http://www.kfrelshikh.com/news_Details.aspx?Kind=7&News_ID=15044
في الثاني من فبراير عام 1937 ألقي الرئيس الأمريكي المنتمي للحزب الديمقراطي فرانكلين روزفلت خطابه التاريخي عبر الراديو مهاجما المحكمة الدستورية العليا في الولايات المتحدة متهما سبعة من قضاتها أن سلفه الجمهوري هو من عينهم وبالتالي فإن ولاءهم الأيديولوجي منصرف نحو من عينهم ، وأنه قد حصل على عشرة ملايين صوت لإعادة إنتخابه ثم قال متهكما ساخرا من المحكمة ومن قضاتها " كيف يمكن للعدالة أن تعيق قوانين تبناها الكونجرس والرئيس بهذه الأغلبية الساحقة " ، وكانت الأزمة العالمية عام 1929 قد نتج عنها كساد ضخم في الولايات الأمريكية مما حدا بالرئيس الي اصدار مجموعة من القوانين عبر الكونجرس ذي الأغلبية الديمقراطية أيضا فيما عرف بتشريعات " نيو ديل " لمواجهة الكساد والتي بسببها حدث استقطاب سياسي واقتصادي كبير في الولايات المتحدة أدي الي انقسام المجتمع الأمريكي الي ليبراليين مؤيدين لتلك التشريعات ومحافظين معارضين لها وأغلبهم من الجمهوريين الأثرياء الذين رأوا تلك القوانين تستهدف أعمالهم .
من خلال الحكم بعدم دستورية كل ما يعرض عليها من تلك القوانين استطاعت المحكمة العليا الأمريكية أن تشل حركة الرئيس نحو الخروج بالبلاد من حالة الكساد ، فلم يك بد من المواجهة بين الرئيس والمحكمة ووجد الرئيس ضالته في كون ستة من أعضاء المحكمة التسعة يتجاوز سنهم السبعين فأحال قانونا الي الكونجرس يعيد تشكيل المحكمة بحيث يسمح لرئيس الدولة تعيين قاض جديد في المحكمة مع كل قاض تجاوز السبعين وبحد أقصى ستة قضاه وهو ما كان يعطيه الفرصة ليحوز أنصاره الأغلبية في المحكمة ...وفي هذه الأثناء كانت مجموعة من القوانين تخص تلك " النيو ديل " تعرض على المحكمة .
في محاولة منه للحفاظ على ماء وجه المحكمة وهيبة شاربه ولحيته اللذان مشطهما بطريقة تشبه " شرابة كوزالذرة " أصدر تشارلز هيج رئيس المحكمة بيانا نفي فيه تماما ما نسبه روزفلت الي المحكمة ، وفي الكواليس بدء جهودا كبيرة لعقد صفقة يتجنب بها ملاحقة الرئيس روزفلت للمحكمة المتواطئة التي تهدد أمن البلاد القومي بافشالها السياسة الإقتصادية لأسباب تحكمية ، فغير أحد القضاة الجمهوريين رأيه بشأن قانون يضع حدا أقصي للأجور بما يجعل القانون دستوريا بعد أن قررت الأغلبية الحكم بعدم دستوريته ، وعدل أيضا رئيس المحكمة تشارلزهيج عن رأيه بشأن قانون الضمان الإجتماعي بما يسمح ايضا بتمريره وكذا قانون علاقات العمل ، وبسبب إصدار مجموعة القوانين تلك قدم أشد القضاة تحفظا في المحكمة " فان ديفانتر" استقالته فحل محله أحد الديمقراطيين .
وازاء تلك التغييرات في وجهات النظر وفي الأشخاص وجد الرئيس والكونجرس أن القانون المقترح من الرئيس بشأن إضافة قاض لكل قاض سبعيني العمرلم تعد ثمة حاجة إليه بعد التخلص من تلك الشرذمة الجمهورية التي حاولت من خلال المحكمة حماية رجال الأعمال ولو من خلال تدمير الإقتصاد الوطني ...
