منذ اللحظة التى أدرك فيها مبارك المخلوع أنها ساعاته أو سويعاته الأخيرة و أن كل المحاولات التى كان يظن أنها ستخرجه من المأزق قد ذهبت أدراج الرياح , و أن بطانته و حاشيته ( الشرطة و المخابرات و الجيش و الاعلام ) التى أعدها اعدادا لمثل هذا اليوم قد خيبت ظنه و لم ترجع حتى بخفى حنين من معركة ميدان التحرير و تحطمت كل خططه على صخرة صمود ثوار التحرير. هؤلاء الفتية اللذين أمنوا بربهم , فزادهم ربهم هدى و اتاهم تقواهم. هذا النموذج الفريد من الاحرار و أصحاب الهمم العالية الذين لم يعتد و لم يتوقع أن يراهم يعيشون على أرض مملكته الامنيه العتية الابية المدعومة بمليون و نصف من رجال داخليته و مليونين من رجال جيشه و عشرات الالاف من جند مخابراته و بضعه الاف من رجال اعلامه اللذين تمرسوا على عمل فرمته لعقلية الشعب المصرى و تحميله بسوفت وير جديد مناسب للمرحلة التاريخية التى يعيشها ملكهم و ولى نعمتهم متى دعت الضرورة لذلك . و هم من قبل و من بعد مدعومين بخبرة حلفائه فى الباب العالى فى ال السى اى ايه و
الموساد الاسرائيلى و اللذين دائما و ابدا ما كانوا يتيهون فخرا و صلفا بقدرتهم المتناهية على التنبؤ المبكر بحدوث الزلازل السياسية او اى محاولة همجية من المواطنين الرعاع من الخروج على النظام ( عذرا فى التعبير فقد كان هذا هو مفهوم الثورات و الثوار عندهم) و ليس فقط مجرد التنبؤ بل و وأدها فى مهدها ان حدث ( لا قدر الله) و اكتملت الفكرة و استكملت شهور الحمل التسعة و تم ولادة الوليد فى أذهان المواطنين. لما فشلت كل هذه الجيوش المجيشة فى القيام بمهتها , لم يعد يدور فى خلد الرئيس المخلوع الا فكرة الخروج الآمن. و جهل أو تجاهل عبارة الهرمزان الفارسى لما جاز فى شوارع المدينة بحثا عن عمر بن الخطاب امبراطور هذه الامبراطورية الفتية التى قلبت عروش ملوك الارض فى المشرق و المغرب و الشمال و الجنوب رأسا على عقب بين عشية و ضحاها . لما جاء الهرمزان الامبراطور الذى كان يبحث عنه و و جده نائما تحت ظل شجرة فى فناء داره المتواضعة بدون مدرعات أو مجنزرات أو قناصة أو حواجز تفتيش أو بوابات موصدة و لما رأى الامبراطور و قد اثر الحصير الذى افترشة على وجهه و قال ما تعرفون و يعرفه حتى الاطفال دون السابعة فى بلادنا ( حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر). جهل المخلوع مبارك أو استحب أن يتجاهل هذا المعنى و ظن أنه ما زال بذكائه السياسى و خبراته المتفردة أن يخرج بعد ما فعل خروجا امنا. هذا الخروج الامن لم يكن بالطبع من مأزق وقع فيه جراء ضربة جوية قام بها الرئيس المخلوع فى عمق الاراضى الفلسطينية المحتلة للقضاء على الكيان الاسرائيلى المغتصب فى تل أبيب كما كان يجب عليه أن يفعل. و لكن يا حسرة على العباد كان هذا الخروج الآمن الذى يحلم به الطيار البائس صاحب اول طلعة جوية فتحت لنا باب أو ان شئت أن تتحرى الدقة فقل كل أبواب الحرية هو الخروج من داخل قصر عرشه فى وسط قاهرة المعز لدين الله. و كان العدو المتربص به ليس قناصة الكيان الصهيونى المغتصب كما كان يفترض أن يكون , بل كان العدو الذى يخشاه الطيار البائس هو 70 مليون مصرى من المدنيين الحفاة العراة الجوعى بعد ثلاثين عاما من السرقة و النهب و الفساد و الاستبداد و القهر و الاستعباد للشعب الذى كان شياطين الطيار البائس دائما ما يحرصون على أن يظهروه فى صورة من يسبح بحمد مبارك