أبشع جريمة تواطؤ شهدها العصر لإهدار دماء شهداء الثورة... بقلم فضيلة الشيخ عبدالمجيد الشاذلي
02.11.12 |
" وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء* وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ * وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ * فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ * يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ " .
الواضح الجلي لا يعترض عليه بالواهي والغامض الخفي من الأدلة أو الشبهات
أثار الحكم على المتهمين في قضية موقعة الجمل بل وجميع قضايا المتهمين في قتل الثوار غضب عمومم المصريين، فقال القضاء أن هذه هي الأدلة التي بأيدينا فالمشكلة ليست في القضاء بل في تحقيقات النيابة وجمعها للأدلة والأصابع تشير الى النائب العام .. ورغم أن النائب العام متهم بالتفريط والتعاون مع المجرمين في القضايا وأنه من بقايا مبارك وأذناب النظام المجرم وأنه يمثل غطاء حماية لبقايا الفساد .. وهو محل تجمع سقط المجتمع من الشيوعيين وعملاء الفساد..
ولكن هذا لا يغني عن حقيقة انحراف القضاء عن الحقائق الموضوعية والشرعية بل والعقلية.
إن ما اشتهرت فيه حالات التلبس من قضايا الإبادة الجماعية بشهود جماهير من البشر لا يُحتاج فيه إلى خصوصية دليل بعينه، ولننظر في الأدلة التالية:
أولا: روى البخاري عن أنس رضي الله عنه: أن يهوديا رض جارية بين حجرين فقيل لها من فعل بك أفلان أو فلان حتى سمي اليهودي فأومأت برأسها فجيء به فلم يزل حتى اعترف فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فرض رأسه بالحجارة[1].
يقول ابن القيم معلقا على هذه القصة: « وأمر بإمساك اليهودي الذي أومأت الجارية برأسها أنه رضخها رضخة بين حجرين، فأخذ وأقر فرضخ رأسه، وهذا يدل على أخذ المتهم إذا قامت قرينة التهمة، والظاهر أنه لم تقم عليه بينة، ولا أقر اختيارًا منه بالقتل، وإنما هدد، أو ضرب فأقر»[2].
وقد رد مالك رحمه الله على من قال أنه قرره وقال أن هذا لم يُرو, وأن ما رواه قتادة في هذا أنه قرره أن هذه رواية شاذة ، وقتادة حاطب ليل، وهذا قول كثير من علماء الرجال، وأن هذه الزيادة شاذة لمخالفته لمن هو أوثق منه، فقد رواه الثقات بدون هذه الزيادة، وأنه صلى الله عليه وسلم قتل اليهودي بإقرار الجارية. والذي نقطع به أن رسول الله قتل اليهودي بعد أن تأكد من إشارة الجارية أنه القاتل دون سؤاله أو طلب بينات أو شهود أو قسامة أو إقرار أو أي شيء آخر لوضوح القرائن.
ثانيا: « روى مسلم عن أنس بن مالك أن ناسا من عرينة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فاجتووها فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:( إن شئتم أن تخرجوا إلى إبل الصدقة فتشربوا من ألبانها وأبوالها ) ففعلوا فصحوا ثم مالوا على الرعاة فقتلوهم وارتدوا عن الإسلام وساقوا ذود رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فبعث في أثرهم فأتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في الحرة حتى ماتوا».
جاء في شرح الحديث: « هذا الحديث أصل في عقوبة المحاربين وهو موافق لقوله تعالى " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض" قال القاضي عياض رضي الله عنه واختلف العلماء في معنى حديث العرنيين هذا فقال بعض السلف كان هذا قبل نزول الحدود وآية المحاربة والنهي عن المثلة فهو منسوخ وقيل ليس منسوخا وفيهم نزلت آية المحاربة.
يقول ابن القيم معلقا على القصتين: « والظاهر أنه لم تقم عليه بينة ولا أقر اختيارا منه بالقتل وإنما هدد أو ضرب فأقر وكذلك العرنيون فعل بهم ما فعل بناء على شاهد المال ولم يطلب بينة بما فعلوا ولا وقف الأمر على إقرارهم»[3].
فلم يطلب الرسول صلى الله عليه وسلم قسامة ولا شهودا ولا بينة لأن الجريمة مشاعة يعلمها الخاصة والعامة.
(وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار الى دليل)
فوضوح حالة التلبس واشتهارها ومعرفة الكافة لها لا يحتاج الى دليل ولا الى شهود نفي أو إثبات.
ثالثا: عمر بن الخطاب قتل نفرا برجل واحد قتلوه غيلة
روى مالك عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، أن عمر بن الخطاب قتل نفرا ، خمسة أو سبعة برجل واحد قتلوه قتل غيلة ، وقال عمر : لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا.
قال : أخبرنا معمر ، قال : أخبرنا زياد بن جبل عمن شهد ذلك ، قال : كانت امرأة من صنعاء لها ربيب ، فغاب عنها زوجها ، وكان ربيبها عندها وكان لها خليل ، فقالت : إن هذا الغلام فاضحنا ، فانظروا كيف تصنعون به ، فتمالؤوا عليه وهم سبعة مع المرأة ، قالت : قلت : كيف تمالؤوا عليه ؟ قال : لا أدري غير أن أحدهم أعطاه شفرة ، قال : فقتلوه ، وألقوه في بئر بغمدان .
قال ففقد الغلام ، فخرجت امرأة أبيه تطوف على حمار - وهي التي قتلته مع القوم وهي تقول: اللهم لا تخف دم أصيل .
قال : وخطب يعلى الناس فقال : انظروا هل تحسون بهذا الغلام أو يذكر لكم .
قال : فمر رجل ببئر غمدان بعد أيام ، فإذا هو بذباب أخضر يطلع مرة من البئر ، ويهبط أخرى ، فأشرف على البئر ، فوجد ريحا أنكرها فأتى يعلى ، فقال : ما أظن إلا قد قدرت لكم على صاحبكم ، وأخبره الخبر ، قال : فخرج يعلى حتى وقف على البئر والناس معه ، قال : فقال الرجل الذي قتله صديق المرأة : دلوني بحبل ، فدلوه فأخذ الغلام فغيبه في سرب من البئر ، ثم قال : ارفعوني ، فرفعوه ، وقال : لم أقدر على شيء ، فقال القوم : الريح الآن أشد منها حين جئنا ، فقال رجل آخر : دلوني ، فلما أرادوا أن يدلوه ، أخذت الآخر رعدة ، فاستوثقوا منه ، ودلوا صاحبهم ، فلما هبط فيها ، استخرجه فرفعوه إليهم ، ثم خرج ، فاعترف الرجل خليل المرأة ، واعترفت المرأة ، واعترفوا كلهم ، فكتب فيهم يعلى إلى عمر ، فكتب إليه : أن اقتلهم ، فلو تمالأ عليهم أهل صنعاء لقتلتهم ، قال : فقتل السبعة . " من كتاب الاستذكار" .
واستدلوا بأنها أمرأة سيئة السمعة, ولأنها استضافت سبع رجال عندها لفعل الفاحشة , ومحاولة إبعاد الشبهة عنها بعد اختفاء ربيبها, والذباب الأخضر فوق البئر, ومحاولة القاتل إخفاء الجثة , وإظهار الجثة عن طريق غيره أمام حشد من الناس, ولذلك لم يطلب شهود لوجود حشد من الناس, فاستوثقوا به أي قيدوه, فسواء اعترفوا أو أنكروا فكل هذه القرائن تكفي فلا يوجد غرض لأحد لقتل هذا الغلام غير هذه المرأة المريبة.
رابعا: وجاء عن عمل أهل المدينة والاحتجاج به كعمل متصل مستمر ينقله الأبناء عن الآباء والأخلاف عن الأسلاف أن هذا هو الصاع الذي كانوا يؤدون به الزكاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن الأذان كان على هذه الصورة في زمانه عليه السلام كما قاله مالك لأبي يوسف لما ناظره في الأذان والصاع والأوقاف ، فسأل أبناء الصحابة فأخبروه بذلك ، فقال : هذا أذان القوم ، وهذا صاعهم ، وهذه أوقاف الصحابة –رضوان الله عليهم –فرجع أبو يوسف عن مذهب أبي حنيفة إلى ذلك . لأنه يحكى أنه خرج له سبعون من أحفاد الصحابة مع كل منهم الصاع الذي كان يستعمله أجدادهم أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وبإقراره فكان اشتهار الصاع النبوي كافيا عند أبي يوسف رحمه الله ليرجع الى قول مالك ويعمل بما توارثه أهل المدينة؛ فما ينقله الكافة لا يُطلب فيه بينة خاصة، فالعمل المستمر كالخبر المتواتر.
