(الثورة العربية رؤية شرعية)
بقلم د. حاكم المطيري
8/3/2011م
بدأت الأنظمة العربية اليوم بالاستنفار بعد الذهول الذي أصابها منذ سقوط شؤمهم الرئيس التونسي، ثم سقوط طاغيتهم حسني، وبدأوا التخطيط لمواجهة هذه الثورات التي تعصف بالمنطقة، وقد بدأت حربهم الإعلامية التي يقودها شيوخ دين مفتونون، وكتاب مأجورون، يحذرون من الفتنة والدماء، ويثيرون الشك في الثورات التي جرت، وأنها من ترتيب الماسونية، ووراءها أمريكا، وكأن الماسونية وأمريكا في حاجة إلى من هو أكثر إخلاصا من الرؤساء والأمراء العرب الحاليين لتنفيذ مخططاتهم!
إن هذه الثورات هي ثورات ضد الظلم والطغيان والفساد، ولله فيها أحكام كونية قدرية، وأخرى خبرية، وثالثة شرعية تكليفية، ومن أدركها وفقهها ازداد يقينا بعد هداية، واستبصر بعد عماية، واستهدى بعد غواية، ومن ذلك:
1- الأحكام الكونية القدرية :
فقد أخبر الله جل جلاله بأن له سننا في الخلق لا تتخلف، ومنها :
1- الانتقام من المجرمين، وقطع دابر الظالمين، كما قال تعالى {إنا من المجرمين منتقمون}، وقال سبحانه {فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين}، فمن أسباب استحقاق الله جل جلاله لكل المحامد هو كونه رب العالمين الذي يقطع دابر الظالمين، وينتقم من المجرمين، لأنه رب العالمين الرحمن الرحيم!
ولا يشك من له أدنى معرفة بأحوال الأنظمة العربية اليوم، أنها من أشد الأنظمة ظلما وطغيانا وإجراما بحق شعوبها، فقد وقع في سجونهم من الجرائم ما لا يتصوره عقل، وتواتر هذا عن الأمن المصري والتونسي والليبي وفي كل بلد عربي، ما لا يستطيع معه أحد أن ينفيه، وبلغ بهم الإجرام أن يرمى الإنسان من أعلى الأدوار حتى يموت، وأن يصعق بالكهرباء حتى يحترق، ويمشط بأمشاط الحديد حتى يتقطع، ويدفن حيا، ويهتك عرضه، وتغصب أمامه زوجته وأخته وأمه..الخ
وهذا من الظلم والطغيان الذي لا يرضى الله عنه، بل ينتقم ممن فعله، ويقطع دابره، ولهذا لا يدع الله لهؤلاء الطغاة باقية، بل يستقصيهم ويحصيهم، وهذا ظاهر للعيان فيما يجري لهؤلاء، وربما أمهلهم الله إلى أجل ليأخذهم أخذ عزيز مقتدر، كما في الحديث الصحيح (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)!
فكل من يتابع أخبار ما جرى للرئيس التونسي ثم المصري ثم الليبي، يعجب كل العجب كيف أعمى الله بصائرهم عن اتخاذ الرأي السديد قبل انفلات الأوضاع، وكيف أنه كانت أمامهم فرص للنجاة فيما يتوقع المراقبون، ويظنه المتابعون، فإذا الله يطمس على قلوبهم، ويمكر بهم {ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين}، فيمضون إلى قدر الله الذي لا يحابي أحدا، ولا يتخلف أبدا، {فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين}!
2- نصر المظلومين، ونصر من بغي عليهم ظلما وعدوانا، فقد وعد الله بنصرهم جميعا، كما قال تعالى {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا}، وكما قال تعالى {من بغي عليه لينصرنه الله}، وفي الحديث القدسي (يقول الله للمظلوم وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين)!
وهذا ظاهر في هذه الأحداث الجارية فإن الله أظهر فيها نصره للمظلومين نصرا لم يتوقعوه، ولم يظنوه، ولم يخطر على بالهم، حتى بكوا من شدة الفرح، كما بكوا قبل ذلك من شدة الحزن!
فتجلى عدل الله في الدنيا، كما سيتجلى عدله يوم القيامة كما قال سبحانه {ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون. إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار}!
3- توريث المستضعفين الأرض، وجعل الدولة والعاقبة لهم، وهي سنة من سنن الله في الخلق، فقد جعل الله الأيام بين الناس دولا {وتلك الأيام نداولها بين الناس} لتتجلى قدرته وعزته، وأنه وحده مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ولهذا يرى الخلق جميعا كيف يعلي الله شأن المستضعفين، ويديل الدولة لهم، وكيف يذل الملوك والمستكبرين، وينزع ملكهم {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين. ونمكن لهم في الأرض}!
وقد شاهد العالم كله كيف أورث الله كثيرا من المستضعفين ملك بلدانهم، كما جرى لمانديلا في جنوب أفريقيا، وفاليسيا زعيم حركة التضامن في بولندا، والخميني في إيران..الخ
فأخرجهم الله من السجون إلى العروش، ومن حال الاستضعاف إلى الاستخلاف في الأرض، لا فرق في هذه السنن بين مسلم وغير مسلم!
4- تدمير المترفين، وإهلاك المفسدين، وقصم الملأ المستكبرين، كما قال تعالى {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا}...