لم يكن روزفلت يعلم المثل المصري " يا فرعون ايه فرعنك .. قال ما لقيتش حد يردني " عندما بدأ حملته لردع المحكمة العليا ولكن من وضع الدستور الأمريكي كان يعلم قول جان جاك روسو " السلطة تحد السلطة " ورغم كل الإحتياطات التي تضمنها الدستور الأمريكي حتي لا تشطط سلطة على حساب الوطن فقد بدت تلك الثغرة التي تمثل سبة في جبين القضاء الأمريكي بسبب احساس القضاة في المحكمة أنهم يقضون فلا راد لقضائهم و يحكمون فلا معقب لحكمهم ، وبالتأكيد فإن تلك الزلة قد علمنا بها بسبب الشفافية التي تميز الدول الديمقراطية .
والحقيقة أنه في كل محكمة " عليا " تحكم فلا معقب لحكمها - سواء في الدول المتقدمة أو الفاسدة- يتسلل الشياطين إلي القضاة ليردوهم وليلبسوا عليهم فهمهم الصحيح لمعني العدالة ، وكثيرا ما تحمل معها شياطين الإنس من المغريات ما يضعف همة الإنصاف من النساء وقناطير الذهب والحرث ، وفي النظم القمعية يكون الأمر أيسر بالنسبة لأعداء العدالة حيث يقوم الحكام بتعيين القضاة في المحاكم العليا بغير ضمانات فترشح المخابرات أعوانها للحاكم فيقوم بدوره بتعيينهم على رأس المحاكم العليا و تخشع الأصوات المعترضة على تعيينهم فلا تسمع الا همسا فعصا الأمن غليظة والقانون يجرم التعرض لأحكامهم بالنقد والحصانة تقيهم كل مكروه ثم من بعد يظهر تفخيم الكساء وتعظيم الرواء خادعين للعامة فيظنون أن هؤلاء من أصحاب الفخامة عدول أكفاء وتبقي المجادلات الفقهية والخلافات القانونية بزعم أن خلافهم رحمة ملجأ لكل رأي مرجوح وكما يقول الناس في قريتي " مفيش لسان يغلب لسان " .
في الدول المتقدمة قضائيا يندر أن توجه محكمة إلي أحد تهمة إهانة المحكمة لأن المحكمة بحيدتها وتجردها ونزاتها تجبر الجميع على احترامها ، أما في الدول الفاسدة فحدث ولا حرج في كل مناسبة - يعرض الحديث فيها عن القضاة - عن تهمة إهانة المحكمة وإهانة القضاء ثم حدث ولا حرج عن عدد المرات التي احتمي فيها القضاة بحصانتهم القضائية للمنع من المساءلة الجنائية عن جرائم تحتاج بالأخص في كشفها إلي مراقبة الهواتف أو الامر بالتفيش حيث يستحيل اصدار تلك الأوامر إلا بصعوبة بالغة وبعد أن تفقد قيمتها بابلاغ القاضي المتهم بالموضوع أوله وآخره ، في الدولة المتقدمة لا يتحدثون عن قضاء شامخ بل هو قضاء ويكفي قول قضاء دون خلع أوصاف مقدسة على بشر ممن خلق الله ، أما في الدول الفاسدة فتسمع عبارات سيادته وقداسته وحضرته و حاش لله و لا سمح الله ولا قدر الله .. إلخ ، في الدول المتقدمة عندما يحاول القضاة هدم مؤسسات الدولة تخرج الشعوب لتعيد مؤسساتها طوعا أو كرها ويخرج الرئيس روزفلت ليعلن للشعب أن القضاء فاسد وتجب مواجهته مهما كلف الأمر ، أما في الدول الفاسدة فمصطلحات الهيبة والحصانة والوقار والجلال والإحترام والشموخ والعزة والكرامة تظهر جميعا فجأة في كل وقت يخشي القائمون علي العدل حتي مجرد المناقشة الموضوعية فيما قضوا به من أحكام .