موقف الإسلام من التجارب البشرية
هذا المقال | 12.11.12 | بقلم الأستاذ سيد قطب
الإسلام لا يحرم الانتفاع بالتجارب البشرية في كل مالا يمس أصلا من أصول الشريعة ، فلا حرج في الانتفاع بتجارب البشر في تحديد الحاجات الاجتماعية المتجددة وضبطها بوسائل البحث المتجددة ، ولا حرج في الانتفاع بتلك التجارب في وسائل تنفيذ المبادئ الإسلامية ، إن مبادئ الإسلام ثابتة لا تتغير ،أما تحقيق هذه المبادئ فمتجددة ، ومن ثم تملك الانتفاع بتجارب البشر في هذا المجال وذاك ، على ألا نصطدم سواء في تحديد الحاجات الاجتماعية وضبطها أو في وسائل تلبيتها وتحقيقها بمبدأ ثابت في الإسلام ، ولا باتجاه أساسي من اتجاهاته الخالدة.
ونضرب هنا بعض الأمثلة ... لإيضاح ما نعنيه هنا:
إن الإسلام مثلا يجعل العدل المطلق ، بكل معانيه ، في جميع مجالاته ، أصلا من أصول الحياة في المجتمع الإسلامي ، العدل في تسوية البشر جميعاً من ناحية النشأة ، والجنس والحقوق والواجبات ، والعدل في إقامة فرص الحياة والنمو والعلم والعمل والتفوق لجميع من يضمهم الوطن الإسلامي ، دون حاجز من جنس أو لون أو طبقة أو نسب أو نفوذ مالي أو كائناً ما كان من الحواجز ، والعدل في الحكم والتقاضي دون تأثير من مودة أو شنآن ، ودون تأثير بقيمة من القيم على اختلافها ، حتى الدينية منها...
هذا من ناحية المبدأ في ذاته ، فأما وسائل تحقيقه فهي غير محدودة في الشريعة ، وقد حدد الفقه الإسلامي بعض الوسائل التي رآها مناسبة للعصر الذي نشأ فيه ؛ وما تزال هذه الوسائل قابلة للتجدد حسب ظروف كل بيئة ،وحسب التجارب البشرية النافعة في هذا المجال . . ولنأخذ عدالة التقاضي مثلا ، فهل تراها تتحقق بأن تكون هناك محكمة واحدة أو بدرجات من المحاكم ؟ تراها تتحقق بأن يكون القاضي عاماً أو أن يتخصص القاضي وتتخصص المحكمة في نوع من القضايا ؟ تراها تتحقق بفصل السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية ، أو بأن يكون للقاضي أو لبعض أنواع القضاة ، أو لبعض أنواع المحاكم اختصاص تشريعي أو اختصاص تنفيذي . الخ . . هذا كله متروك للأصلح من تجارب البشرية ، وللآراء المتجددة حسبالظروف المتجددة ، في كل مكان وفي كل زمان.
وإن الإسلام مثلا يجعل الشورى أساساً من أسس الحكم في الدولة الإسلامية . . فأما كيف تتحقق الشورى على الوجه الأمثل فهذا ما لم ينص عليه ، ولقد وقعت في المجتمع الإسلامي على عهد الرسول وبعده في مسألة الخلاف وغيرها ألوان من الشورى ، ولكن هذا الذي وقعلا يحدد جميع وسائل الشورى ، بل إن ذلك متروك لما يجد من تطورات في جسم المجتمع الإسلامي ، وفي ظروفه ، ومتروك كذلك لما يبتكر من وسائل الشورى الناجحة حسب التجارب المتجددة ، فهل تتم الشورى على الوجه الأمثل بالتصويت العام – في كل الشؤون أم فيبعضها ؟ - أم تتم بتصويت أهل الحل والعقد من ممثلي الأمة الذين لا يختلف عليهم ؟ أم تتم بواسطة ممثلين للنقابات والجامعات والطوائف المختلفة ؟ وهل تتم بالتصويت الشفهي أم الكتابي ؟ وهل تتم بمسؤولية الوزراء أمام الحاكم الأعلى المنتخب أم بمسؤليته أمام الهيئة الممثلة للشعب ؟ وهل تتم بمجلس واحد أم بمجلسين ؟ . . الخ . . كل ذلك متروك لظروف كل أمة وزمانها ومكانها ، وللتجارب البشرية التي تحقق الشورى على الوجه الأمثل.
وهكذا قضايا كثيرة ، مما لم يرد فيه نص يحدد طريقة التنفيذ ووسيلة التطبيق ، مما يحقق المرونة الكاملة للنظام الإسلامي ، مع بقائه محكوماً بالشريعة التي تكيف بها نشأته ووجوده »([1])
________________________________________
([1] ) سيد قطب ، نحو مجتمع إسلامى صـ139-141
الكاتب:
الأستاذ سيد قطب