سياسة نبوية
21-أراد أن يصالح يهود غطفان على ثلث ثمار المدينة لعام كامل على أن لا يدخلوا طرفا في صراعه مع قريش. وهذا يدل على جواز شراء مواقف الأطراف السياسية لصالح كسب المعركة الحقة والعادلة.
السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث - (3 / 332)
سياسة النبي صلى الله عليه وسلم في المفاوضات مع غطفان:
ظهرت حنكته صلى الله عليه وسلم وحسن سياسته حين اختار قبيلة غطفان بالذات لمصالحتها على مال يدفعه إليها على أن تترك محاربته وترجع إلى بلادها، فهو يعلم صلى الله عليه وسلم أن غطفان وقادتها ليس لهم من وراء الاشتراك في هذا الغزو أي هدف سياسي يريدون تحقيقه، أو باعث عقائدي يقاتلون تحت رايته، وإنما كان هدفهم الأول والأخير من الاشتراك في هذا الغزو الكبير هو الحصول على المال بالاستيلاء عليه من خيرات المدينة عند احتلالها؛ ولهذا لم يحاول الرسول صلى الله عليه وسلم الاتصال بقيادة الأحزاب من اليهود (كحيي بن أخطب، وكنانة بن الربيع) أو قادة قريش كأبي سفيان بن حرب، لأن هدف أولئك الرئيسي، لم يكن المال، وإنما كان هدفهم هدفًا سياسيًّا وعقائديًّا يتوقف تحقيقه والوصول إليه على هدم الكيان الإسلامي من الأساس؛ لذا فقد كان اتصاله (فقط) بقادة غطفان، الذين (فعلاً) لم يترددوا في قبول العرض الذي عرضه عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقد استجاب القائدان الغطفانيان (عيينة بن حصن، والحارث بن عوف) لطلب النبي صلى الله عليه وسلم وحضرا مع بعض أعوانهما إلى مقر قيادة النبي صلى الله عليه وسلم واجتمعا به وراء الخندق مستخفين دون أن يعلم بهما أحد، وشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مفاوضتهم، وكانت تدور حول عرض تقدم به رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو فيه إلى عقد صلح منفرد بينه وبين غطفان، وأهم البنود التي جاءت في هذه الاتفاقية المقترحة:
أ- عقد صلح منفرد بين المسلمين وغطفان الموجودة ضمن جيوش الأحزاب.
ب- توادع غطفان المسلمين وتتوقف عن القيام بأي عمل حربي ضدهم (وخاصة في هذه الفترة).
ج- تفك غطفان الحصار عن المدينة وتنسحب بجيوشها عائدة إلى بلادها.
د- يدفع المسلمون لغطفان (مقابل ذلك) ثلث ثمار المدينة كلها من مختلف الأنواع، ويظهر أن ذلك لسنة واحدة، فقد ذكر الواقدي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقائدي غطفان: «أرأيت إن جعلت لكم ثلث تمر المدينة ترجعان بمن معكم وتخذلان بين الأعراب؟» قالا: تعطينا نصف تمر المدينة، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزيدهما على الثلث، فرضيا بذلك، وجاءا في عشرة من قومهما حين تقارب الأمر.
ويعني قبول قائدي غطفان ما عرضه عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوجهة العسكرية، وضوح الهدف الذي خرجت غطفان من أجله، وهو الوقود الذي يشعل نفوس هؤلاء ويحركها في جبهة القتال، ولا شك في أن اختفاء هذا الدافع يعني أن المحارب فقد ثلثي قدرته على القتال، وبذلك تضعف عنده الروح المعنوية التي تدفعه إلى الاستبسال في مواجهة خصمه؛ وبذلك استطاع صلى الله عليه وسلم أن يفتت ويضعف من قوة جبهة الأحزاب فقد أبرز صلى الله عليه وسلم في هذه المفاوضات جانبًا من جوانب منهج النبوة في التحرك لفك الأزمات عند استحكامها وتأزمها، لتكون لأجيال المجتمع المسلم درسًا تربويًّا من دروس التربية المنهجية عند اشتداد البلاء ، وقبل عقد الصلح مع غطفان شاور رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة في هذا الامر، فكان رأيهم في عدم إعطاء غطفان شيئًا من ثمار المدينة وقال السعدان -سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة-: يا رسول الله أمرًا تحبه، فنصنعه، أم شيئًا أمرك الله به لا بد لنا من العمل به، أم شيئا تصنعه لنا؟ فقال: «بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما» فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا وهؤلاء على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة إلا قرى أو بيعًا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا؟ ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف، حتى يحكم الله بيننا وبينهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنت وذاك».
فتناول سعد بن معاذ الصحيفة، فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال: ليجهدوا علينا. كان رد زعيمي الأنصار سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة في غاية الاستسلام لله تعالى والأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم وطاعته، فقد جعلوا أمر المفاوضة مع غطفان ثلاثة أقسام:
الأول: أن يكون هذا الأمر من عند الله تعالى فلا مجال لإبداء الرأي بل لا بد من التسليم والرضا.
والثاني: أن يكون شيئًا يحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، باعتباره رأيه الخاص، فرأيه مقدم وله الطاعة في ذلك.
الثالث: أن يكون شيئًا عمله الرسول صلى الله عليه وسلم لمصلحة المسلمين من باب الإرفاق بهم، فهذا هو الذي يكون مجالا للرأي.