قبل حمد الله و لا أدل على ذلك من ( بالروح بالدم نفديك يا مبارك) و استمر الطيار البائس فى سماع و ترديد هذه الترهات حتى صدقها و هذه نظرية مشهورة يؤمن بها بعض العلماء و الاطباء النفسيين تذكرنا بموقف درامى عبثى يعرفه الكثير منا و هو موقف الفنان الراحل عبد المنعم مدبولى فى فيلمه الشهير الذى كان يقوم بدور الدكتور خشبة أخصائى الامراض النفسية و العصبيه عندما جاءه رجل قصير و القصر بالنسبة له كانت مشكلة تؤرق حياته و تنغص عيشه , و طلب من الدكتور خشبة أن يعالجه من هذه العقدة المعقدة و المشكلة العويصة. فما كان من الدكتور خشبة الا عالجه بالطريقة التى نتذكرها جميعا و هى أن يردد ( انا مش قصير قزعة , أنا طويل و أهبل) فى غدواته و روحاته ما استطاع الى ذلك سبيلا. و أكد له الدكتور خشبة أنه بترديده لهذه الكذبة الحمقاء سوف يصدقها و ينسى تماما أنه رجل قصير و يتخلص من مشكلته. و بالفعل فقد صدق طيارنا البائس و ملكنا المعثر هذه الكذبة حتى صدقها تماما كما فعل نظيره القذافى فى ليبيا و غيرهما من ملوك و سلاطين الدول العربية. المهم بعدما بذل مبارك و أعوانه فى الداخل و الخارج غايه الجهد فى فكرة جيدة لهذا الخروج الآمن. و بعد أن أدرك أن دولته قد دالت و أنه يلفظ أنفاس ملكه ألاخيره . ما كان منه الا أن يوكل الحكم ل (أحسن الوحشين) و أخلص خدامه المشير و رجاله. فمنهم خرج , و على أكتافهم استوى على عرشه و لولا سهر ابنائهم من الحرس الجمهورى لحمايته لما نام قرير العين مدة ال30 عاما العجاف التى حكم و تحكم فيها فى المصريين. و ما كان ليختم حياته بكفره بأوامر البيت العالى فى واشنطن فيحبط بكفره عمله و يكون بذلك من الخاسرين و يترك للدستور المصرى المرقع المهلهل البالى من كثرة عبث مبارك به و محاولته الدؤوبة فى لى عنقه أن يحترمه و يعمل به و لو لمرة واحدة و اخيرة و هى أن يكل الامر لرئيس المحكمة الدستورية العليا كما ينص على ذلك الدستور. اذ كيف يأمن جانب رئيس المحكمة الدستورية و من خلفه قضاة مصر الاحرار الذى ما أعلنوا مرارا و تكرارا تمردهم عليه و عصيانهم لظلمه و بطشه و الذى لم يدخر هو كذلك جهدا فى التنكيل بمخلصيهم و نفى مبصريهم و اقصاء مفكريهم حتى يكسر شوكتهم و يستأصل شأفتهم و فشل فى ذلك فشلا لا يخفى على صاحب نظر فى هذا البلد. و كان منطق مبارك فى ذلك ( ما لا يدرك كله. لا يترك كله) و عصفور فى اليد خير من 70 مليون نسر متربصين على الشجرة. و قد كان المشير هو اكبر ضمان لحماية مبارك فى الداخل و تامين الخروج الامن له و مصالح أصحاب الباب العالى فى تل أبيب و واشنطن. و باضت الحمامة ( أو ان شئت قل الحية ) للمشير فى القفص و أصبح على حين غرة حاكما فعليا لمصر و أدرك المشير أنه بقدر ما أنعمت عليه الحية ببيضها له فى القفص أنها وضعته بين مطرقة الشعب الثائر و سندان الامريكان و الصهاينة و أنه محال أنه يجتمع فى قلبه ايمان و كفر. فان أرضى الشعب فقد أسخط أسياده و ربما يخسر ما ادخره من المال الذى جمعه كغيره من رجال مبارك فى بنوك أمريكا. و ان اسخط الشعب فلا أقل من أن يلقى مصير استاذه و سيده الذى يعتقد اعتقادا جازما أنه كان أوفر منه حظا فى الفطنة و الحنكة و الدهاء. و لكنه شاء أم أبى قد جلس أو أجلس على عرش لم يكن ليحلم يوما من الايام ان يتحسسه حتى بيده. بل كل مناه و غاية مبتغاه أن يلمعه و ينفض عنه التراب ليجلس عليه سيده. و للحديث بقية