فهذه سنة كونية قدرية يراها الناس في كل عصر ومصر، فكم قصم الله من الملأ المترفين، وكم دمر من المستكبرين، حتى أصبحوا أحاديث، ومزقهم الله شر ممزق، وجعلهم آية لمن خلفهم، كما قال تعالى لفرعون حين غرقه {الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين. فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون}، فالله جل جلاله لا يرضى الفساد في الأرض {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها}، ولا يصلح عمل المفسدين {إن الله لا يصلح عمل المفسدين}!
وقد أفسد هؤلاء الطغاة في مصر وتونس وليبيا وغيرها من البلدان العربية فسادا عظيما ضجت منه الأرض، وسخطت عليهم السماء، فتجاوزوا الفساد الأخلاقي، إلى فساد سياسي ومالي وإداري، حتى صارت أموال الشعوب نهبا لهم ولزوجاتهم وأبنائهم، بينما يموت الفقراء في بلدانهم جوعا وفقرا!
5- حدوث التغيير عند وجود أسبابه، فإن الله جعل لكل شيء أسبابه التي يوجد بوجودها، ويتخلف بتخلفها، ومن ذلك أن التغيير في المجتمع لا يحدث إلا حين يتغير الناس {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}، فلما غير أهل تونس وأهل مصر وليبيا أنفسهم، وتحرروا من الخوف من الطاغوت، وخرجوا عليه، وكفروا به، وتصدوا له، جعل الله العاقبة لهم، وغير أحوالهم، بعد عقود من الركود، وسنين من الجمود!
فهذه بعض سنن الله الجارية على الخلق جميعا، وهي سنن كونية لا فرق فيها بين مسلم وغير مسلم، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية (إن الله ينصر الدولة الكافرة العادلة، ويخذل الدولة المسلمة الظالمة)!
الأحكام الخبرية :
فقد تواترت الأخبار النبوية عن الأحوال المستقبلية للأمة، وأنها تتعرض بعد النبوة والخلافة الراشدة وخلافة الرحمة، إلى ملك عضوض، ثم ملك جبري، ثم حكم الطواغيت، ثم تعود خلافة على نهج النبوة!
1ـ عن حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (تكون النبوة فيكم، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم تكون ملكا عاضا، ثم تكون ملكا جبرية، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة).([1])
2ـ عن أبي عبيدة بن الجراح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أول دينكم نبوة ورحمة، ثم ملك ورحمة، ثم ملك أعفر، ثم ملك وجبروت، يستحل فيها الخمر والحرير)!
وفي رواية (إن أول دينكم بدأ نبوة ورحمة، ثم تكون خلافة ورحمة، ثم يكون ملكا وجبرية يستحل فيها الدم)!
وفي رواية (أول هذه الأمة نبوة ورحمة، ثم خلافة ورحمة، ثم ملكا عضوضا، ثم تصير جبرية وعبثا)!
وفي رواية (أول هذه الأمة نبوة ورحمة، ثم خلافة ورحمة، ثم ملكا عضوضا، وفيه رحمة، ثم جبر وتتضرب فيها الرقاب، وتقطع فيها الأيدي والأرجل، وتؤخذ فيها الأموال)!([2])
3ـ عن أبي ثعلبة الخشني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال(إن دينكم نبوة ورحمة، ثم خلافة ورحمة، ثم ملكا وجبرية، ثم ملكا عضوضا يستحل فيه الحر والحرير)!([3])
4ـ عن معاذ بن جبل وأبي عبيدة بن الجراح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال(إنه بدأ هذا الأمر نبوة ورحمة، ثم كائن خلافة ورحمة، ثم كائن ملكا عضوضا، ثم كائن عتوا وجبرية وفسادا في الأمة، يستحلون الحرير والخمور والفروج والفساد في الأرض)!([4])
5ـ وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال(إنها ستكون ملوك ثم جبابرة ثم الطواغيت)!([5])
6ـ وفي الحديث (لا يلبث الجور بعدي إلا قليلا حتى يطلع، فكلما طلع من الجور شيء ذهب من العدل مثله، حتى يولد في الجور من لا يعرف غيره، ثم يأتي الله تبارك وتعالى بالعدل، فكلما جاء من العدل شيء ذهب من الجور مثله، حتى يولد في العدل من لا يعرف غيره)!([6])
فهذه الأحاديث وغيرها تؤكد أن الانحراف سيصل بالأمة إلى حد أن يحكمها الطاغوت، بل الطواغيت، فتسفك على أيديهم الدماء، وتهتك الأعراض، وتستباح المحرمات والموبقات، ولم يحدث في تاريخ الأمة أن عمت هذه الظاهرة كما في هذا العصر!
كما تؤكد الأخبار أن هذا كله سيتغير، وستعود الأمة إلى العدل والإصلاح، والحديث الأخير يؤكد أنه كما بدأ الجور يحل شيئا فشيئا محل العدل، فإن العدل سيعود أيضا شيئا فشيئا محل الظلم والجور، حتى يولد في الإسلام من لا يعرف إلا العدل!
فقد انتهى عصر الملك الجبري، وانتهى عصر الطاغوت، وستبدأ الأمة تشق طريقها نحو تحقيق العدل والإصلاح، وستصيب تارة، وتخطئ تارة، حتى تبلغ درجة الرشد، ثم تعود كما أراد الله لها أمة واحدة وخلافة راشدة من جديد!