تحكيم طرف آخر في حال النزاع عليها لحسم مادة الخصومة. لكنها في حال العداوة الدينية والصراعات العرقية تأخذ بعدا أعمق من مجرد المصالح وتستدعي لغة الأحقاد والضغائن لبقاء الخصومة وتعزيز الصراع.
6- المحايدون: وهم أطراف لا تربطنا بهم أي علاقة أو صلة مما سبق. فهم نظرا لغياب أي رابط بهم أو علاقة جوهرية معهم يلتزمون موقفا غير مبالٍ بصراع أو شراكة أو تحالف أو تنافس. لكن هذا الصنف من الناس لا يدوم حاله على هذه المنطقة البيضاء وقد ينحاز إلى أحد الأطراف في ظل عوامل الجذب التي تمارس عليه. كما أن من الطبيعي أن يكون طرف ما محايدا في قضية ما لكن تصنيفه في قضايا أخرى يصير خصما أو منافسا أو حليفا.
هذه ستة أنواع من القوى السياسية التي تفرض في ضوء تصنيفها روابط وعلاقات مختلفة عن بعضها البعض. مع التأكيد أنه بالإمكان تصنيف طرف واحد في المجال السياسي في جميع الدوائر على اختلاف القضايا التي نصنفه في ضوئها، فليس كل شريك في مصلحة يكون شريكا بالضرورة في كل المصالح والقضايا. وعلى هذا الأساس تقوم علاقات الدول والأحزاب ببعضها اليوم، نظرا لتعقيد طبيعة الحياة وتعدد أشكال الروابط البينية وقضايا النزاعات والمصالح.
ومنطق السياسة الشرعية والعقل الحكيم يقضي على الإسلاميين أن يتعاملوا مع القوى السياسية الأخرى في الوضع الطبيعي السلمي بمنطق الشراكة والتحالف لا بمنطق التنافس والخصومة، مع ضرورة توسيع دائرة الأتباع والموالين، ودفع المحايدين إلى هذه الدوائر الثلاثة: الأتباع والموالون، الشركاء، الحلفاء. وهذا يتطلب منهم تصنيف منطقة العمل والقيم والمصالح المشتركة وميدان المواجهة وساحة التحديات.. وتصنيف مدى اتفاقنا مع الآخرين هنا أو هناك أو تقاربنا على أقل تقدير. وهذا لا يمنع أنه ربما فرض الطرف الآخر علينا تصنيفه بما يمارسه معنا من مواقف دون أن يكون لدينا رغبة في أن نأخذ منه هذا الموقف المضاد مثلا، أو العكس.
وهنا يمكن الاستشهاد بما حكاه القرآن الكريم من قصة امرأة سادت قومها بعقلها الراشد، وحكمتهم بمنطقها الحكيم، وهي تتعامل مع سليمان –عليه الصلاة والسلام. إنها ملكة سبأ التي كانت وقومها على الشرك، ولا تحكمها صلة بمملكة سليمان، إلا أن الرسالة التي بلغتها من سليمان –عليه الصلاة والسلام- فرضت عليها التعامل مع هذا الطرف السياسي. فظهرت وجهتي نظر:
وجهة أخذت رسالة سليمان باتجاه الخصومة، نظرا لما تضمنه خطاب سليمان من استعلاء، واعتمدت على القوة كمنطق لحل الإشكال. وهي وجهة نظر الملأ من قومها.
ووجهة أخذت رسالة سليمان باتجاه اختبار الموقف، نظرا لخبرتها بمنهج تعامل ملوك الأرض مع خصومهم، فاعتمدت على الهدية كمؤشر على طبيعة العلاقة التي يمكن أن تقام مع هذا الطرف.. فلما تبين لها إصرار الطرف الآخر على الصراع المسلح إذا لم يستجب لطلبه مع ما يملكه من قدرات وإمكانات اتخذت وقومها موقف التسليم والإتباع: }قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ؛ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؛ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ؛ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ؛ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ؛ قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ؛ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ؛ فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ؛ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ{[3].