خامسا: ومن هنا كان القول بأن القاتل لا يرث على رغم ضعف الدليل من حيث الرواية لكن عمل الكافة عن الكافة كان دليلا كافيا، ومن هنا جاءت قوة الإجماع لقبولهم الخبر.
سادسا: في قصة يوسف عليه السلام )إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين، وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين(فاكتفي في شأنه بالقرينة .. ولذا فالقرينة التامة تغني عن الدليل الخاص.
سابعا: الأحداث العامة في العصر الحديث:
أ. ففي حادث القاء القنبلة الذرية على هيروشيما وناجازاكي لم يُطلب شاهد خاص.
ب. وعندما ضرب صدام الأكراد بالكيماوي لم يطلب شاهد بعينه بل اكتفي بالقبور الجماعية.
ت. في ضرب بشار المجرم لشعب سوريا لا يطلب دليل خاص.
ث. في محاكمات هتلر اكتفي بالمقابر الجماعية والقرى التي أبادها وموت مئات الألاف ولا يطلب في هذا دليل بخصوصه.
ج. في مذابح الصرب في البوسنة وكرواتيا حوكموا بالمقابر الجماعية وكذلك في كوسوفا.
فلا يختلف قتل مبارك وأعوانه الثوار سواء كان الأعوان من الجيش أو الشرطة أو من رجال العمليات الخاصة أو رجال الحزب الوطني أو بلطجية مأجورين عن طريق أشخاص معروفين فالأمر أوضح من أن يستدل عليه فهي جريمة تواطؤ أبشع من جريمة القتل.
فعندما تأتي حادثة قتل وائل الكومي لتسعة عشر مواطن والأهالي تعرف أن هذا قاتل أبنائهم وأمام أعينهم فمثل هذا الادعاء لا يُطلب عليه شهود ولا قسامة، ويؤكد هذا أنه لا خصومة بين الناس وبين القاتل إلا قضية أبنائهم ولا مصلحة لهم في اتهام برئ، وتواطؤ الجميع على اتهامه دون اتفاق منهم كل هذا كافي في إدانته وثبوت التهمة عليه ولا يُطلب دليل بخصوصه.
وهكذا بقية قضايا قتل الثوار وقضية الجمل والقضية الكبرى التي لم ترفع الى الآن وهي الفساد السياسي وإفساد الحياة السياسية في مصر وتسمم الحياة على المجتمع بفساد يعرفه العالم كله وكتبت فيه كتب ونشرات وضج منه أكثر من 80 مليون مصري وشاع على لسان الصغير قبل الكبير بل وتندر الشعب به واستشرى في جميع الأجهزة .. فكيف يُبحث في أمر كهذا عن واقعة بعينها أو عقد بعينه أو مكالمة تليفونية أو أمر محدد؟ وهل هذا إلا إضعاف لهذه القضايا وتفريغ لها من محتواها وزيادة آلام وأوجاع هذا الشعب ومحاولة إحباطه بأنه بعد ثورته أيضا لن ينصفه أحد، ويذهب القضاء ليلتوي ويقف في صف المجرمين .. يتجاهل صرخات الناس ودماءهم وأموالهم ومعاناة أجيال من جراء هذا الفساد العظيم فيقول أريد دليلا خاصا .. هل هذا إلا عين الاستهزاء بالأمة وبالقضاء ذاته وجهل أو تجاهل بمعنى الاستدلال وطرقه ومآخذه. هل من عاقل أم أن هذه عملة نادرة بين الذئاب؟
يا أمة غدت الذئاب تسوسوها... غرقت سفينتها فأين رئيسها
غشيت مأذنها فلم تغضب لها... غضب الكرام وباعها ناقوسها.
وحسبنا الله ونعم الوكيل.......
.............................................................
[1] صحيح البخاري [ جزء 3 - صفحة 1008] 2595 -
[2] الطرق الحكمية [ جزء 1 - صفحة 21 ]
[3] الطرق الحكمية [ جزء 1 - صفحة 21 ]