ولما تبين للسعدين من جواب الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أراد القسم الثالث، أجاب سعد بن معاذ بجواب قوي كبت به زعيمي غطفان حيث بين أن الأنصار لم يذلوا لأولئك المعتدين في الجاهلية، فكيف وقد أعزهم الله تعالى بالإسلام، وقد أعجب النبي صلى الله عليه وسلم بجواب سعد، وتبين له منه ارتفاع معنوية الأنصار واحتفاظهم بالروح المعنوية العالية، فألغى بذلك ما بدأ به من الصلح مع غطفان .
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «إني قد علمت أن العرب قد رمتكم عن قوس واحدة» دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستهدف من عمله ألا يجتمع الأعداء عليه صفًّا واحدًا، وهذا يرشد المسلمين إلى عدة أمور منها:
* أن يحاول المسلمون التفتيش عن ثغرات القوى المعادية.
* أن يكون الهدف الاستراتيجي للقيادة المسلمة تحييد من تستطيع تحييده، ولا تنسى القيادة الفتوى والشورى والمصلحة الآنية والمستقبلية للإسلام وفي استشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم للصحابة يبين لنا أسلوبه في القيادة، وحرصه على فرض الشورى في كل أمر عسكري يتصل بالجماعة، فالأمر شورى ولا ينفرد به فرد حتى ولو كان هذا الفرد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما دام الأمر في دائرة الاجتهاد ولم ينزل به وحي. إن قبول الرسول صلى الله عليه وسلم رأي الصحابة في رفض هذا الصلح يدل على أن القائد الناجح هو الذي يربط بينه وبين جنده رباط الثقة، حيث يعرف قدرهم ويدركون قدره، ويحترم رأيهم ويحترمون رأيه، ومصالحة النبي صلى الله عليه وسلم مع قائدي غطفان تعد من باب السياسة الشرعية التي تراعي فيها المصالح والمفاسد حسب ما تراه القيادة الرشيدة للأمة.) أ.هـ
إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع - (13 / 51)
قال الراغب : وعلى هذا ما يتعلق بأمر الحرب ، مثل تهييجها تارة ، وتليينها أخرى ، والمن والافتداء تارة ، ولذلك لما هم صلّى الله عليه وسلّم بمصالحة عيينة بن حصن على ثلث ثمار المدينة ، قيل له : إن كان ذلك بوحي فسمعا وطاعة ، وإن
كان برأي رأيته فليس ذلك بصواب ، فترك رأيه لرأيهم ، فثبت أن ما يتعلق بالأمور الدنيوية ، فحال الرسول صلّى الله عليه وسلّم وغيره فيه ، سواء ، والمشاورة فيه مستحسنة له ولغيره.
قال المرسي : الأمور الممكنة على ضربين ، منها ما جعل الله - تعالى - فيه عادة مطردة تنخرم ، فهذا مما لا يستشار فيه ، بل من علم العادة كان أعلم ممن لا يعلمها.
والضرب الثاني : ما كانت العادة فيه أكثر ، ورأيه فيها أصوب ، ألا ترى أن من حاول التجارة علم وقت رخصها ، وغلائها ، وما يصلح ، فيستشار فيها لعلمه بالأكثر وقوعا من الصلاح فيها ، ولهذا ينبغي أن يستشار أرباب كل فن في فنهم ، الاستشارة لا تعدو هذا ، والله - تبارك وتعالى - أعلم.
قلت : صحيح ما أورده المرسيّ ، ومع صحته فلا يمنع كون مصالحة النبي صلّى الله عليه وسلّم عيينة أو همّه بمصالحته ، كان رأيا من عند نفسه ، بحسب ما رآه من مصلحة الناس ، وهو مأخوذ من المشورة ، فكأنه أشاد بهذا ، بل الحديث مصرح به فتأمله.
22- الإدارة في عصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم - (1 / 214)
وكانت «الخدعة» إحدى وسائل النبي صلّى اللّه عليه وسلم في حربه مع أعدائه فقال : «الحرب خدعة» ، وذكر ابن إسحاق (ت 151 هـ) أن الرسول صلّى اللّه عليه وسلم أذن للنفر الذين بعثهم لقتل ابن الأشرف (3 هـ) أن يقولوا ما يشاؤون من كلام يخدعون به ، وفي الخندق تحرك النبي صلّى اللّه عليه وسلم من هذا المفهوم «الحرب خدعة» وراوغ عيينة بن حصن ليعطيه ثلث ثمار المدينة على أن يعود هو وقومه عن حصار المدينة ، وربما كان المقصود الحقيقي للنبي صلّى اللّه عليه وسلم من مراوغة عيينة هو إحداث شرخ كبير في صفوف المشركين وتمزيق روابطهم ، وهو نموذج من نماذج السياسة الحكيمة التي أدار الرسول صلّى اللّه عليه وسلم بها الموقف ، وكذلك توجيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لنعيم بن مسعود الذي أسلم حديثا في أنه يخذل عن المسلمين في غزوة الخندق ، وهذا من قبيل السياسة الحكيمة التي أدار الرسول صلّى اللّه عليه وسلم بها الموقف التي يكون فيها الرأي أنفع من الشجاعة والمواجهة وتدخل تحت معنى «الحرب خدعة» ، يقول ابن العربي (ت 543 هـ) : «الخداع في الحرب يقع بالتعريض وبالكمين وفي الحديث والإشارة إلى استعمال الرأي في الحرب ، بل الاحتياج إليه أكثر من الشجاعة» .أ.هـ
من كتابي ( تفعيل الغطاء السياسي والخط الحركي )