القرآن والسنة.. ومنطق التعامل السياسي:
إن المبادئ والقيم التي فرضها القرآن الكريم وجاءت بها السنة النبوية مبادئ وقيم نبيلة وعادلة ومنصفة وتؤسس للعلاقة مع الآخرين في ضوئها، حتى وإن وجد اختلاف في العقائد والمذاهب الدينية. فالتعاون على البر والتقوى وعدم التعاون على الإثم والعدوان، والعدل مع الناس، والإحسان إلى الخلق، ومقاومة الفساد والظلم والإجرام.. مبادئ وقيم عزز القرآن الكريم والسنة النبوية منها. ولم يفرضا على أتباعهما صورة واحدة، أو منطقا واحدا، للتعامل في كل الأحوال والظروف مع جميع الناس.
يقول تعالى وهو يؤسس للعلاقة بين المسلمين وغيرهم: }وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ{[4]. لذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديبية: (والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)[5]. وقال في شأن حلف الفضول: (شهدت بدار عبدالله بن جدعان حلفاً ما أُحب أن لي به حُمر النعم ولو دُعيت لمثله –وفي رواية أخرى: به- في الإسلام لأجبت)[6].
ويقول تعالى: }لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ؛ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ{[7]. وهكذا جاءت سيرة الرسول –صلى الله عليه وسلم- في المدينة بما عقده من وثيقة تنتظم علاقة المسلمين مع غيرهم على أساس من هذه المبادئ والقيم. فقد جعل الرسول الكريم من الواقع الذي ربط المسلمين مع غيرهم في وطن واحد ومصالح مشتركة زراعية وصناعية وتجارية أساسا للتعايش مع اختلاف العقيدة والتباين فيها.[8]
فإذا ما غير الطرف الآخر موقفه وتعامله مع جماعة المسلمين أذن لها من المواقف ما لم يكن مأذونا لها سابقا. يقول تعالى: }إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ؛ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ؛ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ{[9]. وهذا في شرعة محمد –عليه الصلاة والسلام- وشرعة من قبله، يقول تعالى: }أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ{[10]. فالمسألة تعتمد على الندية إذا ما توفرت القدرة على ذلك وكانت المصلحة فيه: }فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُم{، }وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا{، }فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُم{، }وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا{!
لذلك تغير تعامل الرسول الكريم –صلى الله عليه وسلم- مع اليهود في المدينة نظرا لتغير مواقفهم تجاهه وتجاه أمته، وتهديدهم لأمن المسلمين ومصالحهم.
وقد ضرب لنا القرآن الكريم صورة من الشراكة التي قامت بين ذي القرنين وقوم لم يستجيبوا لدعوته ولم يدخلوا في حكمه لتحقيق مصلحة مشتركة لم يكن لأي من الطرفين تحقيقها دون الآخر: }حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا؛ قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا؛ قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا؛ آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا؛ فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا؛ قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا{[11].
وفي السيرة رغب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أن تلزم قريش الحيادية في حركته التوسعية في جزيرة العرب، سعيا في حفظها من الفناء. قال عليه الصلاة والسلام –كما جاء في سيرة ابن هشام- عندما سمع عن استعدادات قريش لقتاله: (يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب.. فإن هم أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين؟! وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة؟! فما تظن قريش؟! فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة).
وأراد أن يصالح يهود غطفان على ثلث ثمار المدينة لعام كامل على أن لا يدخلوا طرفا في صراعه مع قريش. وهذا يدل على جواز شراء مواقف الأطراف السياسية لصالح كسب المعركة الحقة والعادلة.
وهكذا نجد أن القائم بالعملية السياسية من الإسلاميين يجب أن يكون ملما بالمساحة التي أتاحتها الشريعة الإسلامية بنصوصها وفي الجانب التطبيقي لسيرة الرسول –عليه الصلاة والسلام- لكي يتعامل مع كافة القوى السياسية على اختلاف اتجاهاتها وتصنيفها في مقابل الإسلام وأهله. وإن افتقاده لهذا الإلمام وهذه السعة والمرونة سوف ينعكس على أدائه السياسي سلبا بل قد يعود على الدعوة الإسلامية ومصالح المسلمين بالعطب.
يتــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــبع