قبل عشرين عاما وأثناء جلوسي وأصدقائي على المصطبة في قريتنا " لاشغلة ولا مشغلة " حضر بعض الموظفين من الوحدة المحلية ومعهم " صفيحة " قديمة بها بوية زرقاء وفي يد كل منهم فرشاة وكتبوا على باب منزلنا 27/6 ولما سألتهم عما كتبوه على منزلنا بدون اذن أجابوني بكل فخر : أن هذا " تبع الإحصاء " حاولت أن أفهم منهم اكثر فلم يستطيعوا شرح أي شيئ وعلى ما يبدوا أنهم كانوا مثلي لا يعلمون ، ورغم مرور عشرين عاما على ما كتبوه على بابنا ورغم محاولتي استعمال كل أساليب التباديل والتوافيق ووضع كل الإحتمالات لما يمثله البسط أو المقام من أمثلة : " عدد أفراد الأسرة على عدد الأسر في الشارع " " عدد البيوت في الشارع على عدد أفراد الأسرة " " عدد الشوارع في القرية على رقم الشارع " " عدد المنازل في الشارع على عدد الشوارع " كلها لم تفلح وحتي الآن اتمني أن اجد اولئك الموظفين حتي أعرف ما يمثله بالنسبة لمنزلنا رقم 27/6 .
مسألة الإحصاءات في مصر من الناحية التنظيمية الإدارية مسئولية الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء وبمراجعة الموقع الإلكتروني للجهاز و الكتب الدورية التي ينشرها بين الحين والآخر ربما يعتقد المطالع لهذا وأولئك أن الجهاز يضطلع بوظيفة دقيقة جدا في رقابة الأداء العددي في مصر وحركة الافراد والأموال من منقولات وعقارات إلي آخر ما يقوم به الجهاز ، وكحال كثير من المصالح والهيئات والمؤسسات فإن رئيس الجهاز لواء وللحق لا أعرف ان كان لواء سابق في الجيش أو في الشرطة أو في الإحصاء !! ، وبالتدقيق في الإحصائيات التي نشرها الجهاز وما انفك ناشرا محصيا نجد أنها في الأغلب الأعم منها مستقاه ومنقولة من وزارات أخر وقليل من العمل يقوم به الجهاز بنفسه ، وتسهل مهمة الجهاز عندما يحصل على معلومات منقولة من أجهزة مميكنة كالمواليد والوفيات والطلاق والرجعة والمسافرون والعائدون إلي ومن الخارج ، وعدد الموظفين في كل مصلحة إلي آخر المعلومات التي لا تحتاج إلي أكثر من الضغط على لوحة المفاتيح لأجهزة حاسوب تلك المؤسسات ، أما المعلومات التي تحتاج إلي ابداء فنيات الإحصاء ومهاراته فربما كان الجهاز وكانت مصر عموما أبعد ما تكون عن دقة العمل فيها ، فالبطالة المقنعة مثلا تحتاج إلي معايير مختلفة عن احصاء سجلات التأمينات على العمال والموظفين وأصحاب المهن الحرة ، والسياحة الداخلية مثلا لا توجد بالنسبة لها سوي احصاءات مختلقة خالية تماما من فنيات رصد العمل السياحي الداخلي بمفهومه العلمي الدقيق ، أما التجارة الداخلية فحدث ولا حرج عن انعدام أي احصائية تتعلق بالإقتصاد الخفي Hidden Economy والذي تعتبر مصر في مقدمة الدول التي تعاني منه باعتبار أنها من أكبر دول العالم فسادا وهو الأمر الذي تقل معه القدرة على جباية الضرائب الحقيقية لا ضرائب تقفيل السنة المالية بأي وضع ، أما الزراعة والدخل الزراعي والمنتجات الزراعية و عدد المواشي وما تم تحصينه منها وما لم يتم وما تم التأمين عليه وما لم يتم فكلها ارقام جزافية لا تمثل بحال الواقع الفعلي ، ولعلي هنا أضرب مثلا في " الرفاهية " إن طالبت الجهاز بأن يرصد حركة الأدب والأدباء والشعر والشعراء والفنانين والكتاب ، ولكن ربما يحصل على عددهم من وزارة الثقافة التي التي تمحو في سجلاتها ما تشاء وتثبت من أسماء خارج دائرة الفكر والثقافة، ولن أتحدث هنا عن عدد لاعبي كرة القدم ولا السباحين ولا غير ذلك من ألوان الترف الفكري في نظر الكثيرين .
أعتقد أن القرارات التي يتم اتخاذها الآن في مصر على كل المستويات ينقصها الدعم المعلوماتي الدقيق ، فزيادة مرتبات الموظفين وتثبيت المؤقت منهم لم تدعمه معلومات عن كيفية الحصول على العقود المؤقتة قبل الثورة ، وعدد الخريجين من الدفع المناظرة لهؤلاء المعينين وهى معلومات احصائية كان من الواجب مراعاتها لإتخاذ مثل تلك القرارات الهامة لأنها تخل بمبدأ التعيين على أساس المسابقة ، ويبرز الخطأ هنا في الدعم المعلوماتي وليس في القرار الذي اجتهد مصدروه لرأب الصدع في الجدار الإجتماعي و درء مفسدة كبيرة بدخول تلك الأعداد دائرة البطالة .
إن دراسة ظاهرة الإقتصاد الخفي الذي لا يخضع للضرائب هى بالضرورة مهمة أساسية للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء و إن كان غير قادر على احصاء عدد المرضي في المستشفيات والمساحة المنزرعة " برسيما " ومدي الخسائر التي تسببها تربية المواشي في أرياف مصر والفرصة البديلة لزراعة الأرز ، ودراسات مقارنة لمصر وموقعها بالنسبة لعدد المطارات مع جنوب افريقيا أو تركيا ... فكيف إذن نطالبة برصد حالات ما خفي منها أكبر من الظاهر .... مثل هذه المهمات لابد من التفكير في صناعة كوادر قوية ومطلعة على التجارب الدولية بلغتها الأصلية ..... فارق كبير بين العمل الإحصائي السليم وبين كتابة 27/6 على أبواب البيوت .
محمود حشله
Mhashla@yahoo.com