حكمت المحكمة وقبل الفصل في الموضوع بإحالة الدعوي الي مكتب خبراء وزارة العدل .... إلخ " هذه ديباجة تعني في الواقع العملي لنسبة تزيد على 99,9 % من االقضايا أن الذي سيفصل في الدعوي هو الخبير المنتدب من وزارة العدل ، قد يظن البعض أن مهمة الخبير فنية بحتة تقتصر على المعاينة لإثبات حالة الأماكن ، وقد يشط الخيال بالبعض فيظن أن مكاتب خبراء وزارة العدل بها معامل لتحليل التربة مثلا أو أجهزة دقيقة ومعدات ومجسات للتعامل مع القضايا التي تستلزم خبرة هندسية ، وما عليك سوي أن تزور مكتب خبراء وزارة العدل في أي محافظة لتكتشف الكارثة التي هى عليها حالة العدالة مع القضاة الحقيقيين في القضايا التي تحتاج إلي خبرة هندسية أو زراعية أو حسابية ، مهمة الخبير في القانون فنية ولكن عندما تراجع الحكم التمهيدي الذي يصدره القاضي محيلا الدعوي الي الخبراء تري أن الخبير يفصل في مسائل قانونية تتعلق بالملكية مثلا ولا يقتصر عمله على مجرد تثمين العقار أو تقدير ريعه كما قد يظن البعض ، وهو ما لا يلقي ممانعة من القضاة لأن في ذلك راحة لهم من عناء التحقيق القانوني وتصدر معظم الأحكام التي ينتدب فيها خبير بصيغة " وحيث أن خبير الدعوي قد انتهي إلي " كذا " ..... حكمت المحكمة بهذا " الكذا " ، وهو ما استلزم من الخبراء الإرتفاع بمهاراتهم الفنية وذلك باضافة مهارات قانونية ما كان أغناهم عنها لو أن المحاكم طبقت القانون بحذافيره فأجرت هى ما يجب عليها عمله من الفصل في المسائل القانونية .
والأمر على حالته هذه يحتاج المراجعة من جذوره وقد يتعجب القارئ إن علم أن عمل الخبرة الفنية في القضاء المصري لازال ينظم بأمر ملكي صدر في وقت كانت الأرض تروي " بالطنبور " وكانت أغلب المباني في القري مبنية " بمعجنة طين " ثم " قمينة " وكانت الضرائب تجبي وتقدر بطرق تشبه طريقة ارمنيوس افندي في فيلم سلامة في خير " روح يا نوفمبر تعالي يا نوفمبر " وهكذا تطابق الخبرة في ذلك الوقت قانونها الذي لم يزل مطبقا .
تصادم ممدوح مرعي وزير العدل في عهد المخلوع تصادما غير مبرر مع خبراء وزارة العدل فأصدر قرارا بمنع تسليمهم القضايا وأن عليهم الإطلاع عليها لدي سكرتارية الجلسات في المحاكم وهو ما كان يعني بالضرورة أن يقوم الخبير بتضييع وقته كل يوم في التنقل بين المحاكم يزاحم العامة في الإطلاع منتظرا أن يتعطف عليه سكرتير الجلسة باطلاعه في حدود وقته الذي غالبا ما يكون ضيقا .. وهو ما كان يعني بالضرورة عدم قدرة الخبراء على انجاز كم من القضايا يكفي حتي يتقاضوا رواتبهم .. فهم يتقاضون الراتب العادي للموظفين على الدرجة المالية وترتبط حوافزهم بعدد القضايا التي ينجزونها وهو ما كان يعني في ذلك الوقت دفع خبراء وزارة العدل نحو الإنحراف أو الإستقالة وهو أمر كان مفهوما ومبررا في عهد الفساد والإجرام والجهل والتسلط .
إن مطالب خبراء وزارة العدل التي تتصل بطريقة التعامل المالي معهم مبررة جدا ، فهم لا يعملون في مصنع ملابس ليحاسبوا بالقطعة وإنما يعملون في مرفق العدالة وعنصر الزمن لا يجب أبدا أن يؤثر على عنصر العدالة بما يجعل الخبير في عجلة من أمرة ابتغاء انجاز ذلك العدد من القضايا التي بدونها لن يزيد دخله على الحد الأدني للدرجة المالية ، كما أن مطالبهم بالإستقلال أيضا مبررة بعد أن أصبحوا مطالبين بالتعامل في مسائل قانونية هى في الأصل من صميم عمل القضاة ، وإن تهيئة مكان مناسب لهم ليؤدوا أعمالهم فيه هو من نافلة القول ، وتبقي الحصانة ولو كانت مشروطة مرتبطة بالإستقلال و تعاملهم في غير الامور الفنية من معالجة مسائل قانونية في علاقات الخصوم ..
إن منظومة الفساد القضائي التي نسجها حسني مبارك والذين كانوا معه حاولت الدخول الي مغارة " على بابا " من باب خبراء وزارة العدل ، فالذين نهبوا اراضي الدولة لابد وأنهم أدركوا ضرورة المرور من بوابة وزارة العدل ومن مكتب الخبراء فيها في حال المنازعة على تلك الأراضي ، ولعله يكفي القول بأن " بطرس غالي " كان وزيرا للضرائب حتي تعلم كيف يمكن الضغط على الخبراء الحسابيين في المنازعات الضريبية لأحمد عز مثلا أو غيره ، إن استقلال الخبراء مرتبط بكونهم يؤدون وظيفة تتعلق بالرأي القانوني الحاسم بل لعلي لا أبالغ ان قلت ان استقلالهم أولي من استقلال القضاة الذين يحكمون في منازعاتهم لأن الآخرين من الناحية العملية ينطقون حكما مضمونه ما قال به الخبير دون تعقيب إلا في قليل من الحالات .
إن أدوات خبراء وزارة العدل في عملهم لا تعدو في تقدمها التكنولوجي ذلك الطنبور المستخدم في الري ابان اصدار قانون تنظيم الخبرة القانونية ، فالخبير لا يملك خرائط وإنما عليه أن يذهب للمساحة للإطلاع في خرائطها ، ولا يملك سجلا للملكية وإنما عليه الإنتقال الي الشهر العقاري لمراجعة دفاتره ولا يملك احصاءات عن قيمة المحصولات السنوية وإنما عليه ان يسأل الجيران عما تغله الأراضي ، ولا يملك حتي سيارة حكومية تجوب به تلك الأماكن المتباعده وإنما عليه أن يتسول تلك " المواصلة " من أطراف الدعوى إن شاءوا حملوه وإن شاءوا تركوه " يسطح" في القطارات وهو في هذا كله يحمل في حقيبته أوراق القضية ويحمل في نفسه قيمة العدل أو يفترض فيه ذلك .
إنني أهيب بالمستشار الفاضل أحمد مكي وزير العدل أن يشكل لجنة فنية لمراجعة مسألة الخبرة الفنية في وزارة العدل بالكامل وهو أقدر الناس على تفهم تلك المشكلة وأبعادها ومخاطرها ، فإن إصلاح المرفق المقدس لابد وأن يستتبع مراجعة فنيات العمل فيه .
إن القضاة الفنيين من خبراء وزارة العدل أولي بالحصانة والإستقلال والإمتيازات المالية ممن يحاول مواجهة الثورة وافشالها وتقويض مؤسساتها .